ثقافة التملك (التكديس والاستحواذ)

إيريك فروم ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

للعيش بعدان اثنان: الإنسان يتحرك ويفعل، ويُنتج ويخلق، وباختصار: إنه فاعل. لكن الإنسان لا يتصرف من الفراغ، ولا بدون جسده ولا في عالم روحاني، إذ يتوجب عليه التعامل مع أشياء. تشير تصرفاته إلى أشياء يقوم بنقلها أو خلقها، سواء كانت هذه الأشياء حيوية أم لا.

 

"الشيء" الأول الذي يجب عليه التعامل معه هو جسده الخاص، وفيما بعد، عليه التعامل مع أشياء إضافية: مع الخشب من أجل إشعال النار أو لبناء المأوى. ومع الفاكهة، والحيوانات، والحبوب للحصول على الطعام. ومع القطن والصوف للحصول على الملابس. ومع تطور الحضارة فإن عالم الأشياء التي كان على الإنسان التعامل معها تضاعف مرارًا. وانضم إلى قائمة الأشياء الأسلحة والمنازل والكتب والآلات والسفن والسيارات والطائرات، وعلى الإنسان التعامل مع كل ما سبق.

كيف يتعامل الإنسان مع الأشياء؟ إن يُنتجها، ويُغيرها ويستخدمها ليجعل منها أشياء أخرى يستهلكها. إن الأشياء بحد ذاتها لا تقوم بأي فعل، إلا عندما يجعلها الإنسان على نحوٍ تُنتج فيه بنفسها.

يختلف التناسب بين الأشياء والأفعال مع كل حضارة. وبالتناقض مع التنوع الكبير للأشياء المحيطة بالإنسان الحديث، فإن قبائل الصيادين البدائيين وجامعي الطعام، على سبيل المثال، تعاملوا مع أشياء قليلة قياسًا لما يوجد حاليًا: عدد قليل من الأدوات، عدد محدد من الشباك وأسلحة الصيد، بالكاد بعض الملابس، وقليل من المجوهرات والأواني، ولكن دون مأوى محدد. لقد كان على الإنسان البدائي أن يتناول طعامه بسرعه حتى لا يفسد.

وفي مقابل عدد الأشياء التي يتعامل معها الإنسان (أو التي تحيط به بكل بساطة)، يأتي تقييم وزن أعماله. وبالطبع فإن الإنسان يشعر ويرى ويسمع، لأن نظامه الحيوي مبني بشكل متين بحيث أنه فعليًّا لا يملك خيارًا آخر. إنه يرى الحيوان الذي بإمكانه أن يقتله ليحصل على الطعام، وهو يسمع الأصوات التي تحذره من الخطر المحدق به. إن السمع والرؤية يحققان الهدف البيولوجي، وهو البقاء. لكن الإنسان لا يسمع فقط بهدف البقاء. إنه يسمع أيضًا كميزة "إضافية"، ومن منظور بيولوجي، لا يخدم ذلك أي هدف بيولوجي محدد، باستثناء الهدف العام لرفع طاقة الحياة، والصحة والحيوية. عندما يسمع الإنسان بهذه الطريقة غير الهادفة، فإننا نقول إنه يستمع. إنه يستمع إلى أصوات الطيور ونقر قطرات المطر وإلى ألحان الأغاني، وإلى معزوفة لباخ. لقد أصبح السمع ما وراء بيولوجي مؤنسن، فعّال، خلاّق، "حر" أكثر من مجرد استجابة بيولوجية ضرورية.

