حياة التأمّل (1- طريق المبتدئين)

القديسة تريزا الإفيلية ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

تشبيه حياة التأمّل باستصلاح بستان
سأضطرّ إلى أن أعتمد مقارنةً ما، ولو أني أودّ الإقلاع عن المقارنات. يبدو لي الآن أني قرأت هذا التشبيه أو سمعته، لكنّ ذاكرتي ضعيفة فلا أدري أين كان ذلك وبأية مناسبة؛

إلاّ أنّ تذكّره يكفي حاجتي الآن.
يتوجّب على المبتدئ في حياة التأمّل أن يعيَ بأنه يباشر استصلاح بستان في أرضٍ جدباء يكثر فيها العشب الرديء، كي يتلذّذ الربّ. فالربّ، عزّ وجلّ، يقتلع الأعشاب الرديئة، وعليه أن يغرس مكانها نباتًا صالحًا. فلنعتبر أن هذا قد تمّ عندما تعزم نفس على ممارسة التأمّل وتشرع في انتهاج هذا السبيل، وعلينا أن نسعى بمعونة الله، كبساتنة ماهرين، لننمّي هذه النباتات ونعني بريّها لئلا يصيبها اليبس، بل أن تطلع زهرًا فوّاحَ العبير يُبهج ربَّنا، فيقصد غالبًا هذا البستان لينعم فيه، ويستريح بين هذه الفضائل.

 

طرائق ريّ البستان
فلننظر الآن كيف يمكن أن نَروي هذا البستان لندرك ما علينا أن نعمل والمشقّة التي يكلّفنا ذلك، وما إذا كانت أكبر من المكسب، والوقت الذي يجب تخصيصه بذلك.
يمكن أن يُروى البستان، في رأيي، بطرائق أربع:
1) فإما أن يُرفعَ الماء من بئر، وهذا يكلّفنا عناءً كبيرًا؛
2) وإما أن يُرفع بواسطة ناعورة ذات قواديس مركّبة على دائرة؛ وقد فعلت ذلك أحيانًا. وهذه الطريقة تكلّف عناءً أقل من تلك وتوفّر ماءً أكثر؛
3) وإما أن يُجرَّ الماء من نهرٍ أو جدولٍ فيُسقى البستان بشكلٍ أفضل، وتُروى الأرض وتُغدق، فتنتفي الحاجة إلى الإكثار من سقيها، ويخفّ كثيرًا عناءُ البستاني؛
4) وإما أن ينهمر المطر فيروى الربُّ البستان فلا تتكلّف أيَّ عناء. وهذه أفضل الطرائق المذكورة بما لا يقاس.

 

فائدة التشبيه
فلنطبّق الآن، إذًا، هذه الطرائق الأربع لريّ هذا البستان، فإنه من دون ريٍّ يبور. في رأيي أن التشبيه ملائم ويُساعد بعض المساعدة على إيضاح درجات التأمّل الأربع التي أوصلني إليها الربّ أحيانًا بجودته.

 

شرح الطريقة الأولى
يمكن القول إنّ الذين يبدأون بممارسة التأمّل هم أولئك الذين يرفعون الماء من البئر فيتكلّفون عناءً كبيرًا، كما قلت. إنهم يتعبون في جمع حواسهم التي اعتادت التشتّت؛ وفي ذلك جهدٌ جاهد. وعليهم أن يتعوّدوا اجتنابَ رؤيةِ شئٍ أو سماعه، وبالأحرى، عمله في ساعات التأمّل، بل أن يلزموا الوحدة والعزلة، ويفكّروا في حياتهم الماضية. وهذه الممارسة، وإن كانت فرضًا على الأوَّلين والآخرين جميعًا، فإن في التفكير فيها درجاتٍ متفاوتةً، كما سيرد الكلام. وإحدى صعوبات المبتدئين أنهم لا يعون إذا كان ندمهم على خطاياهم حقيقيًّا؛ وهو لكذلك لأنهم مصممون على خدمة الله خدمةُ نصوحًا. فعليهم أن يسعوا للتأمّل في حياة المسيح وإن كان ذلك يُتعب العقل.
هذا ما نستطيع نحن، تحقيقه، بنعمة الله طبعًا إذ بدونها، كما هو معروف، لا نستطيع أن نفكّر فكرًا صالحًا. هذا ما أدعوه الشروعَ برفع الماء من البئر. رضى الله أن يُوجد هذا الماء. وأقّله، أن لا جناح علينا إن لم يوجد لأننا نمضي لرفعه، ونبذل وسعنا لسقيِ الزهور. وقد يسمح الله، الكلّي الصلاح، عزّ وجلّ، لأسباب يعرفها، دون غيره، ولحسن الحظ من أجل فائدتنا الكبرى، أن يكون البئر جافًا؛ لكنّه، بجوده العميم، إذ يرانا نبذل طاقتنا كبستانّيين صالحين، يُغذّي الزهور من دون ماء وينمّي فينا الفضائل. وأقصد بالماء هنا الدموع، وإن لم تتوفّر، والمشاعر الرقيقة وعواطف التقوى الباطنية.

 

ما العمل وقت اليبوسة (الجفاف)؟
وما عساه يفعل في هذه الحال من لا يلاقي، بعد أيامٍ طويلة، سوى اليبوسة، والسأم، والامتعاض، والنفور، للإقبال على رفع الماء؟ فإن لم يعتبر أنّه يُرضى سيد البستان ويخدمه، ويهمّه أن لا يخسر جزاءَ خدماته وما يأمل من ثوابٍ لقاء عنائه بإنزال الدلو إلى البئر ثم رفعه فارغًا، لكان يترك كلّ شئ. وقد يحدث له أحيانًا كثيرةً أن يعجز، في عمله، عن رفع ذراعيه، أي أن يخطر في باله فكرٌ صالح؛ ومعروفٌ أنَّ رفعَ الماء من البئر يُفهم به إعمال العقل.
وأُعيد لقول، ماذا تُراه يفعل البستاني هنا؟
- إنه ليفرح، ويشعر بارتياح، ويعتبر نعمةٌ عظمى العملَ في بستان سيدٍ، كهذا السيّد، عظيم. وإذ يعرف أنه بعمله يسرُّ هذا السيد، وأن هدفه يجب أن يكون مرضاته لا مرضاةَ نفسه، فليسبحه تسبيحًا لأن السيّد جعله موضع ثقة، إذ رآه يُعني كلّ العناية بما وكله إليه مع أنه لم يدفع له أجرًا، وليساعده على حملِ صليبه مفكرًا أنه قضى حياته كلّها في الآلام، ولا يبحث عن الملكوت في هذه الدنيا، ولا يهملنَّ التأمّل أبدًا، بل فليزمعنَّ على ألا يدعَ المسيحَ يسقط تحت الصليب ولو دامت اليبوسةُ حياته كلها، فسيأتي زمنٌ ينال فيه جزاءَ أعماله كلِّها. لا يساورنه الخوف من ضياع تعبه، فإنه تخدم سيدًا صالحًا. لا يكترثنَّ لأفكار السوء، وليذكر أن الشيطان كان يصورها للقديس إيرونيموس في الصحراء.

