حساب النفقة

جي. سي. رايلي ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

ما تكلفة أن يصير المرء مسيحيًّا حقيقيًّا؟


(1) أولاً سوف يكلفه الأمر بره الذاتي. عليه أن يطرد كل افتخار وأفكار عالية وانخداع بصلاحه الشخصي.


(2) ثانيًا، سوف يكلفه الأمر خطاياه. عليه أن يكون مستعدًا للتنازل عن كل عادة وممارسة خاطئة في نظر الله.

 


(3) ثالثًا، سوف يكلفه الأمر محبته للراحة. عليه أن يجتاز في الآلام والضيق إذا قصد أن يخوض سباقًا ناجحًا نحو السماء. عليه يوميًا أن يسهر ويراقب أرض أعدائه مثل الجندي. عليه أن ينتبه لسلوكه في كل ساعة من اليوم، مع كل رفقة، في كل مكان، في العلن كما في السر، مع الغرباء كما مع الأقرباء. عليه أن ينتبه لوقته ولسانه وطباعه وأفكاره وخياله ودوافعه وسلوكه في كل علاقة في الحياة. عليه أن يكون مثابرًا في صلواته وقراءته للكتاب المقدس وطرق قضائه لأيام الآحاد، مع كل وسائط النعمة. في مواظبته على هذه الأمور لن يصل إلى درجة الكمال، إلا أنه لا يستطيع الاستغناء عن أي منها: "نفس الكسلان تشتهي ولا شئ لها، ونفس المجتهدين تسمن" (أم 13: 4).
هذا أيضًا يبدو صعبًا. فليس هنالك ما يمكن أن نكرهه بطبيعتنا بقدر الضيق فيما يتعلق بالدين، فنحن نكره الضيق. وفي داخلنا نتمنى لو أننا كنا نمتلك مسيحية مريحة، وأن نكون في أحسن حال من كل وجه، وأن نحصل على كل شئ دون تعب. وأي شئ يتطلب جهدًا وتعبًا إنما هو مضاد كلية لميل قلوبنا. لكن لا يمكن للروح أن "تكسب دون أن تتعب". دعونا نضع هذا الأمر كذلك في حسابنا. فلكي يصبح المرء مسيحيًّا، فإن هذا يكلفه محبته للراحة.


