التفكير النقدي Critical Thinking مع منظور عربي

د. نبيل علي ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢

مقدمة: أنواع التفكير

 

 أولاً: أنواع التفكير: الطرح العام

(أ) مستويات التفكير: التفكير مهارة ذهنية مركبة تتعدد مستوياتها، كما يوضح الشكل، على النحو التالي:

 

 

  • المستوى الأول: مستوى العمليات الذهنية الأولية، والتي يقوم بها المخ البشري، والتي تُستخدم في التفكير وأنشطة المخ الأخرى مثل الرؤية والتحكم في أعضاء الجسد المختلفة وللحديث بقية في الفقرة 8: 1: 2 من الفصل الثامن.
  • المستوى الثاني: مستوى أنواع التفكير الأساسية التي تسهم في نشاط التفكير على اختلاف أطواره وغاياته.
  • المستوى الثالث: المستوى الأداتي، والذي يشتمل على طورين أساسيين هما التفكير النقدي والتفكير الخلاق أو الإبداعي، واللذان يربط ابعض بينهما فيما يُطلق عليه التفكير العملي.
  • المستوى الرابع: ويمثل ذروة هرم التفكير عندما يتسامى إلى فكر تأملي يتجاوز المعرفي إلى الميتامعرفي، وغالبًا ما يجنح به طموحه في نهاية المطاف صوب الفكر الفلسفي الذي ينشد الإجابة عن أسئلة البدايات. أو طرح تساؤلات مستجدة أو إعادة طرح أخرى قديمة في صياغات جديدة.

(ب) أنواع التفكير الأساسية:كما يُوضح الشكل فقد أدرجنا في هذا المستوى من صنوف التفكير الأساسية تسعة أنواع، ويمكن تصنيفها بقدر من التعسف إلى أنواع تُركز على جانب تعدد حلول الإشكاليات مثل التفكير المتوازي والتبادلي والاحتمالي وأخرى ترُكز على جانبت تكفيك الإشكاليات مثل التفكير التحليلي والمنظومي والتجريدي، علاوة على التفكير الاستشرافي الذي يسعى إلى وضع تصور للتوجهات المرتقبة وكيفية التأهب لحلها، والتفكير التواصلي الذي يُركز على منهجية توصيل الأفكار والتعرف على وجهات نظر الآخرين.

(ج) أنواع التفكير الأدائي:المتمثلة في ثنائية التفكير النقدي والخلاق (الإبداعي)، فالتفكير إما أن يكون ابتكاريًا يصنع أفكارًا جديدة، وسيلته في ذلك توسيع نطاق التركيز والتعامل مع عدة احتمالات، فالأفكار كما قيل تنبثق من شقوق الاحتمالات، وإما أن يكون نقديًا، وسيلته في ذلك تمحيص الأفكار وتحليلها وتقييمها، وعلى العكس من نظيره الخلاق ينحو النقدي إلى تضييق نطاق التركيز وفرز الأفكار وتمييز أهمها وأكثرها مغزى بالنسبة إلى المشكلة رهن التناول. وقد استقر الرأي على اعتبار طوري التفكير النقدي والخلاق نمطي التفكير المحوريين اللذين يجب التركيز عليهما في تربية عصر المعلومات، وهناك بالطبع منطقة وسطى يلتقي فيها هذا النمطان على أساس أن لأي تفكير نقدي بعدًا إبداعيًا، بينما ينطلق التفكير الإبداعي في كثير من الأحيان من نقد القائم بغية تغييره.

 

ثانياً: أنواع التفكير: المنظور العربي

(أ) الموقف من مستويات التفكير:أقل ما يُقال عن موقف العرب من مستويات التفكير الأربعة أنه مترد في أغلب مظاهره، فعلى مستوى عمليات الذهن الأولية ليس للعرب إسهام يُذكر في مجال علم نفس المعرفة والا اللسانيات الأعصابية، وعلى مستوى قمة هرم التفكير فقد غربت الفلسفة عن ديارنا، فلم نعد ننتج فلاسفة صغارًا أو كبارًا، أما الموقف من طوري التفكير النقدي والخلاق فهما من الأهمية بمكان، ما يستوجب أن نوليهما عناية فائقة، لذا فقد خصصنا لهما في الدراسة الراهنة هذا الفصل والفصل الذي يليه، ويبقى لنا بعد ذلك المستوى الثاني وهو ما سنتناوله على الفور بقدر من التفصيل.

(ب) الموقف من عمليات التفكير الأساسية: فيما يخص مستوى عمليات التفكير الأساسية والتي يتعذر من دونها تنمية التفكير الأدائي، فهناك عدة جوانب سلبية للتفكير العربي، نوردها فيما يلي، تضعه –كما سنوضح- على الطرف النقيض من معظم التفكير الأساسية السالفة الذكر:

* فكر آحادي الأبعاد يرى الأمور عادة من زاوية واحدة، وهو ما يتعارض مع مفهوم التفكير المتوازي.

* فكر يسوده طابع رد الفعل، وهو ما يتنافى مع التفكير الاستشرافي.

* فكر قانع ملول يكتفي بأول بديل ويزهد في استعراض باقي البدائل، وهو ما يتنافى مع التفكير التبادلي.

* فكر يميل إلى اليقين وينشد الإجماع والتعامل مع القاطع، وهو ما يتنافى مع التفكير الاحتمالي.

* فكر وهنت صلاته مع العلوم الصورية من منطق ورياضيات ونظريات الأشكال والنظم (انظر الفقرة 3: 3: 5 من الفصل الثالث)، وهو ما يتناقض مع التفكير التجريدي.

* فكر ما أسهل أن ينزلق في متاهة التفاصيل التي تلهيه عن رؤية الصورة الشاملة، وهو ما يتنافى مع الفكر المنظومي.

* فكر يعاني نرجسية القبيلة وهو ما يجعله عاجزًا عن فهم الآخر المختلف، متمركز حول ذاته، وقد ضمرت لديه مهارات السجال والحوار (9) وهو ما يتنافى مع الفكر التواصلي.

* فكر توفيقي: ينطلق من ذلك المبدأ القائل بأن الحقيقة وسط بين طرفين وهو ما يتنافى مع الفكر التركيبي القائم أساسًا على الدمج بين العناصر وتفعيل علاقات الجدل بينها.

