الإيمان، بين الله "الحقيقة".. والله "المثال"

أ. و. توزر ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

أشار القس هولمز Holmes (الذي كان قسًا في الهند) منذ خمس وعشرين عامًا (1920) إلى ما أطلق عليه "الطبيعة الاستنتاجية" لإيمان معظم المسيحيين.

في رأيه أن "شخص الله"، وفكرة "وجود الله" بالنسبة لهؤلاء المسيحيين هي مجرد "استنتاج" من عدة براهين وليس "حقيقة Reality". فهم يعتبرون أن ذلك كافيًا لهم. ولكن الله كحقيقة وكشخص ليس معروفًا اختباريًّا بالنسبة لهم. إنهم يقولون في داخلهم: "لابد أن هناك إله (ربنا موجود).. إذًا نحن نؤمن بوجوده". وهناك فئة أخرى من البشر لا ترتقِ حتى إلى هذا المستوى، فهم يعرفون الله فقط بالسمع، ولم تكن "معرفة الله" موضوعًا ذا أهمية بالنسبة لهم. هؤلاء سمعوا عن الله من أشخاص آخرين، ووضعوا تصديقهم لما سمعوه وما اعتقدوه عن الله في جزء خلفي من عقولهم جنبًا إلى جنبً مع مختلف المفاهيم والمعتقدات والقوانين الأخرى التي تُشكل حياتهم. بالنسبة لبعض الناس، الله هو شخص مثالي؛ وبالنسبة لآخرين هو رمز للصلاح أو للجمال أو للحق؛ أو ربما هو "القانون" للحياة أو هو القوة الخالقة وراء هذا الوجود.

كل هذه المعتقدات المختلفة والكثيرة عن الله لها عامل واحد أساسي مشترك: أنها لا تعرف الله في معرفة اختبارية شخصية. لم يأت إلى فكر هؤلاء الأشخاص أن هناك إمكانية لمعرفة الله عن قرب وحميمية. ومع أنهم يقرون بوجوده، إلا أنهم لا يعتقدون أنه قابل لأن "يُعرف" مثلما نعرف الآخرين أو الأشياء.

أما المسيحيون (ويقصد الكاتب الإنسان الكنسي المتواجد في أرجاء الكنيسة وهو ليس بالضرورة مسيحيًّا حقيقيًّا، وفي علاقة حية اختبارية مع الله – المترجم) فقد قطعوا شوطًا أطول من الفئة السابقة (على الأقل نظريًّا). إن قانون الإيمان الكنسي يطلب منهم أن يؤمنوا بشخص وصفات الله، ولقد تعلموا ، يصلوا "ابانا الذي في السموات..". الصفتان المنسوبتان لله بأنه "شخص" Person، و"آب" Father تحملان في طياتهما أنه من الممكن لنا أن "نعرف" الله. نعم، إنهم يعترفون ويقرون بذلك نظريًا (وملايين من المسيحيين الكنسيين يندرجون تحت هذه الفئة)، ولكن الله بالنسبة لهم ليس حقيقيةً اختبارية تمامًا مثل الغير مؤمنين. إنهم يحيون كل الحياة محاولين أن يحبوا "مثالاً نموذجي Ideal" ويعيشون مُخلصين لمجرد "مبدأ A principle".

في وجود كل هذه الضبابية المبهمة عن الله، وعلى النقيض منها تمامًا، نجد وضوح الفكر الكتابي الذي يعُلن أن الله قابل للمعرفة الشخصية الاختبارية. فنجد "شخص الله المحب" مهيمنًا على كل صفحات الكتاب المقدس، سائرًا في جنة عدن يتنفس... وتخرج منه رائحة زكية عطرة في كل مشهد. فنتقابل في كل المشاهد مع "شخص حي حاضر"، يتكلم، يسأل، يحب، يعمل، ويُعلن عن ذاته كلما وأينما امتلك الإنسان تلك الخاصية اللازمة والضرورية "خاصية الاستقبال" لقبول هذا الإعلان والتفاعل معه.

إن الكتاب المقدس يفترض حقيقة بديهية، أنه بإمكانية البشر أن "يعرفوا" الله، تقريبًا بنفس درجة قدرتهم على معرفة أي شخص آخر أو أي شئ آخر يأتي إلى حيز حياتهم وتجاربهم.