(4) أخيرًا، سوف يكلفه الأمر حظوة العالم لديه، فينبغي عليه أن يكون مذمومًا في العالم إذا كان يكرم الله. عليه ألا يحسبه أمرًا غريبًا إذا تعرض للسخرية والاستهزاء والافتراء والاضطهاد، بل وحتى الكراهية. يجب ألا يتفاجأ عندما يكتشف أن آرائه وسلوكياته الدينية تُحتقر ويُزدرى بها. عليه أن يُسلّم بأن الكثيرين سوف يعتبرونه أحمق وحالمًا ومتعصبًا. وبأن كلماته سوف تُحرف وسلوكياته سيُساء فهمها. وفي واقع الأمر، عليه ألا يتعجب إذا ما دعاه البعض مختلاً. يقول المعلم: "اذكروا الكلام الذي قلته لكم: ليس عبد أعظم من سيده. إن كانوا قد اضطهدوني فسيضهدونكم، وإن كانوا قد حفظوا كلامي فسيحفظون كلامكم" (يو 15: 20).
أتجرأ فأقول إن هذا أيضًا يبدو صعبًا. فبالطبيعة نحن لا نحب المعاملة الظالمة والاتهامات الخاطئة، ونرى أنه من الصعب جدًا علينا أن نُتهم بدون سبب. فإننا لا نكون لحمًا ودمًا إذا لم نكن نبغي الحصول على الرأي الحسن في حقنا من قبل المحيطين بنا. فالأمر يكون دائمًا سيئًا عندما يتحدث الآخرون ضدنا ويكذبون بشأننا وعندما نقف وحدنا. لكن لا يوجد حل لهذا الأمر. فالكأس التي شربها سيدنا ينبغي أن يشربها تلاميذه أيضًا. ينبغي أن يكونوا "محتقرين ومخذولين من الناس" (إش 53: 3). فلنبق على هذا الأمر أخيرًا في حساباتنا. فلكي يصبح المرء مسيحيًّا، فإن هذا يكلفه حظوة العالم لديه.
هذا هو حساب تكلفة أن يصير المرء مسيحيًّا حقيقيًّا. لكن م الذي، بحسه الصحيح، يمكنه أن يشك في أن خلاص النفس يمكن أن يكلف أي ثمن؟ عندما تواجه السفينة خطر الغرق، لا يفكر طاقمها في أي أمر آخر سوى إلقاء حمولتها في عرض البحر. وعندما يُصاب أحد أطراف الإنسان بالغرغرينة فإن الإنسان يخضع لجراحة دقيقة، بل قد يصل الأمر إلى بتر هذا العضو لإنقاذ حياته. لاشك أن على المسيحي أن يكون مستعدًا للتنازل عن أي شئ يقف حائلاً بينه وبين السماء. إن الديانة التي لا تكلف شيئًا لا تساوي شيئًا والمسيحية الرخيصة التي بدون صليب، سيثبت في النهاية أنها مسيحية بلا جدوى منها، وستكون بلا إكليل.
علىَّ الآن أن أشرح السبب وراء أهمية "حساب النفقة" العظيمة بالنسبة للنفس الإنسانية.
قد أستطيع بسهولة حسم هذه المسألة بأن أطرح المبدأ القائل بأنه لا يمكن إهمال أية مسؤولية يدعو لها المسيح دون التسبب في خسائر. يمكنني توضيح كيف أن الكثيرين يغمضون عيونهم خلال الحياة عن طبيعة الديانة المخلَّصة ويرفضون اعتبار ما يكلفه الأمر ليصير المرء مسيحيًّا. وقد أصف كيف أنهم، في نهاية الأمر، عندما تقارب الحياة على النهاية، يستيقظون ويقومون بالقليل من الجهود العشوائية في سبيل العودة لله. قد أخبركم كيف أنهم يُفاجئون بأن التوبة والتجديد ليسا أمرين سهلن كما يفترضون، وأن الأمر يكلف "ثمنًا كبيرًا" ليكون المرء مسيحيًّا. إنهم يكتشفون أن عادات الكبرياء والانغماس في الخطية ومحبة الراحة والعالمية لا يمكن التخلي عنها بسهولة كما كانوا يحلمون. وهكذا، بعد صراع باهت، يستسلمون في يأس، ويغادرون العالم في يأس، بدون نعمة، دون استعداد للقاء مع الله! لقد تملقوا أنفسهم كل أيام حياتهم متعللين بأن الدين سيكون سهلاً عندما يتعاملون معه بجدية. لكنهم يفتحون عيونهم متأخرًا جدًا ليكتشفوا لأول مرة أنهم قد هلكوا لأنهم لم "يحسبوا النفقة" أبدًا.
لكنني أود أن أتحدث بنفسي إلى طائفة معينة من الناس في تناولي لهذا الجزء من الموضوع. إنها طائفة عريضة متنامية وتمثل خطرًا خاصًا في أيامنا. دعوني في كلمات قليلة وواضحة أحاول وصف هذه المجموعة. فهي تستحق اهتمامنا الأقصى.
الأشخاص الذين أتكلم عنهم لا يهملون الدين، فهم يفكرون فيه كثيرًا. كما أنهم لا يجهلون الدين، فهم يعرفون جيدًا خطوطه العريضة. لكن نقيصتهم الضخمة هي أنهم ليسوا "متأصلين وراسخين" في إيمانهم. ففي غالبية الأحيان هم يأخذون معرفتهم من غيرهم، بسبب نشأتهم في عائلات متدينة، أو لأنهم تدربوا بطريقة دينية، لكنهم لم يتلامسوا معه بطريقة اختبارية داخلية. في أحيان كثيرة يجاهرون بتدينهم بسبب ضغط الظروف أو نتيجة لمشاعر انفعالية أو فورة جسدية أو من خلال رغبة غامضة في أن يُحاكوا الآخرين من حولهم، كل ذلك دونما عمل راسخ للنعمة في قلوبهم. أشخاص كهؤلاء إنما هم في وضع جد خطير. فهم تحديدًا، إذا كان الكتاب المقدس له قيمة حقيقية، الذين يحتاجون أن يُحثوا على "حساب النفقة".