(ج) الموقف من أنواع التفكير الأدائي:وعلى مستوى التفكير الأدائي، سواء كان نقديًا أو إبداعيًا، فقد كثر الحديث عن أهميتهما في خطاب الإصلاح التربوي، بيد أن الحديث يظل في نطاق التصورات والتوصيات من دون ترجمتها إلى استراتيجيات ونماذج عملية لكيفية تعليم التفكير النقدي وتنمية نزعات التفكير الإبداعي، فخطابنا التربوي عمومًا يُسرف في التمني والوعود في حين يفتقد بشدة إلى الجوانب الإجرائية التي يمكن من خلالها تحويل هذا الطموح إلى واقع عملي ملموس.

 

 

التفكير النقدي Critical Thinking

 

أولاً: تعريفات التفكير النقدي ومعاييره وخصاله: الطرح العام

(أ) تعريف التفكير النقدي: منذ ما يقرب من 2000 عام كتب الفيلسوف الإغريقي أبوقراط "أن الفلسفة تبدأ من اكتشاف أسس الحكم على الأمور، وهو الحكم الذي يتطلب عمق الفهم وسداد الرأي ودقة التقييم، وما أروع حكمة فيلسوفنا الإغريقي، فما خلص إليه يمثل قوام ما اتفق على تسميته حديثًا بالتفكير النقدي الذي يعتبره البعض شرطًا من شروط الارتقاء الإنساني.

وقد صادف الكاتب كثيرًا من تعريفات التفكير النقدي خلال إبحار مستفيض عبر الإنترنت وقدر لا بأس به من الدراسات النفسية والتربوية والاجتماعية، وحتى يتاح للقراء تكوين رؤيتهم الخاصة عن هذا المفهوم المحوري من جماع هذه التعريفات نورد فيما يلي تصنيفًا موجزًا لها وفقًا لطابعها السائد:

  • تعريف ذو طابع تحليلي: يفكك التفكير النقدي إلى عدد من المهمات الذهنية الفرعية التي تشمل: تحليل الحقائق وتنظيم الأفكار والدفاع عن الآراء وعقد المقارنات والخروج بالاستنتاجات وتقييم الحجج وحل المسائل واتخاذ القرارات.
  • تعريف ذو طابع نفسي: يرى التفكير النقدي ملكة ذهنية، يصفها البعض بأنها غريزة هادفة وواعية وإرادية، وهي وليدة التعليم والتدريب والالتزام بالانضباط الفكري، وتشمل أدوات التفكير النقدي: التأويل وتقييم المعلومات والخبرات، وتتدخل فيه مجموعة من الميول النفسية والقدرات الذهنية التي تعمل على ترشيد رؤية المعتقدات والأفكار على أساس عقلاني.
  • تعريف وظيفي: يركز على الغاية من وراء التفكير النقدي، فيعرّفه بأنه تفكير تأملي فاحص لما يُطرح من آراء ومسائل بغرض قبولها أو رفضها أو تصويبها، وكذلك بغرض تعلم مفاهيم جديدة، وممارسة رقابة ذاتية على ما نفعله أو نعتقد فيه ما يزيد من احتمال تحقيق نتائج مرغوبة.

لقد طرأت على هذه التعريفات تغيرات جوهرية بفعل ثورة المعلومات وبزوغ مجتمع المعرفة الذي يتمركز حول التفكير من أجل الارتقاء بالتربية وزيادة فاعلية التواصل وشفافيته. وهو ما أضاف إلى التعريفات السابقة تعريفين:

  • تعريف ذو طابع معلوماتي: يركز على تنمية مهارات التعامل مع الفيض المتزايد من المعلومات، والتي تشمل المهارات الخاصة بتحليلها وتركيبها وتنظيمها وإعادة بنائها وتقييمها وتوظيفها، وتشمل أيضًا مهارات استخلاص المعرفة من ظاهر تجلياتها: نصوصًا وأشكالاً، وأصواتاً، ويُقصد بالمعلومات هنا تلك التي تُجمع من مصادر مختلفة، أو التي تُولد من خلال الملاحظة والخبرة والاستدلال المنطقي، أو باستخلاصها مباشرة من مضمون التواصل على اختلاف أطواره ومستوياته.
  • تعريف ذو طابع معرفي: وهو أكثر التعريفات تجريدًا وعمقًا، فهو يقوم على تنمية الوعي المعرفة بتسليط الفكر على التفكير ذاته. والتعرف على استراتيجياته وأنماطه. وكيفية تمثيل المعارف التي تُغذى آليًا أو تتولد عنها. إن التفكير في التفكير يُكسب الفكر قدرة على التوجيه الذاتي، الذي يضم في إهابه سلسلة من القدرات الذاتية من قبيل: الانضباط الذاتي والتصويب الذاتي والرقابة الذاتية، وهو ما يضمن الارتقاء بمستوى التفكير بصورة مثابرة ومطردة. في ضوء ما سلف من مهارات وقدرات. يمكن النظر إلى التفكير النقدي بصفته تفكيرًا ذا رتبة أعلى، تفكيرًا مركبًا يتجاوز المعرفة إلى الميتامعرفي، وتعني هنا السابقة "ميتا" التي صارت شائعة الاستخدام في أيامنا هذه. أن التفكير الميتامعرفي هو أن نعرف ماذا نعرفه وماذا لا نعرفه. وأن نمتلك استراتيجيات ذهنية لتوليد المعرفة وتحديد مما نحتاج إليه من معلومات ومهارات. إنه الوعي بما نقوم به من إجراءات وما نتخذه من قرارات، ومقاربات في أثناء قيامنا بحل المشكلات، يأتي بعد ذلك الحرص على تقييم تفكيرنا ذاته، مصادر قوته ومواضع ضعفه، ميوله وانحيازاته، لوازمه وعاداته، ومدى تأثر سلوكنا وتأثيره في غيرنا.

وخير ما نختم به حديثنا عن تعريفات التفكير النقدي، هو ما قاله في حقه ستيفن جاي غولد، العالم الأمريكي المرموق في مجال علوم التطور، إن التفكير النقدي، إن اجتمع مع التهذيب الأخلاقي، لهو أقوى الوسائل قاطبة لتحقيق مستويات من الخير لم يعرفها كوكبنا من قبل.

(ب) معايير التفكير النقدي: للتفكير النقدي سمات محددة يشترك في بعضها مع غيره من أنماط التفكير، بينما سمات أخرى تميزه عنها. وتزخر الأدبيات بتوصيف هذه السمات وتحديد الفروق بين صفات المفكرين النقديين وغير النقديين، وقد استقرت الآراء على وضع مجموعة من المعايير القياسية للفكر intellectual standards (152) نوجزها فيما يلي:

* الوضوح: القدرة على بلورة الأفكار، وبيان القصد والمقصود، وإعطاء الأمثلة بغرض التوضيح.