والأمر نفسه ينطبق على النظر حين ننظر إلى التحف الجميلة لأقدم الأواني الطينية، حركة البشر والحيوانات في رسمٍ عمره 30,000 سنة على جدران كهف قديم، الإشراق الذي يعلو وجوه المحبين، والرعب الناجم عن الدمار الذي فعلته يد الإنسان. وقد قمنا بتحويل دوافعنا الداخلية من فعل بيولوجي ضروري إلى عالم من الحرية، ومن وجود "الحيوان" إلى "الإنسان". تنطبق هذه الحقيقة على حواسنا الأخرى: التذوق، واللمس، والشم. إذا كنت أحتاج لتناول الطعام لأن جسدي يحتاج إلى الطعام فإن العارض المعتاد لهذه الحاجة هو الجوع. وإذا أراد المرء أن يأكل لأنه يستمتع بتناول الطعام اللذيذ، فإنه يتحدث، من دون شك، عن الشهية. إن الطعام المتقن منتج جراء تطور الحضارة كما هي الموسيقى والفنون، والأمر لا يختلف عندما يتعلق بالشم. (ومن وجهة نظر علم النشوء فإن الشم هو إحدى الحواس البدائية لتكيف الحيوانات تمامًا كما هو النظر عند الإنسان). إن الفرح عند شم روائح شهية، مثل رائحة العطور مثلاً، هو اكتشاف إنساني قديم، وهو يقع ضمن نطاق الترفيه وليس ضمن نطاق الحاجة البيولوجية. والفارق نفسه فيما يتعلق باللمس موجود دون شك وإن كان أقل وضوحًا. أعتقد أني لا أحتاج إلا لتذكير القارئ بما بين من الناس يلمسون الآخرين كما أنهم يلمسون قطعة من القماش ليتعرفوا على نوعيته، وبين أولئك الذين يلمسون بدفء وعاطفة.

الفارق بين الحاجة البيولوجية والحاجة الغريزية (وأحدهما يكمّل الآخر)، من ناحية أولى، هو أن الحاجة البيولوجية هي تمرين للمشاعر خال من البهجة، ومن الناحية الأخرى يمكن للحاجة الغريزية أن تتحدد بوضوح في الفعل الجنسي الذي تتشارك فيه كافة الأحاسيس. قد يكون الجنس هو تعبير مهذب عن الحاجة البيولوجية –أي أنه مُسيّر، ومُقيّد، وغير متميز- وقد تكون وسيلة ترفيه حقيقية، وفعالة، ومبهجة، وحرة. والفارق الذي ألمح إليه هنا هو بين نوعين من الأفعال: فعل سلبي ومسيّر، وآخر خلاّق ومنتج وفعّال. وستتم مناقشة هذا الفارق بينهما بشكل مطول لاحقًا.

عند هذه النقطة أريد التأكيد أنه بينما يكون نطاق الأشياء أصغر بشكل لا يقارن بالنسبة للصياد البدائي أكثر مما هو بالنسبة للإنسان السبراني cybernetic (كناية عن الإنسان في عصر الآلة والتكنولوجيا)، فإن قطاع الأفعال البشرية لا يعرض مثل هذا التناقض. وفي الحقيقة، توجد أسباب جيدة لافتراض أن الإنسان البدائي فعل أكثر وكان أكثر فعالية من الإنسان في المجتمع الصناعي. وهنا دعونا نلقي نظرة سريعة على أحواله.

بداية قام الإنسان البدائي بنفسه بكل عمل وجب عليه فعله، إذ لم يكن لديه عبيد يعملون عنده، ولم تكن النساء تنتمي إلى الطبقة المستغلّة، لم يكن لديه الآت ولا حتى حيوانات تقوم بالعمل عوضًا عنه. اعتمد على نفسه بالكامل، وليس على أحد سواه، عندما كان الأمر يتعلق بالنشاطات الفيزيولوجية. وفيما يتعلق بالتفكير والملاحظة والتخيل والرسم والتنبؤ الفلسفي والديني، فإن إنسان ما قبل التاريخ كان متأخرًا كثيرًا عن الإنسان في عصر الآلة. ويبدو هذا الفرق صحيحًا لأننا متأثرون بفكرة أن التعليم المتزايد متناسب مع الأنشطة الفكرية والغنية المتزايدة. لكن هذا الأمر ليس صحيحًا بالمطلق، وهكذا فإن ثقافتنا لا توصل إلى التفكير المتطور أو تطوير المخيلة النشطة.