(بالطبع نحن نأخذه كأمر مُسلم به أنه ينبغي أن يحدث أولاً في قلب الإنسان "عمل الخلاص". وهذا لأن القدرات الروحية للإنسان "غير المُخلّص" تقبع نائمة في طبيعته، وغير مُستعملة بل وميتة. وهذه هي لعنة السقوط والخطية. يمكن فقط لهذه القدرات الروحية أن "تقوم من الأموات" إلى الحياة عن طريق عمل الروح القدس في عملية "التجديد" Regeneration.)

وما وصفته الآن هو حال الغالبية العظمى من المسيحيين اليوم. ولا أحتاج إلى براهين لإثبات ما أقول، فكل ما نحتاجه هو الذهاب لأي كنيسة والتحدث مع أول شخص يقابلنا.

من المؤكد أن هناك ملكوتًا روحيًّا حالٌ حولنا في كل مكان، يُحيط بنا، يحتوينا، قريب جدًا من قلوبنا، وينتظرنا لندركه. الله نفسه هنا كائن ينتظر استجابتنا لحضوره الإلهي. هذا العالم الروحي الأبدي سيصبح حقيقة حية لنا في اللحظة التي نُدرك فيها واقعيته وحقيقته. لقد استعملت في عبارتي السابقة كلمتين (تعبيرين) يحتاجان لبعض التعرف والتوضيح وهما: "الحقيقة Reality"، "يُدرك" (إدراك) Reckon (كلمة "Reckon" تعني أيضًا يعترف أو يعتمد على – المترجم).

ماذا أعني بكلمة "الحقيقة Reality"؟ إنه الشيء الذي يمتلك خاصية "الوجود Existence" بدون الاحتياج إلى (أو الاعتماد على) أي عقل أو أي فكر لإثبات وجوده، وهو سيكون موجودًا حتى لو لم يكن هناك أي عقل او فكر يعترف بوجوده (يقصد الكاتب أن الحقيقة تكون وتظل حقيقة سواء اعترف بها الإنسان أو لم يعترف بها، سواء قبلها أم لم يقبلها. فالحقيقة لا تعتمد على الإنسان في وجودها ولا تعتمد حتى على أي إثبات لوجودها – المترجم). ما هو "حقيقي" له وجود في ذاته That which is Real has being in itself. هذا يعني أن "الحقيقة" لا تعتمد على الإنسان الذي يشاهدها Observer لإثبات صحتها. أعلم تمامًا أن هناك من سيسخر من التعريف السابق عن الحقيقة. إنهم "العقلانيون Idealists" الذين يغزلون نسيجًا من البراهين لا حصر لها على أنه لا يوجد أي حق أو حقيقة خارج فكر الإنسان (الكاتب هنا يتحدث عن مدرسة فلسفية مُلحدة لا تؤمن بوجود الله ولا بأي شئ غير مرئي Supernatural. المدرسة العقلانية أحيانًا يُطلق على أصحابها لقب Rationalists وأحيانًا أخرى لقب Idealists– المترجم). وأيضًا سيسخر "النسبيينRelativists " من هذا التعريف "للحقيقة" وهم الذين يزعمون أنه لا توجد أي ثوابت في الكون نستطيع من خلالها الحصول على قياسات ثابتة (المدرسة "النسبية" هي فلسفة أخرى مُلحدة وتنادي بأنه لا يوجد أي شئ ثابت في الكون وكل نقاط الكون متغيرة وحتى إن أخذ هذا التغيير ملايين السنوات لحدوثه، فكل نقطة في الكون متغيرة، وبالتالي كل شئ نسبي، ولأن كل شئ نسبي فإما أن الله نفسي نسبي وغير مُطلق ومتغير، أو أننا لا يمكن أن نعرف من هو هذا الإله لأننا لا نتحرك في ثوابت كونية – المترجم).