 

ثمن المشقات وثوابها
لهذه المشقَّات ثمنها، وأعرفها لأني قاسيتها سنواتٍ عديدةً؛ فحين كنت أرفع قطرةَ ماءٍ من هذه البئر المباركة كنت أحسبها نعمةً من الله ساميةً، وأعلم أنّها مشقاتٌ بالغةُ الإرهاق يحتاج الإنسان معها، في رأيي، إلى شجاعةٍ تفوق ما يحتاجه من شجاعةٍ لمشقاتٍ أخرى في العالم. وقد تيقنتُ أن الله لا يتوانى عن إثابة من يكابدها، بسخاء، حتى في هذه الحياة. ولا مريةَ في أنَّ الربِّ في ساعةٍ واحدة متَّعني فيها بحضوره فيما بعد، عوَّض بها كلَّ كروبي المبِّرحة التي عانيتها طويلاً في المثابرة على التأمّل.
إنّي على ثقةٍ بأنَّ الربّ يُرسل، في البدءِ أحيانًا، وأحيانًا أخرى في آخر المطاف، هذه العذابات وتجارب أخرى كثيرة منوَّعةً ليمتحن محبّيه، ويرى إذا كانوا يستطيعون أن يشربوا كأسه ويساعدوه في حمل الصليب قبل أن يستودعهم كنوزًا ثمينةً. وفي اعتقادي أنه، عزّ وجلّ، يقودنا في هذا الطريق لخيرنا، حتى نعيَ حقيقةً تفاهة شأننا. فإن النعم اللاحقة هي من السموّ بحيث إنه تعالى يريدنا أن نرى بالاختبار بؤسنا قبل أن يولينا إيّاها، حتى لا يصيبنا ما أصاب لوسيفروس (الشيطان، والذي أصابه الكبرياء فسقط).

 

ابتهال
ما الذي تفعله، ربّي، ولا يكون لخير النفس الأسمى، تلك التي تعرف، أنت، أنها صارت ملكًا لك وتضع ذاتها طوعَ إرادتك لتتبعك حيث توجَّهتَ، حتى إلى الموت على الصليب، وهي مصمِّمة على مساعدتك في حمله، وعلى ألا تدعك تحمله وحدك؟

 

نزع الحسد
من رأى في نفسه هذا التصميم، فلا، لا داعيَ لديه للخوف. أيّها الروحانيون، لا داعي لأن تغتمٌّوا. إن الوصول إلى مقامٍ بالغٍ من السموّ حيث يكون الهمُّ معاشرةَ الله وحده ونبذَ التسليات الدنيوية، يعني تحقيق القسط الأكبر. فاحمدوا ذا الجلال وثقوا برأفته؛ فإنه ما خيَّب أحبَّاءه قط. أشيحوا بأنظاركم ولا تفكّروا لماذا يعطي ذاك التقوى في أيامٍ معدودة ولا يعطينيها في سنين عديدة. فلنثق بأنّ ذلك كلّه لخيرنا الأعظم. فليقدنا، عزّ وجلّ، حيث يحلو له، فإنما لسنا بعد ملكَ أنفسنا بل إنما نحن خاصته. حسبُنا منه أنه يحرّك فينا الرغبة للعمل في حراثة بستانه، وأن نكون بقربه، هو، صاحبِ البستان لأنه عن يقينٍ يكون معنا. وإذا أراد، هو، أن تنمو هذه النباتات والزهور لدى البغض بفضل ماءٍ يرفعونه من البئر، ولدى البعض الآخر من دون ماء، فما شأني، أنا، في ذلك؟
إفعلْ، ياربّ، ما شئت. لا تسمح بأن أُسئَ إليك. لا أُعدمنَّ الفضائل، هذا إذا كنتَ قد أعطيتني فضيلةً ما من جودك المحض. أريد أن أتألَّم لأنَّك، يا ربّ، تألَّمت. فلتَكمُل بي، في كل حال، مشيئتك. ولا تهب، رجوتُك يا ذا الجلال، مثل هذه النعمة الثمينة، نعمة حبِّك، لأناسٍ يخدمونك طمعًا بالتعزيات فحسب.

 

"لا تأبه للتعزيات"
يجب أن نلاحظ جيِّدًا، وأقول ذلك عن اختبار، أن النفس التي تبدأ مسيرتها صادقةّ العزم في طريق التأمّل هذا، ولا تعود تأبه كثيرًا للتعزيات أو لمشاعر الحزن، لأن الربَّ يغدق عليها اللذّات والرقَّة أو يمنعها عنها، إن هذه النفس اجتازت قسمًا كبيرًا من الطريق. فلا تخفْ من أن تعود القهقري وإن تعثَّرَت خطواتُها، لأنها بدأتْ تشيِّد البناء على أساسٍ متين. أجل، إنّ حبّ الله ليس قوامُه الدموع ولا هذه اللذّات أو الرقّة التي نتمنّاها عادةً وبها نتعزى، بل قوامه أن نخدم الله بالعدل، وثباتِ الجنان، والتواضع. وما عدا ذلك ليس ألاّ تكسبًّا لا عطاءً سخيًّا.