يفكر الإنسان العادي في يومنا هذا في نفسه بأقل قدر ممكن، وهو يتذكر البيانات كما قدمتها له المدرسة، والإعلام الجماهيري، وهو عمليًّا لم يحصّل أي معرفة عن طريق الملاحظة والتفكير، كذلك لا يتطلب استخدامه للأشياء الكثير من الفكر أو المهارة. ثمة فقط نمط واحد من الآلات التي لا تحتاج إلى مهارة أو جهد على الإطلاق، مثل الهاتف، ونمط آخر من الآلات هو السيارة والتي تحتاج إلى بعض التعلم التمهيدي، وبعد مدة عندما تصبح عملية القيادة روتينية، فإنها لا تتطلب سوى قدر قليل من الجهد والمهارة. وكذلك لا يفكر الإنسان المعاصر –بمن فيهم جماعات المثقفين- كثيرًا بالمشكلات الفلسفية أو الدينية ولا حتى السياسية. إنه عادة ما يتبنى إحدى العبارات المتكررة الكثيرة التي يطرحها عليه أحد المتحدثين باسم الدين أو السياسة، أو يقرأها في كتاب يتناول الدين أو السياسة يطرحها عليه أحد المتحدثين أو الكتب الدينية أو السياسية)، لكن الاستنتاجات لا تصله نتيجة تفكيره الثاقب والنشط. إنه يختار العبارة التي تروقه وتعجب طبقته الاجتماعية.

إذا كان الإنسان البدائي يقف موقفًا مختلفًا تمامًا، وبالمعنى الحديث لإمضاء وقت محدد في مؤسسة ثقافية، فإن ثقافته محدودة للغاية. وهو شخصياً مجبر على المراقبة والتعلم من ملاحظاته. إنه يراقب الطقس، وتصرفات الحيوانات، وتصرفات البشر الآخرين، إن حياته بأسرها تعتمد على اكتسابه لمهارات معينة، وهو يكتسب هذه المهارات عن طريق أفعاله وتصرفات، وليس في "20 درس مبسط".

إن حياته عبارة عن عملية تعلم مستمر. لقد رسم دبليو. إس. لوغلين صورة بارعة عن طيف واسع من الأنشطة العقلية للإنسان البدائي الصياد: "هنالك إسهاب في التوثيق، وللأسف القليل من الدراسات المنهجية، لافتراض أن الإنسان البدائي كان واسع المعرفة في عالمه الطبيعي. إذ تضمنت معرفته هكل ما يتعلق بعالم الحيوان الذي تراه العين المجردة، من الثدييات، والجرابيات، والزواحف، والطيور، والأسماك، والحشرات والنباتات. بالإضافة إلى معرفته بحركة المد والجزر، والظواهر الجوية العامة، وعلم الفلك، بالإضافة إلى بعض المتابعات للعالم الطبيعي التي تم تطويرها في التمييز بين الأنواع مع الإشارة إلى تطور واتساع مجال معارفهم، ومجالات المعرفة التي كانوا يركزون عليها.. وسوف أشير هنا فقط إلى صلة هذه الثقافة بنظام سلوك الصيد وأهميته لتطور الإنسان.. الإنسان –الصياد كان يتعلم سلوك الحيوان وتشريحه، بالإضافة إل سلوكه الشخصي وتشريحه. لقد دجّن نفسه أولاً وبعد ذلك انتقل إلى الحيوانات الأخرى والنباتات. وبهذا المعنى فإن الصيد كان مدرسة للتعلم جعلت من النوع البشري ذاتي التعلم (دبليو. إس. لوغلين 1968).

إن المثال الآخر على التقييم المشوّه لأنشطة الإنسان المعاصر العقلية هو فن القراءة والكتابة. يعتقد الإنسان المعاصر أن إتقان هذا الفن هو إشارة بما لا شك فيه على التطور. إن أعظم الجهود تبذل لمحو الأمية كما لو أنها علامة على مرض عقلي، إذ يُقاس تطور الأمة –وبمعزل عن عدد السيارات فيها- بنسبة الأشخاص الذين بمقدورهم القراءة والكتابة. إن هذه الآراء القيمية تتجاهل حقيقة أن الشعوب (الأمم) التي يقتصر عندها فن القراءة والكتابة على فئات صغيرة من الكهنة والعلماء (الطلاب) –أو ربما لا يتواجد عندها هذا الفن أصلاً- تمتلك ذاكرة استثنائية. والإنسان الحديث يفهم بصعوبة كيف أن نصوصًا كاملة مثل الفيدا، والنصوص البوذية، وكتب العهد القديم، والتقليد اليهودي الشفهي اللاحق والذي انتقل بأمانة من جيل إلى جيل، ولمئات من السنوات، قبل أن يتم تدوينه. وعلى النقيض من ذلك، فقد راقبت الناس –مثلاً: الفلاحون المكسيكيون –الذين حتى لو كان بمقدورهم القراءة والكتابة، لكنهم لا يقومون بذلك بشكل متواصل، إن الذاكرة هنا جدية بصورة مميزة لأنهم لا يدونون الأشياء والمعلومات.