* الدقة: توافر وسيلة اختيار لما يزعمه صاحب التفكير، وكيفية التحقق من صحته، ومدى مضاهاته لحقائق الواقع.

* التحديد المحكم: توافر التفاصيل بما يكفي لتحديد المفاهيم والمقترحات وضبط التعريفات وأحكام صياغة الآراء.

* المغزى: تحديد أوجه الصلة بين ما يُطرح من أفكار وبين المسألة رهن البحث، ومدى ارتباط المعلومات المقدمة مع جوهر المسألة، وكيف يمكن أن تُسهم هذه الأفكار في تناولها بصورة أوضح وأجدى؟

* العمق: تحديد العوامل الحاكمة للمسألة رهن التناول، وما هي الأسباب وراء صعوبتها؟ وما هي جوانب التعقد التي تنطوي عليها وأفضل السبل لتفسير مظاهرها؟

* الشمولية: الإلمام بالجوانب المختلفة للمشكلة واستيفاء جوانب تناولها من وجهات نظر متعددة ورؤى متباينة.

* الاتساق: أن تتسق النتائج مع المقدمات، وتحديد ما إذا كانت المشكلة رهن البحث في حالة إلى هذه النتائج ومدى ملائمتها لطبيعة الغرض ومقتضيات المقام.

* قابلية الاختبار والتكذيب: وعدم سد منافذ النقد، وتسهيل الولوج إلى صلب الأفكار المطروحة.

* المنطقية: هل تبدو الأفكار معقولة، وهل يمكن أن يخلص إلى ما خلصت إليه اعتمادًا على المعلومات والشواهد والأسانيد المقدمة؟ ومن شروط المنطقية أيضًا توافق المقدمات مع النتائج، والتسلسل المنهجي في عرض الأفكار.

* مراعاة الأهمية: اختيار المسائل ذات الأهمية، والأفكار المحورية التي يجب التركيز عليها، وأبرز الحقائق المساندة أو المقوِضة.

(ج) خصال المفكر النقدي: على هدى مما سلف من تعريفات ومعايير، على المفكر النقدي أن يتحلى بخصال عدة من أهمها التواضع الفكري وإدراكه لحدود معرفته والتعاطف مع فكر غيره، وجسارة طرح الأفكار والإفصاح عن معتقداته، علاوة على التكامل المعرفي واستقلالية الفكر ونزاهته.

 

ثانياً: تعريفات التفكير النقدي ومعاييره وخصاله: المنظور العربي

(أ) الحاجة الماسة إلى تنمية التفكير النقدي: ما أكثر حديثنا عن أهمية التفكير النقدي وما أندر أن نصادفه في محافلنا ومجامعنا وقاعات دروسنا وقنوات إعلامنا، وبينما يسعى الآخرون إلى تنمية مهاراته لدى أطفالهم، خلت جامعاتنا من أي جهد لتدريس التفكير النقدي الذي أصبح مقررًا أساسيًا في جميع التخصصات الجامعية، وعلى الرغم من كل ما يقال عن ضمور النزعة النقدية حاليًا فنحن نعارض بشدة مقولة إن العقل العربي ليس ناقدًا بطبيعته، فمن أعظم سمات العقل العربي في فترة ازدهاره –وفقًا لحسام الألوسي- أن هذا العقل عقل تحاوري نقدي تمحيصي، مثال ذلك نقد ابن رشد للمتكلمين في "الكشف عن مناهج الأدلة" وفي شروحه الكبيرة، ونقد ابن سينا للمتكلمين عبر كل كتبه.

وإذا ما وثبنا بحديثنا إلى مشارف حاضرنا فها هي ثورة المدونات العربية التي اجتاحت الإنترنت خير دليل على قدرة شبابنا على أن يمارس التفكير النقدي، وأن يوصل رسالته متى أُتيح له منفذ لإيصالها بصورة فعالة ونافذة.

لقد بات علينا أن نأخذ التفكير النقدي مأخذ الجد؛ وذلك لعدة أسباب رئيسية من أهمها:

  • تعليميًا: التفكير النقدي هو مدخل لا بديل له لتخليص تعليمنا من وصمة التعليم بالتلقين وسلبية التلقي.
  • إعلاميًا: التفكير النقدي هو أمضى الوسائل لمواجهة حملات الخداع والتضليل والتدليس ومحو أمية المتلقي العربي إعلاميًا.
  • ثقافيًا: التفكير النقدي هو أمضى أسلحتنا للتصدي للحملة الضاربة التي يشنها الغرب على الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، وتفنيد ما تقوم عليه من أسانيد، وتعرية مظاهر الزيف العلمي وعدم النزاهة الفكرية.
  • اجتماعيًا: التفكير النقدي من أهم المقومات اللازمة لمواجهة ظواهر التعقد التي تتفشى في جنبات المجتمعات العربية، وتفكيك ذلك الخليط الجهنمي لتداخل الدوائر الخبيثة.
  • معلوماتيًا: التفكير النقدي مطلب أساسي للتصدي لمشكلة حمل المعلومات الزائد، والنفاذ إلى مضمون المعرفة الكامن في جوف المعلومات، فهو وحده –أي التفكير النقدي- الذي يستظهر فحوى المعلومات ويُضفي عليها المعنى.

(ب) الموقف من معايير التفكير النقدي: يفتقد التفكير العربي –في أغلبه وعلى مختلف مستوياته- معايير التفكير النقدي التي أوردناها في الطرح العام، ويرجع ذلك إلى عدد من العوامل سنكتفي منها هنا بثلاثة عوامل، لغوية ومعرفية ومنهجية:

* عامل لغوي: نظرة سريعة إلى ما ورد سرده من تعريفات التفكير النقدي ومعاييره، كفيلة بأن يبرز لنا الدور المحوري للغة في مساندة هذا النمط من التفكير، لقد توقفنا منذ أمد طويل عن إثراء اللغة العربية بالأدوات اللازمة لدعم التفكير النقدي فيما يخص عناصر "البيان والتبيين" ودقة التوصيف المحكم للمشكلات والحلول، وشحذ وسائل الاستدلال، ويرجع ذلك إلى نقص الجهود في تحديد أسس الاستخدام لللغة لأغراض الإقناع والتفنيد والتوجيه.

* عامل معرفي: ينقض كثيرون لدينا الخلفية المعرفية بالقدر الذي يحتاج إليه التفكير النقدي فيما يخص عنصري العمق والشمولية، فمن دون هذا القدر يتعذر القيام بجميع المهام الأساسية للتفكير النقدي فهمًا وتحليلاً وتركيبًا وتوظيفًا وتقييمًا، ويعاني معظم العرب حاليًا انعدام الرغبة في مواصلة التعلم وعزوفًا عن قراءة بل تجنب معاناة التفكير أصلاً.