 

مشاعر الورع ليست ضرورية
إن نسوةً ضعيفاتٍ، مثلي، تُعوزهنّ الشجاعة، من المناسب، في رأيي، أن ينفحهنّ الله ببعض المسرَّات كما يفعل معي حاليًّا لأستطيع أن أتحمّل أتعابًا أراد، عزّ وجلّ، أن تُلقى عليّ، أما أن أرى رجالاً خدّام الله ذوي قدر وعلم وذكاء، يعلِّقون أهمِّية قُصوى على أنَّ الله لا يؤتيهم مشاعر الورع، فهذا ما يشقّ عليّ سماعُه. لاأقول بأن يرفضوها إذا منحهم إيّاها الله وألَّا يقدِّروها قدرًا رفيعًا، لأنه، عزّ وجلّ، يرى حينئذٍ أنّ هذا يناسبهم. أما إذا لم يُؤتوها، فلا يُتعبوا أنفسهم، وليفهموا بأنها ليست ضروريةً، وليظلّوا مسيطرين على أنفسهم، وإلاّ فليثقوا بأنهم يأتون خطأ؛ وقد خبرتُ ذلك ورأيتُه. وليثقوا أيضًا بأن ذلك نقصٌ وليس تصرفًا بحرية الروح، بل يُفصح عن ضعفهم لمجابهة الصعوبات.

 

نصائح لوقت الاضطراب
لا أقول هذا برسم المبتدئين بقدر ما أقوله برسم آخرين، وإن كنت أُشدِّد عليه كثيرًا لأنه ينبغي عليهم أن يستهلّوا مسيرتهم بهذه الحريّة وهذا العزم. كثيرون بدأوا منذ عهدٍ طويل ولمّا يصلوا بعد إلى الغاية. وأعتقد أن ذلك عائد في أكثره لكونهم لا يعتنقون الصليب منذ البدء، ويغتمّون إذ يتصوّرون أنهم لا يفعلون شيئًا. فإذا توقّف العقل عن العمل اعتراهم الهلع؛ ولعلّ الإرادة تكمُل عندئذٍ وتتقوّى. لكنّهم لا يفقهون.
علينا أن نقتنع بأن الربّ لا يعير اهتمامًا هذه الأشياء التي نعتبرها أخطاءً وليست بأخطاء. إنه عزّ وجلّ، يعرف بؤسنا وحقارةَ طبيعتنا أفضل مما نعرف؛ ويعرف أنّ هذه النفوس همُّها التفكير به وحبُّه على الدوام. وهذا العزم هو ما يريده الله. أما الغمّ الذي ننقاد إليه فلا يحصل منه إلاّ اضطراب النفس؛ فإذا كانت عاجزةً عن الاستفادة من التأمّل ساعةً، تكون كذلك عاجزةً في أربع ساعات. وفي أكثر الأحيان يتأتّى هذا الاضطراب من توعُّك صحّي؛ فخبرتي في هذا الموضوع واسعةٌ وأعرف أنَّها الحقيقة لأنّي تفحّصته بدقَّة وباحثت فيه معلِّمين روحانيين. إننا من البؤس بحيث إن نفسنا هذه السجينة المسكينة تشارك الجسد مصائبه؛ فتغيُّرات الأزمنة وتقلُّبات الأمزجة التي تطرأ على الجسد، غالبًا ما تجعل النفس عاجزةً، ولا ذنب لها في الأمر، عن فعل ما تريد، بل تسبِّب لها آلامًا منوّعةً. وكلّما حاولنا إكراهها في هذه الأحوال تفاقم الوضع واستمرَّ الداء. فينبغي اعتمادُ الفطنة ليُعرف متى يعود الداء لهذه الأسباب لا أن تُخنق النفسُ المسكينة. فليفهم هؤلاء أنهم مرضى، وليعتمدوا وقتًا آخرَ للتأمل؛ وكثيرًا ما قد يضطّرون لفعل ذلك عدَّة أيام. ليقضوا هذا المنفى كما يتيسَّر لهم. إنها لمحنةٌ رهيبةٌ أن تحبّ الله نفسٌ ترى ذاتها تعيش في هذا الشقاء وتعجز عن تحقيق ما تريد لأن لديها ضيفًا ثقيلَ الظلّ كهذا الجسد.

 

هدوء وتيقٌّظ
فأعود، إذًا، إلى مشورتي السابقة، ولا ضيرَ إذا كرّرتُ القول مرارًا. من المهمّ جدًّا أن لا يتضايق أحدٌ أو يغتمّ بسبب اليبُوسات الروحية، أو الاضطراب، أو تشتّت الأفكار. فإذا أراد أن ينعم بحريَّة الروح ولا يكون مكروبَ النفس دائمًا، فليبدأ بأن لا يرتاع من الصليب، فيرى كيف أنّ الربّ أيضًا يساعده على حمله، وأنّ الفرح يغمرُ قلبه، وأنّ الفائدة تحصل له في كلّ حال. فواضحٌ أنه، إن لم يكن في البئر ماء، فلا نستطيع أن نضعه نحن فيها. ومع هذا، يجب أن لا نكون غافلين، حتى إذا توفّر الماء في البئر أمكننا أن نرفعه، لأن الله يريد حينئذٍ، بهذه الوسيلة، أن يُضاعفَ فضائلنا.

 

بناء التأمّل على التواضع
هذا ما نستطيع عملّه. فمن ابتغى أن يتجاوز هذا الحد، ويرفعّ روحه ليشعر بلذائذ لا يُعطاها، فإنه، في رأيي، يخسر الحالتين، لأن هذا الأمر يفوق الطبيعة؛ وإذا ما تعطَّل العقل تصبحُ النفس قفرًا شديدَ اليباس. ولمّا كان هذا البناء كلُه قائمًا على التواضع، فبقدر ما نتقرّب إلى الله بقدر ذلك نتقدّم في هذه الفضيلة، وإلا فإن البناء كلّه ينهار. إن رغبتنا في الارتقاء إلى درجةٍ أعلى تبدو كنوعٍ من الكبرياء، لأن الله، ونحن من نحن، يغمرنا بفضله حين تقرِّبنا إليه.

 

فائدة التفكير
يجب أن لا يُفهم أنني أقصد بكلامي هذا أنْ لا نرفع فكرنا للتأمل بأمورِ السماء وآياتها، وبالله وحكمته العظيمة. فإن كنتُ ما فعلتُ هذا قطّ فلأنّ القدرةَ فاتتني، - كما أسلفتُ القول- وإن كان الربّ قد أنعم عليّ بفهم هذه الحقيقة، أي أن تفكيري في أمور الأرض، نظرًا إلى حقارتي الدنيئة، كان تجرؤًا، فكم بالحري تفكّري في أمور السماء! غير أنّ آخرين يستفيدون من هذا التأمّل، والمثقّفون خاصةً. فالعم كنزٌ ثمين، في رأيي، لهذه الرياضة إذا اقترن بالتواضع. وقد تبيّنت ذلك من عهدٍ قريب، لدى بعض المشهورين بعلمهم. فإنه شرعوا يسيرون في هذا الطريق حديثًا فحقّقوا تقدّمًا كبيرًا. وهذا ما يثير فيّ رغبةً ملحاحًا ليكون كثيرون منهم روحانيين، كما سأبِّين ذلك لاحقًا.