بمقدور أي كان القيام بمثل هذه الملاحظات بنفسه، وحالما يكتب شيئًا ما، فسوف يتوقف عن القيام بجهد، وهذا ما يتطلب التذكر. لم يكن الإنسان بحاجة لتدوين البيانات في دماغه، لأنه قد قام بتخزينها في جهاز احتياطي: مخطوطات ورقية، أوراق، أو شرائط تسجيل. إنه يشعر بأنه لا يحتاج إلى التذكر، إذ يتم تخزين المحتوى بأمان في الملاحظات التي أبداها. وفي هذه الحالة فإن ملَكَة الذاكرة ستعاني  من نقص الممارسة، واليوم بإمكان المرء ملاحظة رغبة الناس في تجنب التفكير النشط حتى لو كان بجرعات بسيطة جدًا، ومثال هذا هو البائع الذي يقوم في متجر بإضافة الخانات الثلاثية إلى الجهاز بدلاً من القيام بنفسه بذلك.

ويمكن رؤية نفس مبدأ النشاط الأعظم الذي يقوم به الإنسان البدائي في الفن. إن الصياد البدائي وجامع الطعام قد قاموا منذ ما يقارب الـ30,000 سنة خلت برسم المشاهد الأثر استثنائية للحيوانات والإنسان، وقلة قليلة منها وصلتنا محفوظة بحالة جيدة في كهوف في الجنوب الفرنسي والشمال الأسباني. إن هذه الرسوم الجميلة هي متعة للعين، حتى إن كان المتفرج هو إنسان معاصر اعتاد على رسم أعظم أساتذة الفن في القرون الأخيرة. لكن حتى إذا أردنا أن نقول إن رسامي الكهوف عباقرة (يمكن أن نطلق عليهم لقب دافينشي ورامبرانت العصر الجليدي الحديث)، فلا يمكننا إطلاق التوصيف نفسه على الأواني الطينية والأدوات الأخرى، والتي يعود تأريخها إلى أقدم حقبة في عصور ما قبل التاريخ. وما أكثر ما قيل إن لرسومات الكهوف، ومثلها هذه الحلي، هدفًا سحريًّا، مثل المساهمة في نجاح الصيد، ومحاربة الأرواح الشريرة، وقس على ذلك. لكن، وإن افترضنا أن هذا صحيح، مهما تكن أهداف رسمِها عملية، فلم يكن من المطلوب أن تُرسم بهذا الجمال. بالإضافة إلى ذلك، إن تزيين الأواني الطينية لم يكن إبداع مثل أولئك العباقرة الرسامين. ويثبت أسلوب كل مجموعة في التزيين –وغالبًا ما تكون الاختلافات طفيفة- أن لهؤلاء الناس اهتمامات فنية جمالية فعالة.

لقد تحدثت حتى الآن عن أكثر الحضارات "بدائية"، عن الصيادين البدائيين وجامعي الطعام، وما الذي يمكننا معرفته وتخمينه عن حضاراتهم، على الأقل منذ الظهور الكامل للإنسان العاقل منذ 40,000 إلى 50,000 سنة خلت؟ لقدصنعوا بعض الأشياء بأيديهم، لكنهم كانوا بالغي النشاط في تطبيق قدراتهم العقلية في مجالات التفكير والملاحظة والتخيل والرسم والنحت. وإذا أراد المرء وصف العلاقة بين "نطاق الشيء" قياسًا إلى "نطاق الفعل" باستخدام مصطلحات نسبية، فبإمكانه القول إن النسبة بين أكثر الشعوب بدائية هي 1 (شئ) مقابل 100 (فعل)، بينما تتغير هذه النسبة لدى الشعوب المعاصرة لتصبح 100 (شئ) مقابل 1 (فعل).