ونتيجة لعدم "حساب النفقة" هلك الآلاف من بني إسرائيل بطريقة بائسة في البرية الواقعة بين مصر وكنعان. غادر أولئك مصر وهم ملأى بالغيرة والحماسةـ كما لو أنه ليس هنالك ما يمكن أن يقف أمامهم. لكن عندما قابلوا المخاطر والمصاعب في الطريق، سريعًا ما تخاذلت شجاعتهم. فهم لم يتوقعوا الضيق أبدًا، وظنوا أن أرض الموعد ستكون أمامهم في غضون أيام قليلة. وهكذا عندما بدأ الأعداء والحرمان والجوع والعطش في تجربتهم، فإنهم تذمروا على موسى والله، وتلهفوا إلى العودة مرة أخرى إلى مصر. باختصار، هم لم "يحسبوا النفقة"، وهكذا فقدوا كل شئ وماتوا في خطاياهم.
ونتيجة لعدم "حساب النفقة"، تراجع الكثيرون من سامعي الرب يسوع بعد وقت "ولم يعودوا يمشون معه" (يو 6: 66). عندما شاهدوا معجزاته في البداية، واستمعوا لوعظه، اعتقدوا أن ملكوت الله "سوف يظهر على الفور"، فألقوا قرعتهم مع زمرة التلاميذ وتبعوه دون تفكير في النتائج. لكن عندما اكتشفوا وجود عقائد صعبة عليهم الإيمان بها، وعمل صعب عليهم القيام به، ومعاملة سيئة عليهم احتمالها، تهاوى إيمانهم بالكامل واتضح أنه لا شئ على الإطلاق. باختصار هم لم "يحسبوا النفقة" فانكسرت سفينة اعترافهم بالإيمان.
ونتيجة لعدم "حساب النفقة"، عادي الملك هيرودس إلى خطاياه السالفة، وأهلك نفسه. لقد كان يحب الاستماع ليوحنا المعمدان واعظًا. كان "يحفظه" ويهابه كرجل بار وقديس. بل أنه "فعل أمورًا كثيرة" حسنة وصالحة. لكن عندما وجد أن عليه أن يتنازل عن حبيبته هيروديا، تحطمت ديانته تمامًا. فهو لم يتوقع ذلك، ولم "يحسب النفقة" (مر 6: 20).
ونتيجة لعدم "حساب النفقة" ترك ديماس تبعية بولس الرسول، ترك الإنجيل، ترك يسوع، وترك السماء والأبدية. لمدة طويلة صاحب رسول الأمم في رحلاته التبشيرية وأُطلق عليه "العامل معي". ولكن عندما اكتشف أنه لن يستطيع الاحتفاظ بصداقة العالم بالإضافة إلى صداقة المسيح، ترك المسيحية وذهب وراء العالم. قال القديس بولس "ديماس قد تركني إذ أحبَّ العالم الحاضر" (2 تيم 4: 10). ديماس لم يحسب "حساب النفقة".
ونتيجة لعدم "حساب النفقة"، لا ينجح الكثيرون من أبناء العائلات المتدينة، ويجلبون العار على المسيحية. فمع اعتيادهم منذ نعومة أظفارهم على شكل الإنجيل ومحتواه، وتعلمهم منذ الطفولة أن يرددوا النصوص الكتابية العظيمة والأساسية، وتعودهم على تعلم الإنجيل أسبوعيًّا، أو أن يعلموا آخرين في مدارس الأحد، فإنهم عادة ما ينشأون على الاعتراف بديانتهم دون أن يعرفوا سببًا لذلك، او حتى دون أن يفكروا فيه بجدية. وهكذا عندما تفرض حقائق الحياة واقعها عليهم عند بلوغهم الرشد، فإنهم يُصدمون إلى درجة أنهم يُسقطون تدينهم من حساباتهم بالكامل وينغمسون كلية في العالم. لماذا؟ لأنهم لم يتفهموا أبدًا بإخلاص التضحيات التي تستلزمها المسيحية. فهم لم يتعلموا قط أن "يحسبوا النفقة".
إن التعجل غير الصبور هو سمة العصر في أوساط الكثير من المتدينين. ويبدو أن كل ما يهتمون به من تأثيرات الإنجيل هو التغيرات اللحظية والشعور الوقتي بالسلام. وأمام هذين الأمرين يتم إلقاء كل شئ آخر في الظل. وتصبح غايتهم وهدفهم الأقصى من كل مجهوداتهم هو الحصول عليهما. أقول بدون تردد إن مثل هذا الجانب الهش والأحادي في التعليم عن المسيحية إنما هو غاية في الخداع.
أرجو ألا يُساء فهم ما أعنيه. فأنا أتفق تمامًا مع تقديم الخلاص الكامل والمجاني والآني والفوري في المسيح يسوع للناس. وأتفق تمامًا مع تشجيع المرء على إمكانية ومسؤولية التجديد اللحظي والفوري. أنا لا أناقش مطلقًا هذه الأمور. لكنني أقول إن هذا الأمور لا ينبغي تقديمها وحدها فقط للإنسان.
يجب إخبارهم بصدق ما يجب عليهم أذا أبدوا شوقهم للخروج من العالم وخدمة المسيح. يجب عدم الدفع بهم إلى جيش المسيح دون إخبارهم بما تستلزمه الحرب. باختصار، يجب إخبارهم صراحة بأن "يحسبوا النفقة".
أيتساءل أحدهم عن فكر وممارسة الرب يسوع في هذا الأمر؟ فليقرأ ما كتبه القديس لوقا. يقول لنا "وكان جموع كثيرة سائرين مع، فالتفت وقال لهم: "إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته، حتى نفسه أيضًا، فلا يقدر أنْ يكون لي تلميذًا. ومنْ لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا." (لو 14: 25-27). لابد أن أعلن بصراحة أنني لا أستطيع أن أصالح هذا النص الكتابي مع ما يفعله الكثيرين من المعلمين والوعاظ المعاصرين. ولكن فكري يرى أن العقيدة المدونة في هذا النص لهي واضحة وضوح الشمس في منتصف النهار. إنها تعلن بوضوح أنه لا ينبغي لنا أن ندفع الناس للاعتراف بتبعية المسيح بدون تحذيرهم بقوة من "حساب النفقة".
لا تقدم وجهًا واحدًا فقط من المسيحية. لا تُخف "صليب" إنكار الذات الذي يجب حمله عندما تتحدث عن الصليب الذي مات عليه المسيح من أجل فدائنا. اشرح بالكامل ما تتطلبه المسيحية. التمس من الناس التوبة والإتيان للمسيح، لكن شجعهم في نفس الوقت على أن "يحسبوا النفقة".

 

جي. سي. رايلي

من كتاب: "دعوة للقداسة"