 

تعطيل العقل غباوة
إن قولي "بأن لا نرتفع ما لم يرفعنا الله" إنما هو لغةٌ روحية. ومن كان على شئٍ من الخبرة في الموضوع فهمني. وإذا لم يفهم كلامي، فإني أقرّ بعجزي عن الإيضاح.
في الحالة الصوفية التي شرعتُ في الحديث عنها، يتعطَّل عملُ العقل لأن الله يوقفه، كما سأشرح الأمر فيما بعد، إذا استطعت ووفر لي الله نعمة ذلك. وما أود قوله هو أن نمتنع عن الادعاء أو التفكير بتعطيل عمل العقل. لا نكفِّنّ عن استخدامه وإلا سرنا أغبياء باردين، وخسرنا الأمرين معًا. إنّ الربّ عندما يعلِّق العقل يوقفه يعطيه ما يدهشه ويُشغله، ويجعله يفهم، دون استدلال، في مدى تلاوة قانون الإيمان، أكثر مما نستطيع فهمه، مهما أغرقنا في البحث، في سنين كثيرة. أما أن نُشغل، نحن، قوى النفس ونعلِّقها فهو شططٌ عن الصواب.
إخال شرحي واضحًا؛ بل لعلّه واضحٌ لي وحدي. فليفتح الربُ بواسطة الاختبار أعينَ من سيقرأونه: فمهما كان اختبارهم قليلاً فسوف يفهمونه.

 

فهمُها وعلمُها من الله
لقد أمضيتُ سنواتٍ عديدةً كنت أقرأ أمورًا كثيرةً دون أن أفقه لها معنى. وطوال فترةٍ مديدة، وبالرغم من أنّ الله كان يؤتيني هذه الأمور، كنت عاجزةً عن قول كلمةٍ للإفصاح عنها. وهذا ما سبّب لي عناءً كبيرًا. فهو، جلّ جلاله، عندما يريد، يعلّم كل الأمور بلحظةٍ بحيث إن الأمر يُدهشني.
هناك أمر أستطيع قوله بحق. كنت أُباحثُ كثيرين من الأشخاص الروحيّين، فكانوا يهتمّون بإفهامي، ما آتاني الربّ من نعم لأستطيع تبيانها. إلاّ أنّ كلامهم ما أفادني بقليلٍ أو بكثير لأن جهلي كان، في الحقيقة، كبيرًا. ولعلّ الربّ أراد الأمر كذلك لأنه كان، جلّ جلاله، معلِّمي الدائم –تبارك على مننه جميعًا- وما كان يريد أن أكون مدينةً لغيره. أقول هذا بحق وأنا أشعر باضطرابٍ كبير. ما كنت أطلب شيئًا ولا أسأل شيئًا، -فعلى فضولي في تفاهاتٍ أخرى لم أكن كذلك في هذا الموضوع رغم كون الفضول فيه يُعدُّ فضيلةً –لكن الله أعطاني في لحظةٍ أن أفهم بكلّ وضوح هذه المنن وأُحسنَ التعبيرَ عنها بحيث كان معلِّمو اعترافي يَدهشون، وأدهش أنا أكثر منهم لأنني كنتُ أدرى منهم بجهلي. حدث هذا منذ عهدٍ قريب. وهكذا فأنا لا أُحمِّل نفسي مشقةَ تعلُّمِ ما لم يعلِّمنيه الربّ، إلاً ما يتعلّق بضميري.

 

السعي بفرح وحرّية
بدا لي أن أتكلّم على بعض التجارب التي يصادفها المبتدئون وأخرى عرفتها بنفسي وأن أقدّم بعض النصائح في أمورٍ أعتبرها ضروريّةً.
فليجتهد المبتدئ في أن يسعى بفرحٍ وحرّية؛ فإنّ بعض الأشخاص يحسبون أنّ العبادة ستفلت منهم إذا تهاونوا بعض الشئ. حسنٌ أن يسلك الإنسان في خشيةٍ من نفسه فلا يعرِّض ذاته، من قريبٍ أو من بعيد، لأن يضعَ نفسه في ظرفٍ يؤدي عادةً إلى إهانة الله. وهذا الحذر ضروريٌ جدًا حتى يكون قد رسخ في الفضيلة. وقليلون هم الراسخون بحيث لا يكون عليهم بأسٌ من التساهل في مناسبات توافق نزوعَ طبعهم. فما دمنا على هذه الأرض، يجدُر بنا، ولو من قبيل التواضع، أن نقرّ بضعفِ طبيعتنا. ألا أنّ هناك مناسبات ننتهزها للترويح عن النفس، كما قلت، بغيةَ العودة إلى التأمّل ونحن أشد قوةً من ذي قبل. والفطنة ضروريةٌ في كل حال.

 

ثقةٌ بالله وطموح
يجدر بنا أن نمتلك ثقةً كبيرةً؛ فينبغي أن لا نستهين بالرغبات بل أن نأمل من الله بأنّنا، إذا جهدنا أنفسنا شيئًا فشيئًا، سنبلغ، ولو لم يكن عقب ذلك، ما بلغه قدّيسون كثيرون بفضلٍ منه تعالى. فلو أنّهم لم يُصمموا أبدًا على رغبة ذلك ووضعه موضعَ التنفيذ، لما ارتقوا إلى هذه الحالة السامية. إن الله، عزّ وجلّ، يقدِّر النفوس المقدامة ويحبِّها، على أن تكون متواضعةً ولا تعتدّ بذاتها أبدًا. وأنا لم أرَ واحدةً من هذه النفوس بقيتْ في أول الطريق؛ كما لم أرَ نفسًا جبانةً تتستّر بالتواضع فتجتاز في سنواتٍ عديدة ما تجتازه النفوس الأخرى في سنواتٍ قليلة. ويُثير فيّ العجب أهميةُ الطموح الكبير لتحقيق أمورٍ عظيمة في هذا السبيل. فالنفس، وإن لم تتوفّر لها القوى فيما بعد، تطير وترتفع عاليًا، ولو أنها، كعصفورٍ طريٍ ريشُه، تتعبُ وتتوقّف.