يعرض علينا التاريخ العديد من الاختلافات بين هذين النقيضين المتطرفين. كان المواطن اليوناني في فترة ازدهار الديمقراطية اليونانية بالتأكيد محاطًا بأشياء أكثر مما كان الصياد، ومع ذلك فقد كان مهتمًا، وبكل نشاط، بشؤون الدولة. لقد تطور واستخدم عقله إلى درجة استثنائية، لقد كان منهمكًا على المستويين الفني والفلسفي. ماذا نريد أن نعرف أيضًا عن أمة أكثر من معرفتنا بالمسرحيات التي ألفها سوفوكليس وأسخيلوس والتي شكلّت الطبيعة الفنية لمواطني أثينا؟ وما الذي نقوله عن السلبية الجمالية والعاطفية لشخص معاصر من نيويورك، إذا ما حاولنا معرفة ما هي المسرحيات والأفلام التي تثيره وتحمسه؟ وكذلك هي الصورة التي نحاول رسمها عن حياة حرفي من العصور الوسطى، إنها مختلفة وفي الوقت نفسه مشابهة لما ذكرناه سابقًا. لقد أنجز عمله باهتمام وعناية، ولم يكن ضجرًا مما يفعله. إنّ صنع طاولة كان خلاّقًا حقًّا، بمعنى أن الطاولة كانت حصيلة جهوده وتجربته ومهاراته وذائقته. وقد قام وحيدًا بفعل معظم ما توجب عليه فعله، كما كان مرتبطًا بشكل نشط مع مجموعة من النشاطات العامة، مثل: الغناء والرقص وخدمة الكنيسة. لقد كان الفلاح أسوأ من الناحية المادية: فهو لم يكن حرًا، لكنه في الوقت نفسه لم يكن عبدًا. لم يكن العمل في الحقول يمنح الرضا (وهنا أنا أتحدث بصورة خاصة عن الفترة التي سبقت تدهور مكانة الفلاح بشكل ملحوظ في القرن السادس عشر). لكنه، ومع ذلك، شارك في واستمتع بالحياة الثقافية الغنية المبنية على حضارة قومه. لم يكن الفلاح أو الحرفي يريان الآخرين يعملون ويبذلون الجهود أو يرفهون أنفسهم أو يعانون. ومهما يكن يملأ حيواتهم، إلا أنه كان نتيجة كبيرة لأفعالهم الخاصة وتجربتهم الشخصية. حتى في حالة الحرفي، والذي يُعتبر أكثر تطورًا من الفلاح على المستوى الاجتماعي والمالي، لم يكن يملك الكثير باستثناء منزله وأدواته، وهو يكسب تمامًا ما يناسبه ليعيش تبعًا للمعايير التقليدية للعيش ضمن طبقته الاجتماعية. كما لم يكن يرغب في الحصول على، أو استهلاك المزيد، إذ لم يكن هدفه الاستحواذ على الثروة، بل الاستخدام الفعّال لملكاته الخاصة وسعادة الوصول إلى هدفه.

إن الإنسان المعاصر، في المجتمع السيبراني cybernetic محاطًا بكمية من الأشياء بعدد النجوم في السماء. ومن المؤكد أنه قام بإنتاج معظمها. لكن هل هو من فعل ذلك حقًا؟ إن العامل في مصنع ضخم لا ينتج شيئًا. من المؤكد أنه يشارك في إنتاج سيارة، أو ثلاجة كهربائية، أو معجون أسنان. لكن، بناءً على طبيعة العملية الصناعية الإنتاجية، فإنه يقوم ببضع حركات نمطية، يضع فيها مجموعة من البراغي، أو المحرك، أو الباب. ولا يرى المنتج في حالته النهائية سوى العامل الذي يوجد في نهاية الخط الإنتاجي، أما الآخرون فيرون المنتج بحالته النهائية في الشوارع والأسواق فقط. إنهم يمتلكون ويحوزون على سيارة أرخص، وهم فقط يرون السيارة الثمينة يقودها الناس الأفضل. لكن لا يمكن قول إن ذلك العالم وحده قد قام بإنتاج سيارة إلا بالمعنى المجرد. ففي المقام الأول، قامت الآلات بإنتاج السيارة (وآلات أخرى قامت بإنتاج الآلات التي تنتج السيارة). إن العامل –بصفته أداة حيّة وليس بصفته إنسانًا كاملاً- يقوم بدور في الإنتاج في أداء المهام التي لا يمكن أن تقوم بها الآلات (أو قد تكون باهظة التكاليف).