* عامل منهجي: يفتقد كثير من المفكرين العرب المنهجية والمنطقية وغياب النظرة المنظومية، فتدريس المنطق على أقسام كليات الآداب، ونظرية النظم على بعض أقسام كليات الهندسة ومعاهد الإحصاء وكليات الاقتصاد، وتدريس نظرية المعرفة لم يتبوأ بعد مكانته في المقررات الجامعية، في حين تُدرس في البلدان المتقدمة في المرحلة الثانوية.

 

ثالثاً: عوائق التفكير النقدي: الطرح العام

ما أكثر سبل الضلال، وأكثر العقول منطقية يمكن أن تنساق وراء الأهواء والتحيزات، وهناك كثير من أخطاء التفكير ما أسهل الوقوع فيها بسبب انحراف النظر إلى الأمور، وترهل التدليل والاستدلال وجموح ردود الأفعال وإساءة وسوء الحكم على الأمور. إضافة إلى كل هذا، تأتي اللغة لتزيد الأمر توترًا وإرباكًا بالتباسها وزيغها وحيلها وإيحاءاتها. (30: 156).

وقد جرى تفريع وتصنيف مصادر الخطأ هذه بدرجة عالية من الدقة (107: 140-177)، بيد أن المصادر العربية لم تول الأمر على الرغم من أهميته مما يستحقه من عناية، وهو ما اضطر الدراسة الحالية إلى أن تسترد أدناه قائمة بهذه الأخطاء مقرونة بأمثلة انتقيت من تراثنا ومن واقعنا، وكم يتمنى الكاتب أن تستخدم هذه القائمة أداة فعالة لتصويب تفكيرنا والتزام الدقة والإنصاف في تقييم فكر الآخرين من علل التفكير وآفاته بعد أن استحال النقد في ديارنا انتقادًا، والتدليل تدليسًا، والإقناع ضربًا من التحايل والتلاعب بالألفاظ والمشاعر والعقول. وإليكم القائمة:

 (أ) الهجوم الشخصي[1]: مهاجمة الشخص لا تفنيد ما يدعيه، والتشكيك في دوافعه ونواياه والتنديد بأفعاله وعلاقاته.

مثال رقم 1: "رسالة التدوير والتربيع" للجاحظ، حيث كال الهجوم على غريمه أحمد بن عبد الوهاب بنبرة لاذعة، يرجمه كل نقيصة فيُسرف في إظهار قبحه وجهله.

مثال رقم 2: هجوم العفيف الأخضر على محمد عابد الجابري قائلاً عنه: "إنه يطالب هنا بعلم يرضي هواه، وفي موضوع آخر يكتب الجابري نفسه المتحرر من كل منهج والمسلح بمبدأ اللذة وغريزة القبيلة: حاشا لأمتنا العربية ذات الرسالة الخالدة أن تكون.. من دون مستقبل".

مثال رقم 3: (من إحدى الندوات عن تطوير التعليم) لقد هاجم صاحبنا بشدة المشروع المقترح لتطوير التعليم من دون أن يعطينا ولو رأيًا واحدًا جديرًا بالمناقشة، ويرجع ذلك إلى عدم مواكبته ما طرأ على منظومة التربية من تغيرات حادة بسبب ثورة المعلومات والاتصالات، وربما يرجع ذلك أيضًا إلى كونه شريكًا أساسيًا في إحدى الجامعات الخاصة.

(ب) برهنة الصواب بخطأ مزدوج: تبرير الخطأ بخطأ مكافئ أو يفوقه إثمًا[2]:

مثال رقم 1: (من مقالة في إحدى الصحف) لا أعرف لماذا يهاجم الإعلام هذا المستثمر متهمًا إياه بإساءة استغلال التسهيلات الممنوحة له من قبل الدولة. لقد فات على أصحاب هذه الأقلام، أن هنالك من هم أكثر منه استغلالاً بل وينعمون بحماية الدولة.

مثال رقم 2: (من أحد برامج الحوار التليفزيونية) في رد على سؤال وُجه إلى وزير خارجية إحدى الدول العربية: لماذا يتحاشى مواطنوها المقيمون في الخارج الاتصال بقنصليات بلدهم؟ يجيب الوزير –المفترض أنه المسؤول الأول عن حماية المواطنين- بأن السبب في ذلك أن معظمهم يقيمون بصورة غير قانونية.

(ج) اللجوء إلى الخوف[3]استخدام سلاح التخويف والتهديد لفرض القبول بفكرة أو موقف معين من دون توافر ما يبرره.

مثال رقم 1: (من تقرير حكومي) إن عدم الموافقة على شروط منظمة التجارة العالمية يُصيب الاقتصاد الوطني في مقتل، ويؤدي إلى ضمور الصناعات المحلية واستحالة منافساتها عالميًا.

مثال رقم 2: (من وقائع إحدى اللجان الفنية) إن مساندتك لهذا المفكر الراديكالي المناهض لموقف الحكومة سوف يعرضك إن عاجلاً أو آجلاً للقيل والقال، وربما أيضًا للمسائلة من قبل السلطات.

(د) اللجوء إلى السلطة[4]عندما يحيل المرء من دون وجه حق إلى السلطة موثوق بها كالعلماء والخبراء وأهل الحكمة، أو إلى مصادر من ذوي السلطات من دون تقديم ما يبرر الارتكان إليها.

مثال رقم 1: (من أقوال متحدث رسمي) عن الإدارة الأمريكية في مقام تبريره لعدم توقيع الحكومة الأمريكية على اتفاقية الحفاظ على حرارة الكوكب. إن الارتفاع الحالي في درجة حرارة الأرض ظاهرة توالى حدوثها بصورة دورية على مدى العصور، وقد أكدت عدة مؤسسات بحثية متخصصة أن هذه الظاهرة سوف تُصحَّح تلقائيًا من دون حاجة إلى جهود تُبذل لهذا الغرض.

مثال رقم 2: (من بيان حكومي) إن الإجراءات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية والرقابية في رصد أنشطة المنظمات غير الأهلية تنطلق أساسًا من التزامها بالمبادئ الواردة في الدستور بخصوص المحافظة على الأمن القومي.

(هـ) اللجوء إلى الجهل[5]: عند الحكم بصحة زعم ما لعدم توافر ما يقوضه، أو العكس عند الحم بخطأ زعم ما لعدم توافر ما يدعمه.