 

شدّة العزيمة والفطنة
فيما مضى، كثيرًا ما كنت أتأمل في كلام القديس بولس "بالله نستطيع كل شئ" (فيلبي 4: 13)، وكنت على يقينٍ من أنني لا أستطيع أمرًا بذاتي. وهذا التأمّل كان جليلَ الفائدة لي، كما أفادني قول القدّيس أغسطينوس: "أعطني يا ربّ ما تأمر، ومُرني بما تريد" (الاعترافات 1. 10. 29). وكنت أفكّر مرارًا بأن القدّيس بطرس ما خسر شيئًا حين ألقى بنفسه في البحر ولو أنّ الخوف استولى عليه من بعد. إن هذه العزائم في البدء ذاتُ قيمةٍ كبرى، ولو كان الواجب، في هذه الدرجة الأولى، أن نسير برويّة، ونتقيّد بالفطنة وبرأي المعلِّم.
فليكن التواضع دائمًا نصبَ عينينا لنفهم أن هذه القوى ليست نابعةً منّا.

 

التواضع الحق ومحاكاة القديسين
وعلينا أن نفهم كيف يجب أن يكون هذا التواضع، لأن الشيطان، فياعتقادي، يعمل على أن يُنزل أذى كبيرًا بالنفوس التي تمارس التأمّل ويحول دون تقدّمها، وذلك بإفساده عليها معنى التواضع، فيصوّر لها أنّ الرغباتِ الكبيرة التي تُراودها، والتوقَ إلى محاكاة القديسين، وتمني الاستشهاد تنطوي على كبرياء. وما يلبث أن يقولَ لنا أو يفهمنا أنّ أفعال القدّيسين خليقةٌ بالإعجاب وليست لنحقِّقَها نحن الخطأة. وهذا رأيي أيضًا؛ لكن علينا أن ننظر ما هو جديرٌ بالإعجاب وما يجب الاقتداء به. فلا يُستحسن مثلاً أن يُكثِر الصيامَ إنسانٌ ضعيفُ البنية مريضٌ ويمارس إماتاتٍ قاسيةٌ فينفرد في صحراء حيث لا يستطيع النوم، ولا يجد ما يأكل أو ما شابه ذلك. غير أنّه علينا أن نفكّر أنّ بإمكاننا، بمعونة الله، بذلَ الجهد لنحتقرَ العالم أيّ احتقار، ونزدريَ مجدَ الدنيا، ونتحرّر من التعلّق بخيرات الأرض. إنّ قلوبنا لمن الضيق بحيث نخال الأرض تفوتنا إذا أهملنا الجسدّ قليلاً لنهتمّ بشؤون الروح. ثم إنّنا نحسب امتلاك الأشياء الضرورية بكثرة يساعد على الاختلاء لأن الاهتمامات الخارجية تعكّر صفو التأمّل. إنه ليُضيمُني أن نكون قليلي الثقة بالله، ومُفرطين في حبّ الذات بحيث تُقلقنا هذه الاهتمامات. وهكذا، متى كان الروح متخلِّفًا على هذا النحو فإن بعض التوافه تسبب لنا من العناء ما تسببه للآخرين أمورٌ عظيمة وبالغة الأهمية. ومع ندّعي أننا روحانيّون.

 

طريقة تلائم المتزوجين
أرى في هذا النمط من السلوك رغبةً في التوفيق بين الجسد والنفس، فلا نفقد الراحةَ في هذه الدنيا ولا التمتّعَ بالله في الآخرة. ويتمّ ذلك إذا سلكنا في البرارة وتعلّقنا بالفضيلة. إلاّ أنه سيرٌ بطئ لا يتأّتى معه أبدًا بلوغُ حرّية الروح. هذه الطريقة أعتبرها ملائمةً تمامًا للمتزوّجين الذين عليهم أن يسلكوا بمقتضى دعوتهم، لكنّي لا أتمنّى إطلاقًا لحالةٍ أخرى هذه الطريقةَ للتقدّم، ولن يُقنعني أحدٌ بصلاحها لأنني خبرتها بنفسي؛ ولكنت استمرَّيت دائمًا فيها لولا أنّ الرب، بجوده، أرشدني إلى طريقٍ آخر مختصر.

 

الفطنة عند المرشدين
ومع أنني كنت دائمًا صاحبةَ رغباتٍ كبيرة، لكنّني كنت أمارس النهج الذي تحدّثت عنه: أزاول التأمّل وأعيش على هواي. وفي ظنّي أنه لو وُجد من يدفعني لأطير لكنت اجتهدتُ لأضع هذه الرغبات موضع التنفيذ. لكنّ المرشدين، بسبب خطايانا، هم من القلّة والندورة بحيث لا يمتلكون الفطنةَ الكافية حول هذا الموضوع. وهذا في رأيي سببٌ جدِّي يُعيق المبتدئين عن المضيّ سريعًا في طريق الكمال. فالربّ لا يتخلف أبدًا ولا يقصِّر. إنما المقصّرون البائسون نحن.

 

تجربة الخوف على الصحَّة
فضلاً عن ذلك، يُمكننا الاقتداءُ بالقدّيسين بالسعي إلى العزلة والصمت، وبممارسة فضائل كثيرةٍ لا تقتل أجسادنا التاعسة هذه، التي ترغب برعاية لتضلّل النفس؛ والشيطان بدوره يساعد كثيرًا على تعطيل هذه الأجساد حين يلاحظ بعض الخوف. فهو لا يريد أكثر من ذلك ليُفهمنا أن كلّ شئٍ سيقتلنا أو سيسلبنا الصحَّة. حتى إننا لو ذرفنا الدموع، أثار فينا الخوفَ من العمى. لقد خَبرتُ هذا الأمر، لذا أراني عارفةً به. ولا أدري ما نتمنّاه من أجل بصرِنا وصحَّتنا خيرًا من أن نضحّيَ بهما من أجل قضيةٍ كهذه.
لأن العلّة تلازمني، فقد كنت دائمًا مقَّيدة، لا أقوى على شئ، إلى أن عزمت على أن لا أكترث بالجسد أو بالصحَّة. وما أعمله الآن قليلٌ جدًّا. وبما أنّ الله أرادني أن أفهم حيلة الشيطان هذه، فإذا مثّل لي إبليس فقدانَ الصحّة كنت أقول: "لا بأس أن أموت"؛ وإذا صورّ لي فقدان الراحة أقول: "لست بحاجة إلى الراحة، بل إلى الصليب"؛ وهكذا في سائر التجارب. لقد رأيت بوضوح في كثير من الأحوال، على كثرة أدوائي، أن هذه التخيّلات مبعثها تجربةٌ شيطانيةٌ أو ضعفٌ لديّ، وأنني حين أفتقد الترف ولين العيش، تكون صحّتي في أحسن حال.
فمن المهمّ جدَّا للمبتدئين في ممارسة التأمّل ألاّ تخيفهم الأفكار الطارئة، وليثقوا بكلامي هذا لأنه نتيجةُ اختباري. وقد تفيدهم روايةُ أخطائي فيتَّعظوا بي.