قد يدعي المهندس أو المصمم أنهما هما من قام بإنتاج السيارة، لكن من المؤكد أن هذا ليس صحيحًا. قد يكونان شاركا بحصتهما في الإنتاج، لكن ليس هما من أنتج السيارة. وفي نهاية المطاف، سيدعي التنفيذي أو المدير أنه هو من أنتج السيارة، فهو يعتقد ذلك لأنه أدار عملية الإنتاج بأكملها، فهو إذن من أنتج السيارة. لكن هذا الادعاء هو أكثر التباسًا من ادعاء المهندس. فنحن لا نعرف فيما إذا كان المهندس –بصفته الفيزيائية- ضروريًّا حقًا لإنتاج السيارة. إن ادعاءه هذا مشكوك فيه تمامًا كادعاء القائد العسكري الذي يصرّ على أنه فتح حصنًا أو انتصر في معركة، بينما الحقيقة الواضحة هي أن جنوده هم من فتح الحصن وخاضوا المعركة بأنفسهم. هم تحركوا، وهاجموا، وجرحوا أو قتلوا، بينما هو قام بإعداد الخطط وأشرف على تنفيذهم المنضبط للخطة. وفي بعض الأحيان فإن الفوز في المعركة يكون نتيجة لعدم كفاءة القائد المعادي مقارنة بالقائد الآخر، وهكذا فإن النصر يصبح حليفًا نتيجة أخطاء العدو. والمشكلة هنا أن الدور الإنتاجي للوظيفة الإدارية والتوجيهية، والتي لن أخوض فيها أكثر من التالي: بالنسبة للمدير فإن السيارة تحولت من الظهور الفيزيائي لها بمغادرتها لخط التجميع لتصبح بضاعة، وهذا يعني أن السيارة بالنسبة إليه ليست اهتمامًا رئيسيًا بسب قيمة استخدامها الحقيقية، لكن بسبب قيمة استخدامها الوهمية، والتي يتم تقديمها بالإعلانات التي تخدع عقل المشتري المتوقع بكافة أنواع البيانات غير المتعلقة بها، بدءًا من النساء المثيرات وصولاً إلى السيارات ذات المظهر "الذكوري". والسيارة بصفتها بضاعة هي، بمعنى ما، منتج المدير، الذي أصدر أوامره بأن تكون السيارة الحقيقية ذات مواصفات رابحة تجعلها ذات جاذبية خاصة عند البيع.

يمكن للإنسان المعاصر أن يُنتج تأثيرات في العالم المادي أكثر مما كان بمقدور الإنسان القديم تحقيقه. لكن هذه التأثيرات غير متساوية بالمطلق مع الجهود الفيزيائية والذهنية التي تُستثمر فيها. إن قيادة سيارة قوية لا تتطلب قوة جسدية أو مهارة أو ذكاء خاصين. بينما قيادة الطيارة تتطلب مهارة عالية، وإسقاط قنبلة هيدروجينية أيضًا لا يحتاج إلى مهارة فائقة. وللتأكيد هنالك بعض الأنشطة التي لا تزال بحاجة إلى مهارة وجهد جديرين بالاعتبار: مثل عمل الحرفيين، والأطباء، والعلماء، والفنانين، والعمال المؤهلين بكفاءة عالية، والطيارين، والصيادين، والمزارعين، وغير ذلك من مثل المهن. لكن هذه النشاطات التي تتطلب المهارة تتناقص بشكل حاد، فالغالبية العظمى من الناس يكسبون عيشهم من عمل يتطلب القليل من الذكاء، والخيال والتركيز. لم تعد التأثيرات الفيزيائية (أي النتائج) متناسبة مع الجهد الإنساني، وهذا الفصل ما بين الجهد (والمهارة) والنتيجة هو أحد أكثر السمات المرضية ذات الأهمية في المجتمع الحديث، لأنه ينزع إلى خفض الجهد لتقليص أهميته.

