قراءة الكتب القديمة (الكلاسيكيات)

ديفيد هنري ثورو ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

إن الطالب المغامر سوف يدرس دومًا الكلاسيكيات أيًا كانت لغتها ومهما بلغ عتقها. فما هي الكلاسيكيات إلا أنبل أفكار الإنسان المسجَّلة. إنها الوحي الوحيد غير الفاسد، تحوي إجابات على معظم التساؤلات العصرية، إجابات لم يمنحها قط مهبطا الوحي، دلفي و دودونا[1].

قد نهمل أيضًا دراسة الطبيعة لأنها عتيقة. إن القراءة الجيدة –أي قراءة الكتب الحقيقية المتسمة بروح حقيقية– ممارسة نبيلة سوف تعهد القاري بمهام أكثر من أي ممارسة قد تسمح بها عادات اليوم. تتطلب تمرينًا أشبه بتمرينات يخضع لها الرياضيون، تتطلب عزمًا مطردًا طيلة الحياة كلها تقريبًا من أجل تحقيق هذا الغرض. يجب أن تُقرأ الكتب بمثل ما كُتبت بهما من تروٍ وتحفظ. لا عجب أن حمل الإسكندر الأكبر الإلياذة معه في حملاته داخل علبة ثمينة. كلمة مكتوبة في أروع الآثار. إنه عمل أكثر حميمية لدينا، وفي الوقت نفسه أكثر عالمية من أي عمل فني آخر. عملٌ فني أقرب إلى الحياة ذاتها. قد يُترجم إلى كل اللغات، لا يُقرأ فقط، وإنما تتنفسه بحق كل الألسنة البشرية؛ لا يصور على قماش القنب أو الرخام فسحب، وإنما يُنحت من نفس الحياة ذاته. إن رمز فكر الرجل العتيق يصبح حديث الرجل العصري. لم يسبغ ألفان من الأصياف على آثار الأدب اليوناني –وكذا تماثيلها الرخامية- إلا درجة ذهبية خريفية أنضج، فقد حملوا جوهم الصافي السماوي إلى كل الأراضي كي يحموا أنفسهم من تآكل الزمن. إن الكتب هي ثروة العالم الثمينة والإرث اللائق للأجيال والأمم. تقف الكتب الأقدم والأفضل على نحو طبيعي ومستحق على رفوف كل كوخ. لا قضية خاصة تدافع عنها، ولكن بينما تنير القارئ وتغذي فكره، لن ترفضها فطرته السليمة. مؤلفوها نخبة طبيعية لا سبيل إلى مقاومتها من كل مجتمع، يمارسون تاثيرًا على البشرية يفوق تأثير الملوك والأباطرة. حين كسب التاجر الأمي –وربما المحتقر- بالمغامرة والمثابرة راحة واستقلالية اشتهاهما ثم انضم إلى دوائر الثروة والمنزلة الرفيعة، من المحتوم أن ينصرف في النهاية إلى دوائر لا تزال أرقى وإن استعصى عليه دخولها، دوائر من الفكر والنبوغ، ولا يكون حساسًا إلا من نقص ثقافته وفراغ ثروته وقصورها، ويبرهن أيضًا على فطنته حين لا يألو جهدًا لضمان تلك الثقافة الفكرية لأطفاله، ثقافة يشعر بافتقارها بكل جوارحه؛ وهكذا يؤسس أسرته.

لابد أن علم من لم يتعلموا قراءة الكلاسيكيات العتيقة بلغتها نقص كل النقص عن معرفة الجنس البشري وتاريخه؛ فمن اللافت للنظر عدم وجود نسخة لها في أية لغة حديثة ما يُنظر إلى حضارتنا نفسها باعتبارها تلك النسخة. لم ينطبع الشاعر هومر (هوميروس) نفسه باللغة الإنجليزية بعد، ولا إسخيلوس، ولا حتى فرجيل[2]–أعمال في مثل نقاء الصباح ذاته ورسوخه وجماله؛ فالكتاب اللاحقون، وقل ما تشاء عن عبقريتهم، نادرًا مما –إن حدث على الإطلاق- ضاهوا جمالاً وكمالاً متقنين تميز بهما القدماء وجهدًا أدبيًا عظيمًا متواصلاً مدى الحياة بذلوه. من يتحدث عن نسيانهم هم الجاهلون بهم. لن نلبث أن ننساهم حين ننال علمًا وعبقرية تمكنانا من الاهتمام بهم وتقديرهم. الحق أن هذا العصر سوف يتميز بالثراء حين تتجمع تلك الآثار المسماة بالكلاسيكيات –بل وكتب الأمة المقدسة، كتب أقدم وأكثر كلاسيكية وأقل شهرة- حين يمتلئ الفاتيكان بكتب الهندوس الدينية الفيدا وكتاب الزرادشتية زندافيستا والأناجيل، بكتب هومر (هوميروس) ودانتي وشكسبير، وسوف تودع كل القرون القادمة تذكاراتها على التوالي في منتدى العالم. وبهذا الركام قد نأمل أن نصعد أخيرًا إلى قمة الفردوس.

لم تقرأ البشرية بعد أعمال الشعراء العظام، فالشعراء العظام هم القادرون وحدهم على قراءتها. لم تُقرأ إلا كما يقرأ العامة النجوم، بالتنجيم، لا علم الفلك. تَعَلَّم أغلب الناس القراءة لانتهاز فرصة تافه، مثلما تعلموا الحساب ليقيدوا مواردهم دون أن يغشهم شخص في التجارة؛ ولكنهم يعرفون القليل عن القراءة كممارسة فكرية نبيلة أو لا يعرفون شيئًا؛ ولكن تلك القراءة، بمعنى أسمى، ليست قراءة تهدئنا بوصفها ترفًا، ومن ثم نعاني طيلة الوقت نوم ملكاتنا العقلية الأنبل، ولكنها ما ينبغي أن نقف على أطراف أصابعنا لنقرأه ونكرس له ساعاتنا الأكثر يقظة وانتباهًا.

 

ديفيد هنري ثورو

من كتاب "ولدن"

 

 

 

 

 



[1] مدينتيّ دلفي و دودونا باليونان القديمة

[2]فرجيل: شاعر روماني (19-70 قبل الميلاد). كان ثورو يحتقر التراجم المتاحة وقتذاك (القرن الثامن عشر)