 

تجربة الرغبة في تعليم الآخرين
وثمَّة تجربةٌ أخرى شائعة لدى المبتدئين وهي أنهم ما إن يشرعوا بتذّوق طمأنينةِ التأمّل ومنافعه حتى يرغبوا في أن يكون جميع الناس روحانّيين. أما هذه الرغبة فليست بأمرٍ سيئ، وأما محاولة تحقيقها فقد لا تكون صالحةً إذا لم تصحبها الفطنة واللباقة بحيث لا تبدو تعليمًا للآخرين؛ لأن من أراد أن يُؤتي غيره نفعًا في هذه الحال لابدّ من أن يمتلك فضائل راسخةً جدَّا لئلا يكون سبب عثارٍ للآخرين.
هذا ما حصل لي –ولهذا أنا عالمةٌ به- حين كنت أسعى، كما قلت، إلى حمل آخرين على ممارسة التأمّل. فقد كانوا، من جهةٍ يرونني أثني على منافع التأمّل الجليلة فيما يرونني، من جهة أخرى، أمارس التأمّل على افتقاري إلى الفضائل. فكنت لهم باعثًا على التجربة والبلبلة. وقد صارحوني بذلك من بعد، وبأيّ حق! لأنهم ما كانوا يعرفون كيف يمكن التوفيق بين الأمرين. فلأنهم كانوا يعتبرونني على شئ من الصلاح، كانوا يعتبرون سيئًا ما بذاته سيئٌ، لمجرّد فعلي إيّاه أحيانًا.

 

البدء بالذات أولاً
هذا ما يفعله الشيطان. فكأنه يستخدم الفضائل التي نتحلى بها ليسهّل، قدر استطاعته، الشرّ الذي يقصد. ومهما كان هذا الشر ضئيلاً، فحين يحصل في جماعةٍ يكون له كسبًا كبيرًا. وكم بالحري أنّ سلوكي كان سيئًا جدًّا! وهكذا فخلال سنواتٍ عديدة أفادت من نصائحي ثلاث أخوات فقط. وبعد أن قوّاني الرب في الفضيلة، استفادت أخواتٌ كثيرات في سنتين أو ثلاث سنوات، كما سأروي بذلك فيما بعد.
علاوةٌ على ذلك، هناك ضيرٌ كبيرٌ وهو خروجُ النفس خاسرةً. لأن ما يجب أن تسعى إليه في البدء، أكثر ما تسعى، هو أن تُعنى بذاتها وحدها، وأن تعتبر أن ليس في الدنيا سواها والله. وهذا المسلك يناسبها تمامًا.

 

تجربة الغمّ بسبب الآخرين
هناك تجربةٌ أخرى تتلبس، كسائر التجارب، بستار الفضيلة، من الواجب التعرّفُ إليها والاحترازُ منها، وهي أننا نغتم بسبب خطايا الآخرين ونقائصهم. فالشيطان يصوِّر لنا أن هذا الغمّ ناجمٌ عن رغبتنا في أن لا يُهان الله أو تُحقر عزته فنريد أن نعالج الأمر حالاً. وهذا ما يُقلقنا فيمنعنا من التأمّل. والضرر الأدهى أننا نظنّ ذلك فضيلةً، وكمالاً، وغيرةً فائقةً على الله. لست أقصد الغمّ الذي تُحدثه الخطايا العلنية في جماعةٍ رهبانية –إذا تحوّلت إلى أمر عادي-، أو الإضرار التي تُحدثها في الكنيسة هذه البدع فنرى نفوسًا كثيرةً تهلك. فهذا الغمّ صالحٌ، ولأنه صالح لا يثير القلق. إنَّ أوفرَ ضمانةٍ للنفس التي تُمارس التأمّل تركها كلَّ شئٍ وكلَّ الناس جانبًا واهتمامها بذاتها وبإرضاء الله. هذا ما يلائمها فوق كل شئ. لو رحت أروي الأخطاء التي شاهدتها والتي قاد إليها حسنُ النية! .. فلنجتهدْ، إذًا، دائمًا لأن ننظر الفضائل والأعمال الصالحة في الآخرين ونستر نقائصهم بخطايانا الكبيرة. إن هذا التصرّف، ولو لم يُمارس على الوجه الأكمل، يُكسبنا فضيلةً جليلةً تقوم على اعتبارنا الآخرين جميعًا خيرًا منّا. وهكذا تبدأ النفس تحقِّق تقدمًا بعون الله. وهذا العون ضروريٌّ دائمًا، فإذا فاتنا كانت مساعينا باطلةً. ينبغي أن نسأل الله هذه الفضيلة حتى إذا بذلنا محاولاتنا لم يتخلَّف عن مساعدتنا.

 

لا نجهدنّ العقل
وهذه نصيحةٌ للذين يبالغون في استخدام العقل فيستنتجون من موضوعٍ تصوراتٍ وأفكارًا كثيرةً: إن الذين لا يستطيعون إعمال العقل، كما كان يحدثُ لي، يجب أن ننصحهم بالتذرّع بالصبر فحسب حتى يعيطهم الرب ما يُشغلهم ويمنحهم نوره، لأنهم بذاتهم يقدرون على القليل القليل، بحيث إن عقلهم يضايقهم أكثر مما يساعدهم. ولنعد إلى الذين يعتمدون التفكير، فأقول بأن لا يقضوا وقت التأمّل كله في التفكير. فلأن التأمّل عملٌ كسبي، ولأنه ممتع، يظنّون أن لا ضرورة ليوم عطلةٍ كيوم الأحد أو لانقطاعهم عنه فترةً، بل يتصورن ذللك وقتًا مهدورًا؛ وأنا أعتبر ضياعَ الوقت هذا ربحًا ثمينًا. فليتمثلوا في حضرة المسيح، وليناجوه، وليفصحوا عن سرورهم بقربه، دون أن يجهدوا العقل ويتعبوا أنفسهم بصياغة خطب، بل فليعرضوا حاجاتهم وما يبرر عدم تحمله إيّانا أمامه. فليمارسوا هذا النهج حينًا وذاك حينًا آخر حتى لا تتعب النفس من أكل الغذاء نفسه دائمًا. إن هذه الأغذية لذيذةٌ ومفيدةٌ جدًّا إذا تعوّدناها لأنها توفر متعةً لحياة النفس وفوائد جمّةً.