وهنا لابد أن نصل إلى النتيجة الأولى: على عكس وجهة النظر المقبولة عمومًا، فإن الإنسان المعاصر، وبشكل أساسي، عاجز للغاية في علاقته مع عالمه، وهو لا يظهر قويًا إلا ليسيطر على الطبيعة بشكل استثنائي. لكن هذه السيطرة تكاد تكون متحولة بالكامل، إنها ليست نتيجة لقواه الإنسانية الحقيقية، إذ تعزي إلى "الآلة الضخمة" التي تمكنه من تحقيق الكثير دون أن يفعل الكثير أو أن يكون الكثير.

وهكذا يمكننا القول إن الإنسان المعاصر يعيش في علاقة تكافلية مع عالم الآلات، وبقدر ما يكون جزءًا منها، فإنه –أو هكذا يبدو- يكون قويًا. ومنعزلاً عنها، وبالاعتماد على نفسه فقط، ومستخدمًا لمصادره الخاصة، فإنه عاجز مثل الطفل الصغير. ولهذا السبب يعبد آلاته: إنها تعده بقوتها، وتمنحه وهم أنه عملاق، في حين أنه بعيدًا عن آلاته يُصبح عاجزًا تمامًا. عندما صدّق الإنسان في عصر آخر أن آلهته قد منحته قوتها، فقد كان هذا مجرد وهم، باستثناء أنه أسقط قوته على آلهته، حيث تلقى بعض هذه القوة عند عبادتها. وينطبق الأمر ذاته على عبادة الآلة. وتأكيدًا على هذا، لم يكن بعل وعشتار مختلفين عما فكر به الإنسان. ولم تكن هذه الآلهة، كما وصفها ناقد تنبؤي، سوى قطعة من الخشب أو الحجر، وكانت قواها هي بالضبط تلك التي نقلها الإنسان إليها، ثم استعاد جزءًا منها. لكن الآلات ليست مجرد قطعة غير فعالة من المعدن، بل إنها تخلق عالمًا من الأشياء المفيدة. والإنسان يعتمد حقًا عليها. لكنه، وتمامًا كما حدث مع الآلهة، هو من اخترع وخطط وبناها، وهي، تمامًا مثلما كانت الآلهة، عبارة عن نتاج لمخيلته، ولمخيلته التقنية التي أصبحت باتحادها مع العلم، قادرة على خلق الأشياء التي هي على أرض الواقع فعالة للغاية، لكنها في الوقت نفسه أصبحت قائدًا له.

وتبعًا للأسطورة، فإن بروميثيوس منح الإنسان النار ليحرره من الخضوع للطبيعة، لقد أخضع الإنسان نفسه في هذه المرحلة من التاريخ إلى النار التي كانت تحرره. والإنسان المعاصر، مرتديًا قناع المارد، أصبح ضعيفًا وعاجزًا لأنه يعتمد على الآلات التي صنعها، ومن الآن فصاعدًا فإن القادة الذين يضبطون سير المجتمع الذي يُنتج الآلات، يعتمدون على أعمال تسير بشكل جيد، ويعيشون حالة من الرعب من فقدان كل ما يملكونه، وأن يصبح واحدهم "إنسانًا دون مكانة ولقب"، أو مجرد كائن يواجه السؤال: "من أنا؟"

وباختصار، يملك الإنسان المعاصر الكثير من الأشياء، ويستخدم الكثير من الأشياء، لكنه ضئيل للغاية. إن آليات مشاعره وتفكيره ضامرة تمامًا كما يحدث مع العضلات غير المستخدمة. إنه يخشى من أي تغيير اجتماعي مصيري، لأن أي خلل في التوازن الاجتماعي يعني بالنسبة له الفوضى أو الموت، وإن لم يكن فعلاً الموت بمعناه الفيزيائي، فهو موت هويته.

 

إيريك فروم

من كتاب "فن الوجود"