مثال رقم 1: (من أحد كتب الثقافة العلمية) لابد أن هنالك نوعًا من الحياة في كوكب آخر فليس هناك من دليل يثبت عكس ذلك.

مثال رقم 2: (من خيال الكاتب) أن يهاجم أحد ما زعمه أمين الخولي من أن آفات أمتنا العربية تعود في جمهرتها إلى علل لغوية قائلاً إنه زعم خاطئ فليس هناك من أسانيد وإحصاءات تدعمه.

(و) اللجوء إلى الشفقة[6]استخدام الاستعطاف بإثارة الشفقة بالإشارة إلى أمور أو مواقف منقطعة الصلة بالمسألة المطروحة.

مثال رقم 1: (من وقائع إحدى اللجان الفنية) ألا يستحق منا هذا المفكر الصامد في أواخر عمره منحه الجائرة التقديرية في الإبداع الأدبي، وألا يكفي مبررًا تلك السنوات الطول التي قضاها في ظلمة المعتقل بسبب جسارة أفكاره وموقفه النضالي.

مثال رقم 2: (من إحدى دراسات التنمية العلمية) يجب أن يتساهل الأساتذة المشرفون على الباحثين القادمين من الدول النامية في تطبيق المعايير الأكاديمية على رسائلهم الجامعية، وذلك مراعاة لما يواجهونه من صعوبات في النفاذ إلى مصادر المعرفة، ومواردهم المادية المحدودة التي تحول بينهم وبين المشاركة في المؤتمرات العلمية.

(ز) اللجوء إلى الناس[7]إذا ما كان معظم الناس يرى الأمر صحيحًا فإن ذلك ينهض دليلاً على صحته القاطعة (ويكثر ظهوره في رسائل الإعلان).

مثال: (من إعلان تجاري) ألا يكفي دليلاً على مدى فاعلية هذا الدواء أن أكثر من 90% من نساء العالم فوق الخامسة والثلاثين يتعاطينه بشكل منتظم.

(ح) اللحاق بالركب[8]الدعوة بقبول الأمر حتى يحذو حذو من سبقوه من ذوي المكانة والرأي السديد، واستغلال رغبة الشخص في أن يكون هو الآخر مقبولاً ومرموقًا (ويكثر ظهوره في رسائل الإعلان).

مثال: (من إعلان تجاري) علية القوم تهجر المدنية إلى المجمعات السكنية الجديدة خارجها، حيث تتوافر جميع سبل الراحة والاستجمام والترفيه.. لا تنتظر.. اغتنم الفرصة قبل فواتها.

(ط) إضعاف الخصم افتعالاً[9]إضعاف الخصم حتى تسهل هزيمته تشويه رأيه وعدم الأمانة في عرض موقفه وتأويل مقولاته، وكذلك بتوسيع آرائه إلى حد يصعب معه الدفاع عنها (30: 45).

مثال رقم 1: اتهم البعض ان خلدون بمعاداته الفلسفة لتضمينه مقدمته فصلاً بعنوان "في إبطال الفلسفة وفساد منحلها" في حين أن خطابه التاريخي والاجتماعي ينضح بوجهات النظر الفلسفية.

مثال رقم 2: (من وقائع إحدى الندوات) في صدد اقتراح بضرورة إحداث تغيير اجتماعي معين لتحقيق أهداف محددة ومحدودة يقوم معارض بتوسيع ذلك بالقول: إن التغيير الاجتماعي الذي يقترحه صاحبنا سوف يأتي بالنعيم المنتظر.

(ي) التحايل بالزوغان أو التشتيت[10]بإقحام الملتقي في أمور جانبية لا تمت بصلة للمسألة قيد التناول بغرض تشتيت الانتباه عن الأمور الجوهرية.

مثال رقم 1: (من وقائع إحدى الندوات) البعض يتهمونه بأنه تخاذل في دفاعه عن حرية التعبير، وكأنهم نسوا ما أنجزه هذا القيادي التنفيذي في تجديد المتاحف وصيانة الآثار وإعادة تنظيم المؤسسات الثقافية وإقامة المهرجانات الدولية في مجالي السينما والمسرح.

مثال رقم 2: (من وحي الخيال) نذكر من يتهمون مؤسسات جامعة الدول العربية بتقصيرها في الدفاع عن الثقافة العربية في المحافل الدولية بأن الجامعة العربية من أعرق المنظمات الإقليمية، وتقوم بدور فعال في التصدي للممارسات اللاإنسانية للعدو الصهيوني داخل الأراضي الفلسطينية، إضافة غلى المؤتمرات الدورية التي تعقدها للوزراء العرب المسؤولين عن الشؤون الثقافية في البلدان العربية.

(ك) المصادرة على المطلوب[11]محاولة الإقناع إما تصريحًا بالنتيجة بإعادة صياغة المقدمة، أو بالتدليل الحلقي بجعل المقدمات تفترض بداية صحة نتائجها، وذلك بغرض الحث على قبول الرأي من دون، أو قبل، تقديم ما يدعمه من شواهد وأدلة.

مثال رقم 1: (من وقائع إحدى الندوات) إنه مشروع لا جدوى منه فهو لن يدر نفعًا ولن يسهم في التنمية المجتمعية.

مثال رقم 2: (من كتاب متخصص) إن جدارة حصول عمل ما على براءة الاختراع تتطلب توافر الأصالة والجدة وصعوبة أن ترد فكرته على أذهان المتخصصين في المجال، والعمل الذي نحن بصدده عمل أصيل ومبتكر غير مسبوق ويصعب على الآخرين تخيله وتصوره.

(ل) خلل "بدليلين لا ثالث لهما"[12]بافتراض أن المسألة رهن التناول على الرغم من تعقدها لا تحتمل إلا بديلين لا ثالث لهما، كلاهما إما صائب وإما خاطئ، او أحدهما صائب والآخر خاطئ. إن هذه المغالطة المنطقية تفترض وجود خطوط فاصلة بين طرفي التقابل، وفي عصر كعصر المعلومات وصفه البعض بعصر نهاية الأضداد أصبحت كثير من الظواهر لا تخضع لمثل هذا التبسيط الذي يلغي المناطق الرمادية التي غدت تربط بين ما كان يُعتبر فيما سبق تضادًا أو تناقضًا.

مثال رقم 1: (من وقائع إحدى الندوات) دعوني أصارحكم القول بأنه ليس هناك إلا بديلان للخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة، إما زيادة الإنفاق الحكومي أو التوسع في خصخصة المرافق الأساسية.

