الكينونة في مقابل التملك

إريك فروم ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

إذا كنت أنا هو ما أملك (هويتي تكمن فيما أملك)، ثم فقدت ما أملك، فمن أكون؟ لن يبقى سوى شاهد مهزوم، متضائل، مثير للشفقة... شاهد على أسلوب حياة خاطئ. فحيث إني —يمكن أن أفقد ما أملك فأنا بالضرورة في قلق وخوف دائم من إمكان حدوث هذا...

 إن كنت أنا من أكون (هويتي تكمن في من أكون/كينونتي) ولست ما أملك فلا يوجد من يستطيع أن يسلبني أمني، أو ينال من إحساسي بتكامل شخصيتي و ’تماسكها. ذلك أن مركزي موجود في داخل نفسي...

وأكثر الأمثلة علاقة بموضوع الاستمتاع المبرأ من الرغبة الجامحة في الامتلاك يمكن أن نجده في مجال العلاقات بين الأشخاص. يمكن أن يستمتع رجل وامرأة، كل منهما بالآخر، على أسس كثيرة. فكل طرف يمكن أن يعجب بمواقف الطرف الأخر، أو بذوقه، أو بأفكاره، أو حتى بشخصيته كلها. ومع ذلك فهذه المتعة لا تفضي إلى رغبة في التملك الجنسي إلا عند هؤلاء الذين يستبد بهم حافز امتلاك ما يحبون. أما أولئك الذين ينتمون إلى توجه الكينونة فإن الشخص الآخر يمكن أن يكون ممتعاً، بل وجذاباً بكل معنى، ولكن دون أن توجد تلك الرغبة الجامحة في اقتطافه للاستمتاع به وذلك باستعارتنا لتعبير تينسون في قصيدته.
والأشخاص الذين يستبد بهم حافز الامتلاك يريدون أن يملكوا الأشخاص الذين يحبونهم. ويمكن أن نلاحظ ذلك في العلاقات ب ين الآباء والأمهات وأطفالهم، وبين المدرسين وتلاميذهم، وبين الأصدقاء، حيث لا يكتفي كل طرف بالاستمتاع البسيط بالطرف الآخر، وإنما يرغب في امتلاكه لنفسه. ومن ثم تكون الغيرة ممن يريد أن ينازعه الملكية. كل طرف يتشبث بمن يحب كما يتشبث بحار يغرق بلوح خشب ليحفظ بقاءه. وعموما فإن العلاقات التي يسودها نمط التملك تكون ثقيلة مرهقة، ومشحونة بالغيرة والصراعات.
إذا كان التملك هو أساس الإحساس بالهوية، لأني لست إلا ما أملك، فإن هذا لا بد من أن يفضي إلى الرغبة في أن أملك الكثير، وأن أستزيد إلى غير حدود. أي أن الشراهة والجشع هما النتيجة الطبيعية للتوجه التملكي. ويمكن أن يتخذ الجشع أشكالا مختلفة منه: جشع البخيل، وجشع التاجر الباحث عن مزيد من الأرباح، وكذا جشع زير النساء، وجشع
صائدة الرجال. وأيا كان الشيء الذي يسيل له اللعاب فإن الجشع لا يشبع أبداً. إن الجوع الذي من هذا النوع يختلف عن الجوع الفسيولوجي الذي له حد من الاكتفاء تحدده الحالة الفسيولوجية للجسم. أما الجشع الروحي - وفي رأينا أن كل جشع هو جشع روحي ، حتى لو كان المصاب به يسعى إلى إشباعه عن طريق البدن- فهذا ليس له حد للاكتفاء لأن أي محاولة مادية لإشباعه لا تستطيع أن تملأ الفراغ الداخلي في النفس البشرية ، ولا أن تخفف أحاسيس الملل والوحدة والاكتئاب التي هي أصل الداء. وأكثر من هذا، لما كان كل ما يملك المرء يمكن أن يؤخذ منه بشكل أو بآخر فلا بد من أن يسعى للمزيد لكي يدعم وجوده في مواجهة هذا الخطر. وحيث إن هذه رغبة تستبد بالجميع فلا بد من أن يخاف كل شخص من الآخرين حتى من أقرب الناس إليه. ولكيلا يصبح ا لمرء ضحية للعدوان فلا بد من أن يسعى هو نفسه للقوة، ويصبح عدوانياً، كذلك لما كان من المستحيل أن يكفي الإنتاج، مهما بلغ حجمه، الرغبات ا لمتعاظمة إلى غير حدود، فلا بد من أن تسود المنافسة والعداء بين الأفراد المتصارعين من أجل الاستحواذ على الأكثر دائماً. ولن يتوقف الصراع حتى لو أمكن الوصول إلى الوفرة المطلقة، فسيوجد دائماً أناس يملكون قدراً أقل من الصحة البدنية، والجاذبية والموهبة والكفاءة، ولن يكفوا عن الإحساس بالمرارة، ومن أولئك الذين يملكون أكثر.

في نمط الكينونة، لا يكون للتملك الخاص أو الملكية الخاصة إلا أهمية وجدانية ضئيلة، حيث لا تنشأ الحاجة لامتلاك شيء لكي أستمتع به، أو حتى لكي أستعمله وأستفيد منه. ففي نمط الكينونة يمكن لأكثر من شخص، وفي الحقيقة يمكن لملايين الناس أن يشتركوا في الاستمتاع بالشيء نفسه، حيث لا توجد حاجة، كما لا يرغب أحد في امتلاكه كشرط للاستمتاع به، ولا يعني هذا منع وقوع صراع فحسب، وإنما يعني أيضا خلق أسمى شكل من أشكال السعادة الإنسانية، ألا وهو المتعة المشتركة. فليس أقدر على توحيد البشر دون النيل من ذاتيتهم من المشاركة في الإعجاب بشخص أو محبته، أو المشاركة في الاقتناع بفكرة، أو في الطرب لأغنية أو لقطعة موسيقية، أو الإعجاب بصورة أو رمز، أو المشاركة في أداء الشعائر، أو الإحساس المشترك بالأسى والحزن. إن متعة المشاركة هي التي تحتفظ بالحيوية في العلاقات بين اثنين وهي الأساس الذي قامت عليه كل الديانات، وجميع الحركات السياسية والفلسفية الكبرى. وغنى عن القول إن هذا الكلام يصدق طالما ظل الإعجاب حقيقياً، وبقدر ما تكون المحبة صادقة. ولكن عندما تصاب تلك الحركات بالتحجر والجمود، حيث البيروقراطية تحكم وتسير البشر بمزيج من الإيحاء والتهديد، فإن المشاركة تكف عن أن تكون مشاركة في المشاعر والمعاناة والمتعة، وتتحول إلى مشاركة في الأشياء.
وبينما جعلت الطبيعة من الفعل الجنسي نمطاً، وربما رمزاً للمتعة المشتركة، فإن الواقع العملي يشهد بأنه ليس بالضرورة كذلك. فغالباً ما يكون الطرفان من النرجسية وحب الذات إلى الحد الذي يجعلنا لا بصدد
متعة مشتركة، وإنما هي في أحسن الأحوال متعتان منفصلتان متزامنتان.
(خلاصة القول): "بينما يتناقص التملك بالاستخدام تتعاظم الكينونة بالممارسة.. الطريق للكينونة يتطلب احتراق المظهر والوصول إلى الجوهر."

 

إريك فروم
من كتاب: "الإنسان بين الجوهر والمظهر - أنتملك أم نكون؟"