 

طريقة بدء التأمّل للجميع
أودّ أن أزيد إيضاحًا لأن أمور التأمّل كلها صعبةٌ، وإذا لم يتوفّر معلمٌ مختصّ بها كانت عسيرة الفهم. ولهذا، فعلى رغبتي في الإيجاز، ورغم أنّ معالجتي إياها سطحيًّا تكفي العقل الراجح لمن أمرني أن أكتب هذه الأمور في التأمّل، فإن بلادتي لا تتيح المجالَ لأن أقول وأبين، بكلامٍ قليل، موضوعًا تهمُّ كثيرًا إبانته. ولأني عانيتُ ما عانيت، فإني أُشفق على المبتدئين الذين يعتمدون على الكتب فقط. فإنَّ الفرق مُذهلٌ بين ما نفهمه من الكتب وما نكتسبه بعد الاختبار.
وأعود إلى موضوع حديثي. لنتأمل سرًّا من أسرار الآلام: يسوع مربوطًا على العمود، مثلاً. فالعقل يمضي باحثًا عن دوافع هذا التعذيب، وعن الآلام والحزن التي عاناها جلّ جلاله في تلك الوحدة، وأمورٍ أخرى كثيرة يمكن أن يستخرجها العقل من هذا المشهد إذا كان يعمل، وإذا كان مثقفًا!... هذه هي طريقة التأمّل التي يجب أن يبدأ بها الجميع، ويتابعوها، وينتهوا إليها. وهي طريقٌ ممتازة ومأمونة، إلى أن يقودهم الرب إلى أحوالٍ أخرى فائقة الطبيعة.

 

تعدد طرائق التأمّل
أقول "الجميع" بيد أنّ هناك نفوسًا كثيرةً تنتفع أكثر في تأملها مواضيعَ أخرى غير الآلام المقدسة. فكما أنّ في السماء منازلَ كثيرةً، كذلك هناك طرق كثيرة. فالبعض يستفيدون من تصورهم أنفسهم في جهنم؛ ويستفيد البعض، ممن يُحزنهم التفكير في جهنم، بتصور أنفسهم في السماء، والبعض الآخر يستفيد من التفكّر في الموت؛ آخرون، إذا كانوا رقاقَ القلوب، يتعبون من التأمّل دائمًا في الآلام ويتمتعون ويستفيدون من النظر في قوة الله وعظمته في الخلائق، وفي الحبّ الذي أحبنا به والذي يتمثل في جميع الكائنات. وإنها لطريقةٌ رائعةٌ إذا لم يُهمل كثيرًا التأمّل في حياة المسيح وآلامه إذ منها جاءنا ويجيئنا كلُّ الخير.

 

ضرورة معلِّم خبير
يحتاج المبتدئ إلى أن يتعرّف الطريقة الأنفع له. ولهذا لابدّ له من معلمٍ خبير. فإن لم يكن المعلمُ خبيرًا سقط في أخطاء كثيرة، ووجّه نفسًا دون أن يفهمها ودون أن يدعها تفهم ذاتها؛ ذلك أنها تعرف ما في الخضوع للمعلم من استحقاقٍ فلا تجرؤ فتخرج على ما يُمليه عليها. لقد صادفتُ نفوسًا متضايقةً حزينةً لأنّ من كان يعلِّمها تنقصه الخبرة، فكانت تثير فيّ الشفقة، حتى أنّ إحداها ما كانت تدري ما العمل. فإذا كان المعلم يجهل الأمور الروحية يُحزن النفس والجسدَ معًا ويحول دون التقدّم. لقد أفضت إلى نفس بأن المعلمَ تركها مكبلة ثماني سنوات فلم يدعها تتجاوز معرفة ذاتها مع أنّ الرب كان قد رفعها إلى تأمل السكينة. وهكذا فقد كانت تُقاسي مشقاتٍ كبيرةً.

 

تكرار العودة إلى البدء
مع أن معرفة الذات يجب أن لا تُهمل البتة، فما من نفسٍ تسير في هذا الطريق، مهما كانت جبارةً، إلا وتحتاج مراتٍ عديدةً لأن تعود إلى حالة الطفولة والرضاعة. يجب أن لا ننسى أبدًا هذا الأمر، وقد أعود إليه مرارًا لأنه ذو أهمية بالغة.فما من حالة تأمل مهما سمت لا يقتضي العودة معها، مرارًا، إلى البدء. فتذكر خطايانا ومعرفة الذات هما الخبز الذي يجب أن نتناول معه سائر الأطعمة، مهما طابت مذاقًا، في طريق التأمّل هذا، ومن دونه لا تستطيع النفوس أن تتغذي. على أنه يجب تناوله باعتدال. فبعد أن تُؤخذ النفس بالنعمة، وتدرك أنها لا تملك خيرًا من ذاتها، ويعتريها الخجلُ أمام ملكٍ عظيمٍ كهذا الملك، وترى أنها تردّ له القليل من الكثير الذي تدين له به، فأيّ حاجةٍ لأن تُضيِّع وقتها في هذا؟ بل أحرى بنا أن نسعى إلى أطعمةٍ أخرى يقدّمها لنا الربّ، ولا مبرر لرفضنا إياها، لأنه، جلّ جلاله، أعلم منا بما يناسبنا من طعام.