مثال رقم 2: (من وحي الخيال) علاج الأزمة الحالية لثنائية الفصحى والعامية إما من خلال سياسة لغوية قادرة على فرض استخدام الفصحى، وإما بإحلال اللهجات العامية محل الفصحى.

(م) طرح الأسئلة المستترة المغرضة[13]استخدام الأسئلة التي تنطوي على تأثير لأمر ما، أو تحمل في ثناياها ما يشي بوجهة نظر ما سلبية في أغلب الأحيان.

مثال رقم 1: (من أحد برامج الحوار التليفزيونية) بصفتك ضالعًا في هذه الأزمة هل لك أن توضح لنا تصورك عن كيفية احتوائها؟

مثال رقم 2: (من أحد برامج الحوار التلفزيونية) كيف تمكنت إدارة شركتكم من الالتفاف حول القوانين واللوائح خصوصًا فيما يتعلق بالتهرب الضريبي؟

(ن) خلل التعليل الخاطئ[14]الاستنتاج الخاطئ على أساس أنه مادامت حادثة ما ولتكن "س" قد وقعت قبل حادثة أخرى ولتكن "ص" فعليه يمكن لنا أن نستنتج أن "س" هي سبب حدوث "ص".

مثال رقم 1: (من وحي الخيال) لقد أيقنت أن صاحبنا سيهاجر إلى فرنسا فكل مرة كنت أراه فيها أجده يقرأ رواية فرنسية.

مثال رقم 2: (من وحي الواقع) إن فشل مؤتمرات القمة العربية ليس مجرعه غياب الإرادة السياسية بل إلى إحالة معظم نزاعاتنا إلى مجلس الأمن كما حدث في الأزمة الأخيرة.

(س) التعميم المجازف المتسرع[15]التسرع في إقامة مزاعم من دون كفاية من الشواهد والأدلة.

مثال رقم 1: (من كتاب متخصص) إن الإنسان لا يمكن أن يكون قد تطور عن القرود لأن الشيء الأعلى لا يمكن أن يشتق من الأدنى (30: 85).

مثال رقم 2: (من أحدى الصحف) في دراسة أُجريت على 5 آلاف من طلبة المرحلة الإعدادية لمعرفة أي القسمين العلمي أو الأدبي يفضلون؟ كانت نسبة من اختار القسم العلمي أقل من 40% وهو ما يؤكد أن الأجيال الجديدة تفضل التخصصات الأدبية.

(ع) الحكم المُقولب[16]هو تعميم مجازف يصف أو يصم جماعة معينة.

مثال رقم 1: (من الأقوال الشائعة) العرب يفضلون القول عن الفعل.

مثال رقم 2: (مقولة تتردد في خطاب اللغة العربية) كل اللغات تقرأ لتفهم، أما اللغة العربية، نظرًا إلى غياب علامات التشكيل فهي تُفهم لتُقرأ.

(ف) التعميم الكاسح[17]إصدار أحكام مطلقة من دون كفاية من الشواهد والأدلة، باستخدام ألفاظ من قبيل: على الإطلاق، دون استثناء، أبدًا، قطعًا.

مثال رقم 1: (من وحي الواقع) ليست هناك دولة واحدة باستطاعتها الوقوف في وجه الإجماع الدولي المتمثل في قرارات مجلس الأمن حتى إن كانت هذه القرارات شديدة الانحياز.

مثال رقم 2: (من وقائع إحدى الندوات) لا أمل على الإطلاق في لحاق الأمة العربية بركب مجتمع المعرفة إلا إذا حذت حذو الهند في بناء صناعة للبرمجيات تقوم على أساس "التعهيد outsourcing".

(ص) المنحدر الزلق[18]توقع سلسلة متعاقبة من الأحداث، غالبًا ما تنتهي كارثية إذا لم يُتخذ الأمر المقترح في حينه.

مثال: (من وحي الخيال) إذا ما أُلغيت عقوبة الإعدام فسوف يؤدي ذلك إلى زيادة جرائم الأخذ بالثأر، وستعجز أجهزة الأمن عن السيطرة عليها لتعم الفوضى؛ بما يهدد الأمن العام ومن ثم انهيار صمود الجبهة الداخلية من دون رجعة.

(ق) تراكم الفروق الصغيرة[19]حيث تُسرد عدة حالات أ، ب، ج، ... بينها فروق صغيرة، بيد أن تراكمها يمثل فرقًا له وزنه بالنسبة إلى الأمر المطروح.

مثال: (من وحي الخيال) أليست نقائض الوضوء تُبطل الصلاة، وإبطال الصلاة يهدم ركنًا أساسيًا من أركان الإسلام بما يهدد موقف الدين عمومًا ومن ثم موقف الأمة الإسلامية جمعاء لكون الدين هو ركيزتها الأساسية.

(ر) التناظر (التشبيه) الخاطئ أو الضعيف[20]ما يُطلق عليه أحيانًا خطأ القياس مع الفارق. عند عقد التناظر بين أمرين (أو أكثر)، يمكن أن يكونا متناظرين في عدة أمور لا تشمل تلك التي يجب أخذها في الاعتبار.

مثال رقم 1: (من كتاب متخصص) إن أعضاء هيئات التدريس في الجامعات من ذوي النزعة العلمانية مثلهم مثل الأعشاب الضارة، وكما تُجتث الأعشاب الضارة يجب أن يُطهر الحرم الجامعي من هذه الفئة الخطرة.

مثال رقم 2: (في لقاء تلفزيوني) في صدد دفاعه عن استخدام خراطيم المياه في تفريق الإخوة السودانيين المعتصمين في إحدى ساحات مدينة القاهرة يقول المسؤول الحكومي الكبير: "لماذا يهاجمون قيام الحكومة بمثل هذا الإجراء الذي تستخدمه معظم الدول المتقدمة"، وشتان بين استخدام هذه الدول هذا الأسلوب لتفريق المتظاهرين في الميادين، حيث هناك منافذ كثيرة للفرار منها، وبين تسليط خراطيم المياه الكاسحة على أولئك البؤساء العزل من النساء والأطفال والشيوخ وهم قعود قابعون في أماكنهم من دون عاصم أو مهرب.

(ش) عدم اتساق النتائج مع مقدماتها[21]:غياب أو عدم اتساق الرابط المنطقي بين مقدمات ونتائج لا تنشأ عنها.

مثال رقم 1: (من وحي الفصل الحالي)، لا يمكن لطاقم هذه المؤسسة الأكاديمية العريقة، التي تهدف أساسًا إلى تنمية التفكير أن يتهاون مع أخطاء الطلبة وعدم التزامهم بالمعايير الأكاديمية المستقرة، ويكمن عدم الاتساق على خلفية ما سبق ذكره بشأن اعتماد التفكير النقدي على التعلم من خلال الأخطاء والتصويب الذاتي والتصدي لما هو سائغ.