 

ضرورة العلم في التأمّل
فمن المهم جدًّا أن يكون المعلم فطنًا –حاضر العقل- وذا خبرة. وإذا جمع المعرفة إلى هذه فنعمَ الأمر. أما إذا تعذّر اجتماعُ هذه الصفات الثلاث، فلنعلم أن الأوليين منها أكثرُ أهمية. فالمبتدئون يتيسر لها، إذا دعت الحاجة، أن يجدوا أصحاب علمٍ ليستأنسوا برأيهم. لكنهم قليلاً ما يستفيدون إذا كان أولئك لا يمارسون التأمّل. لا أقصد بذلك أن لا يتعاملوا مع ذوي العلم، لأن النفس التي لا تبدأ مسيرتها في الحقيقة، خيرٌ لها أن تبقى دون تأمّل. والعلم جليل لأنه يثقفنا، نحن، من نعرف القليل، ويوفّر لنا نورًا، وبه نصل إلى فهم حقائق الكتاب المقدس والقيام بواجباتنا أجارنا الله من العبادات الحمقاء!

 

الحاجة إلى مرشد مثقّف...
إنّ رأيي كان دائمًا وسيكون أن يسعى كلّ مسيحي ليتعاطى مع مرشدٍ علاَّمة، إذا أمكن؛ وكلّما كان المرشد واسع العلم كان ذلك أفضل. والذين يسيرون في طريق التأمّل يحتاجون أكثر من غيرهم إلى مرشد؛ وكلما ازدادوا تقدمًا في الحياة الروحية ازدادوا حاجةً.

 

فائدة علم المرشد
قلت ما قلت لأنّ البعض يرون أنّ ذوي العلم لا يصلحون كمرشدين لذوي التأمّل إذا فاتهم الروح. لقد قلتُ أن على المعلِّم أن يكون روحيًّا، فإن لم يكن ذا علم كان ذلك عقبةً كبرى. ومعاشرةُ ذي العلم تساعد كثيرًا إذا كان صاحبَ فضيلة؛ وهو، ولو افتقر إلى روح التأمّل، ذي فائدة، لأن الله يعرفه ما عليه أن يعلِّم بل ويجعله روحيًّا حتى يفيدنا. وإنما أؤكد الأمر لأنني خبرته بنفسي وحصل لي مع أكثر من اثنين. وأرى أنّ نفسًا تريد أن تكون خاضعةً لمعلمٍ واحدٍ، ترتكب خطًأ كبيرًا إذا لم تسعَ ليكون كما وصفت. فإذا كان المسترشد راهبًا، يكون عليه الخضوعً لرئيسه الذي قد يفتقر إلى تلك الصفات الثلاث فيشكِّل لتلك النفس صليبًا ثقيلاً، ما لم تُخضع عقلها هي، بملء إرادتها، لمن لا يُعوزه الحكم الصحيح. وهذا ما لم أستطع أن أُطبقه ولا أراه ملائمًا. وإذا كان المسترشد علمانيًّا، فليحمد الله لأن باستطاعته أن يختار من يخضع له. فلا يضيع هذه الحرية الثمينة. وليبقَ دون معلم حتى يجد المعلم المناسب. فإنّ الرب يهديه إذا ثابر راسخًا في التواضع وراغبًا في لقائه. إني أحمد الله أوفر الحمد.

 

إعجابها بالمثقفين الرهبان
كثيرًا ما يُثير إعجابي المثقفون، ولا سيما الرهبان منهم، بما اكتسبوا بجهدهم من علمٍ أستفيد أنا منه فلا يكلفني سوى السؤال. ومن العجب أنّ هناك أناسًا لا يريدون أن ينعموا بفائدته! لا سمح الله بذلك! إني أرى هؤلاء الرهبان مقيَّدين بمشقات الرهبنة، وهي شديدةٌ، يمارسون الإماتات، طعامهم ردئ، مقيَّدين بالطاعة بحيث أخجل، حقًّا، من نفسي أحيانًا. أضف إلى ذللك أن لا راحة لهم في النوم، وكلّ حياتهم عناء، بل كلها صليب. وأعتبر ضررًا كبيرًا أن لا يستفيد أحد، بخطأ منه، من هذا الخير العميم. قد يظنّ البعض منّا، لأننا متحررون من هذه المشقّات ويُقدَّم لنا الطعام جاهزًا، كما يقولون، وأننا نعيش على هوانا، أنّنا نفضلهم، هم، الذين يُعانون مشقاتٍ كبرى، لأننا نمارس حياةَ التأمّل أكثر منهم بقليل.

 

ابتهال وصلاة لأجل المثقّفين
تباركت، يا ربّ، يا من صنعتني خرقاء، عديمة الجدوى! وأحمدك جزيل الحمد لأنك توقظ عقولَ كثيرين يوقظون، بدورهم، نفوسنا. يجب أن نثابر على الصلاة من أجل هؤلاء الذين يُضيئون سبيلنا. ما يكون مصيرنا لولاهم في خضمِّ هذه العواصف الهوجاء التي تجتاح الكنيسة الآن؟ إذا شذّ بعضهم عن طريق الحق فإن إشعاع الصالحين يكون أكثرَ ألقًا. رضي الله عنهم، وأخذهم بيده، وساعدهم ليساعدونا. آمين.

 

التأمّل بالمسيح مربوطًا إلى العمود
لقد شطّ بي المزار بعيدًا عن الموضوع الذي بدأت معالجته. لكنّ كلّ ما قيل نافع للمبتدئين حتى يسلكوا في هذا الدرب السامي بحيث يسيرون في الطريق القويم. وأعود إلى حديثي عن التأمّل بالمسيح مربوطًا إلى العمود فأقول: يُستحسن أن نفكِّر برهةً ونتأمّل العذابات التي قاساها هناك، ولماذا قاساها، ومن هو الذي تحمّلها وبأيّ حبٍّ كابدها. لكن لا نُتعبنَّ أنفسنا دائمًا في البحث عن هذه الاعتبارات، بل يكفي أن نبقى هناك معه، منقطعًا عقلنا عن التفكير. وإذا أمكن فلنشغله بأن ننظرَ أنه ينظر إلينا، ونرافقه، ونخاطبَه، ونسألَه، ونتواضعَ أمامه، ونبتهجَ برفقته، ونقرّ بأنّنا لسنا أهلاً لأن نكون هناك. فمتى استطاع أحدٌ أن يفعل هذا، ولو كان في أوّل عهده بحياة التأمّل، يحقِّق فائدةً جُلّى، كما أنّ هذه الطريقة في التأمّل توفّر فوائد جمَّة. هذا، أقلّه، ما استفادته نفسي.

آمين


القديسة تريزا الإفيلية
كتاب السيرة