غالبًا ما يحتاج الحكم بعدم الاتساق إلى توافر خليفة معرفية معينة. كما في المثال السابق، وإليكم مثالاً آخر أكثر إثارة ودلالة عما قيل في صدد الحكم على نظرية علمية جديدة: "هذه نظرية علمية تافهة بل حتى إنها ليست خاطئة"، وهي مقولة تبدو من الوهلة الأولى غير متسقة، ولا يتضح لنا عدم اتساقها إلا على خلفية ما خلص إليه كارل بوبر من أن النظريات العلمية الحقة لابد أن تحمل في جوفها بذرة تخطئتها.

(ت) التناقض الذاتي[22]طرح مقدمتين لا يمكن أن تكونا صحيحتين في آن واحد، ومثالها الشهير تلك المقولة الفاسقة: أحمد الله أنني ملحد، أو ذلك المثال الأقل شهرة: لقد طالبتك ملايين المرات بألا تبالغ في القول.

(ث) التبسيط الزائد[23]اختزال العلاقة بين العلة والأثر وإسقاط جوانب جوهرية من المسألة قيد التناول.

مثال: (من وقائع إحدى الندوات) لا حل لمشكلة التعليم إلا بإلغاء مجانية التعليم وفتح الباب على مصراعيه أمام إنشاء المدارس الخاصة.

(خ) خلل "مادام الكثير فمن ثم أي حالة أخرى"[24]إذا كانت هناك خاصية تتوافر في كثير من الحالات فمن ثم هي متوافرة في أي حالة أخرى.

مثال رقم 1: (من وحي الواقع مع تصرف محدود) أثبتت الدراسات الاجتماعية أن معظم الجماعات المحلية لها من يقوم بدور يُشبه دور الزعيم، لذا فإن أي جماعة "مواطنون ضد الفساد" لابد أن تكون تحت إمرة أحدى الشخصيات القيادية ذات الخبرة في العمل الجماهيري.

مثال رقم 2: (في ضوء ما ورد في الفصل الثالث) إن كل النظريات العلمية السابقة اكتسبت جدارتها من خلال إثبات صحتها بالتجارب العلمية، لذا فكل نظرية تفتقد هذا الإثبات العملي نظرية غير مكتملة.

(ذ) التقاط التوافه (مراوغة)[25]التركيز على الأمور التافهة وتصيد الأخطاء الصغيرة في وجهة نظر الآخر والتي لا تؤثر في صواب ما طُرح.

مثال رقم 1: (من وقائع إحدى الندوات) لقد انطلق المتكلم من قناعته بأن إعادة تأهيل المدرسين هي مدخل أساسي للحاق التعليم العربي بركب تربية عصر المعلومات، في حين غاب عنه أن يُوضح لنا هل يقصد بذلك جميع المدرسين على اختلاف مستوياتهم وتخصصاتهم.

مثال رقم 2: (من وقائع إحدى الندوات) تعقيبًا على دراسة ضافية عن شكل الرواية الحديثة، وكسرها للقوالب النمطية للسرد الروائي، أعطت أمثلة واضحة ووافية للواقعية السحرية لغارسيا ماركيز، وفطاحل الروائيين غيره، لا يهم صاحب التعقيب من كل هذا إلا أن الباحث لم يذكر الاسم الكامل غابرييل غارسيا ماركيز.

(ض) خلل تكديس المسائل[26]: وذلك بالسؤال عن أشياء مختلفة كثيرة في سؤال معقد واحد يفترض أن له جوابًا واحدًا (30: 129).

مثال: (من وحي الخيال) سؤال من الحضور: نريد منكم يا عالمنا الفذ أن تُعطينا بإيجاز تفسيرًا إجماليًا لمشكلة تدهور البيئة وعلاقتها بالتنمية المجتمعية والنزاعات الدولية والتطورات التكنولوجية.

(ظ) خطأ النظرة الانتقائية[27]تجاهل الأدلة على الجانب الآخر من السؤال وانتقاء العناصر التي يمكن أن تقيم أفضل، أو أسوأ، حالة ممكنة، وهو ما يوصف أحيانًا بـ"التفكير بالتمني wishful thinking" الذي ينتقي كل ما هو ملائم لغايته ويتغاضى عن كل ما لا يتفق معها.

مثال: (من وحي الواقع) عندما يتحسن الأداء الديمقراطي في المجتمعات العربية ولو بدرجة محدودة سوف تتمكن من حل مشكلة الفقر بصورة قاطعة في ظل مبدأ العدالة الاجتماعية التي ستتمخض عن هذا التحسن.

(غ) خلل كونه لاواقعيًا[28]مادام الأمر افتراضيًا أو خائليًا مقصورًا على الفضاء المعلوماتي فلا ضرر متوقعًا يمكن أن ينجم عنه.

مثال رقم 1: (من وقائع إحدى الندوات) لقد انطلق المتكلم من قناعته بأن إعادة تأهيل المدرسين هي مدخل أساسي للحاق التعليم العربي بركب تربية عصر المعلومات، في حين غاب عنه أن يوضح لنا هل يقصد بذلك جميع المدرسين على اختلاف مستوياتهم وتخصصاتهم.

مثال: لا ضرر من تفشي ظاهرة معاداة الأجانب على ما يُعرف بـ "شبكة الكراهية" مادام ذلك يحدث افتراضيًا أو خائليًا.

(ع) إساءة استخدام اللغة:كما يمكن للغة أن تدعم التفكير النقدي يمكنها أيضًا أن تسئ إليه وسنرجئ الحديث بشأنها إلى الفقرة التالية.

 

رابعاً: عوائق التفكير النقدي: المنظور العربي

(أ) إساءة استخدام اللغة: لسنا في حاجة إلى أن نؤكد حقيقة أن اللغة لا يمكن أن تتطابق مع الواقع، وأننا لا نتلقى اللغة بعقولنا فقط، بل نتمثلها أيضًا بوجداننا، ومن أبرز عوائق التفكير النقدي الشائعة لدينا إساءة استخدام اللغة بغرض التهرب أو المواربة أو التأثير المغرض أو التضليل وما شابه، والكلمات كثيرًا ما تغتال القصد وتجنح بالغرض وتعوّق الأفكار التي تسعى إلى التعبير عنها.

واللغة–بحكم طبيعتها- ذات قابلية عالية لإساءة استخدامها، ويرجع ذلك إلى مرونتها الهائلة، وقوتها الإيجابية المؤثرة، وقدرتها الفائقة على إثارة مشاعر الانتماء والحنين والشفقة والتفاخر والنخوة الوطنية، ونوجز أدناه أمثلة لأبرز حالات إساءة استخدام اللغة:

  • أولاً: افتعال الغموض، أو ما يعرف بالإنجليزية بمصطلح obfuscation، ويُقصد به استخدام لغة منغلقة بغرض التمويه، أو حجب معلومات غير سارة كما يفعل الأطباء كثيرًا مع مرضاهم، وعادة ما يُفتعل الغموض من خلال الإفراط في استخدام الرطانة المهنية، ومصطلحات التخصص، ومن أمثلته الشائعة ذلك الخطاب الاقتصادي الإعلامي الموجه إلى الجمهور العام وكيف يُسرف في استخدام مصطلحات من قبيل الإغراق وفائض القيمة والمنفعة الحدية والغطاء النقدي وما شابه، ومن التكتيكات الشائعة أن يلجأ إلى الإغماض بقصد تجهيل خصم الحوار، بأن يزج باسم نظرية علمية حديثة في سياق محاجاته حتى يلجم لسان الخصم الذي كثيرًا ما يضطر إلى الإذعان خشية أن يُرمى بالجهل إذا ما عارض النظرية (30: 53).
  • ثانيًا: التلطيف اللغوي: وهو المقابل للمصطلح الإنجليزي euphemism، ويُقصد به استخدام تعبير محل آخر، خارج أو كاشف أو غير لائق أو لا يرقى إلى مستوى المقام، بأن نصف شخصًا بأنه متسامح أخلاقيًا بدلاً من وصفه بأنه لا أخلاقي، أو استخدام مصطلح psychically challenged في الإنجليزية بدلاً من استخدام معوَّق، أو استخدام المصطلح الإنجليزي extramarital affair بدلاً من الخيانة الزوجية أو جريمة الزنا، ومن أهم أدوات التلطيف اللغوي المجاز، استعارة وكناية وتورية، بهدف تمرير الممارسات وتخفيف وطأة الأزمات.

وقد برع الإعلام الرسمي في استخدام أساليب التلطيف اللغوي كاستخدام مصطلح "أمراض الصيف" بدلاً من انتشار الكوليرا، وتوسيع نطاق الملكية بدلاً من الخصخصة، وتعثر الشركات للتغطية على حالات الفساد في نهب أصحاب الشركات للقروض الممنوحة لهم من البنوك الوطنية.

وقد أبدع القرآن الكريم في استخدام التلطيف اللغوي صيانة لحرمة النص السماوي، وهل هناك ما هو أمسى وأبلغ دلالة من قوله تعالى: "وراودته التي هو في بيتها عن نفسه"، وهو يصف ذلك السلوك المشين لامرأة العزيز، وقد أثبت النص القرآني براعة لا تدانى في التعبير عن أكثر المواضيع حساسية وحميمية في علاقة الرجل بالمرأة.

  • ثالثًا: التغليظ اللغوي: ستظل اللغة دومًا قادرة على الفعل ونقيضه، فيمكن لها أن تُبين وتطمس، وتوجز وتسهب، وتلزم الجدية وتسرف في الهزل، وكما أن هناك تلطيفًا، هناك في المقابل تغليظ للتعبير اللغوي بغرض التهويل والتبشيع، ومن أمضى وسائلها استخدام المترادفات والفروق الطفيفة في معناها. وبغرض التوضيح، نورد أدناه بعض الأمثلة عن استخدام ألفاظ محايدة مقرونة بمترادفات تلطفها من جانب وتغلظها من جانب آخر.

   

جانب التلطيف

اللفظ المحايد

جانب التغليظ

تحلل

تفكك

تفسخ

خطأ

ذنب

جرم

خلل

فساد

خراب

هدم

تحطيم

تدمير

انتماء

ولاء

تعصب

  

  • رابعًا: استغلال لبس الكلمات: وهو المقابل للمصطلح الإنجليزي equivocation، وهو يُستغل كون معظم الألفاظ اللغوية تحتمل أكثر من معنى، ومثال على ذلك القول: "كل قانون لابد له من تشريع، ولا تختلف قوانين اللغة في ذلك، ومن ثم فهي في حاجة إلى نحاة يشرعون لها"، وقد استغلت هذه المقولة لبس المعنى في كلمة قانون بمعنى الأمر الملزم المؤثم لمن ينتهكه، وقانون بمعنى "القاعدة" كما هي في قوانين الميكانيكا، وهي بالمناسبة مقولة واقعية غير مفتعلة.
  • خامسًا: التكلف في استخدام الاستعارة في إقامة التناظر كقول "أن اللغة مرآة العقل" والذي يفترض تطابقًا بين اللغة والفكر واللغة والواقع، وهو ما ليس صحيحًا.
  • سادسًا: ادعاء الأهمية: وذلك باستخدام ألفاظ منتفخة، ومتقعرة أحيانًا، للإيهام بأهمية تتجاوز الموضوع، أو الإعلاء من مكانة المتحدث، أو بافتعال عظمة الاستهلال وتضخيم التمهيد متجاوزًا المتن أحيانًا، أو بافتعال خصومة مع الكبار، وإليكم مثالاً واقعيًا مع قليل من التصرف لتوضيح الفكرة عما قيل في شأن قصور وحدات الخدمة الصحية في القرى: ما نحن بصدده هو إشكالية اجتماعية تنفذ إلى عمق الآليات الاجتماعية التي تعمل داخل المنظومة المجتمعية الشاملة، وتنحدر إلى عوامل فنية وثقافية واقتصادية أيضًا، ولا غرو في ذلك فهي تتقاطع في الصميم مع محاور الإطار العام لرفاهة الإنسان.

 

د. نبيل علي

من كتاب: "العقل العربي ومجتمع المعرفة"



[1] ad hominem

[2] two wrongs make a right

[3] appeal to fear

[4] appeal to authority

[5] appeal to ignorance

[6] appeal to pity

[7] appeal to people

[8] bandwagoning

[9] straw man

[10] red herring

[11] begging the question

[12] “either/or” fallacy

[13] loaded questions

[14] false questions

[15] hasty generalization

[16] stereotyping

[17] sweeping generalization

[18] slippery slope

[19] accumulation of minor differences

[20] wrong or weak analogy

[21] disambiguation

[22] self-contradiction

[23] over simplification

[24] “if many then any” fallacy

[25] quibbling

[26] stacking

[27] selective perception

[28] virtually fallacy