قد ينظر هؤلاء الفلاسفة إلينا بابتسامة من قمم الجبال السامية التي يعتلونها، واضعين إيانا في قالب من صنعهم مُطلقين علينا اللقب الذي يعتبرونه هم لقبًا متدنيًا – وهو لقب "أصحاب المطلق" Absolutists (أي من يؤمنون بوجود الإله الواحد المُطلق الذي لا يتغير – المترجم). الإنسان المسيحي الحقيقي لا يهتز عن موقفه كنتيجة لهذه الاتهامات. كما يستطيع هو أيضًا بدوره أن يبتسم لهم، لأنه يعرف ويدرك أن هناك واحد مطلق – والذي هو الله. يعرف أيضًا أن هذا الإله قد صنع العالم ليقوم الإنسان باستخدامه. والإنسان العاقل يُدرك أنه لتحقيق الأهداف اليومية الحياتية، نحتاج جميعًا إلى ثوابت في الحياة (وحتى إن كانت هذه الثوابت يمكن تغييرها بواسطة الله إذا شاء). فكل إنسان على وجهة الأرض يُدرك ويعيش طبقًا لوجود ثوابت في الحياة ماعدا الشخص المختل العقل (هذه الفقرة صعبة الفهم، يقصد الكاتب أن الله مطلق ولا يتغير. الحياة بالنسبة لله هي شئ غير مطلق ولذلك قابلة للتغيير ولكن بالرغم من هذا الله أراد أن يكون هناك ثوابت في الحياة – ليستطيع الإنسان أن يعيش يومه ويخططه. بدون ثوابت لا يمكن الحياة ولا يمكن التخطيط للحاضر أو للمستقبل – المترجم). إن هؤلاء الفلاسفة التعساء يعيشون غير متأكدين من الحقيقة ويصرّون على موقفهم. أما الفلاسفة "العقلانيون والنسبيون" ليسوا مُختلي العقل. إنهم عقلاء (ولكنهم مخطئون) ويثبتون ذلك بنمط حياتهم، يعيشون في تناقض، فهم يحيون يومهم بناءً على ثوابت يومية حياتية، وهذه الثوابت هي بعينها التي يرفضون وجودها (برغم زعمهم أن كل شئ في الحياة هو نسبي). كان من الممكن أن نحترمهم أكثر إذا عاشوا الحياة في تطابق مع نظريتهم، ولكنهم لا يفعلون ذلك. نظرياتهم عميقة في التفكير ولكنها ليست عميقة في الحياة. عندما تأتي الحياة إليها في يومهم، نجدهم وكأنهم ينكرون نظرياتهم الفلسفية ويحيون مشابهين لبقية الناس.

الإنسان المسيحي الحقيقي لا يتلاعب بالأفكار كحرفة وهواية، ولا يشعر باللذة عندما يغزل الأفكار مثل خيوط العنكبوت (كما يفعل الفلاسفة). إن مبادئه ومعتقداته عملية، وهدفها هو تمكينه من عيش الحياة. بهذه المبادئ هو يعيش أو يموت، يقوم أو يسقط، الآن في هذا العالم وأيضًا في الأبد. فينبغي للمسيحي الحقيقي أن يبتعد عن الإنسان المرائي. (الإنسان المرائي هو الذي يؤمن نظريًا وفلسفيًا بشيء ثم يعيش بطريقة مغايرة لما يؤمن به – المترجم).

الإنسان الأمين يعرف أن العالم (الذي يعيش فيه) هو حقيقة، وعندما يستيقظ صباحًا يجده حاضرًا أمام عينيه ووعيه ويكون متيقنًا أن فكره هو ليس المسؤول عن وجود الكون. العالم موجود منتظرًا له قبل أن يستيقظ، ويعلم جيدًا أن الكون سيستمر في الوجود بعدما يترك الأرض. هذا الإنسان الأمين مع نفسه بمساعدة حكمته الفطرية العميقة في الحياة يكون أحكم من الكثيرين من البشر الذين يعيشون في لاشك. فعندما يشعر هذا الإنسان بالرياح والأمطار تعبر على وجهه... يُدرك تمامًا أنهما حقيقة وليس خيالاً. يرى الشمس صباحًا والنجوم ليلاً... يرى البرق الساخن آتيًا من رعد السماء... يسمع أصوات الطبيعة وصرخات الفرح والحزن البشري... يعلم تمامًا أن كل هذه الظواهر "حقيقة"؛ يرقد على الأرض ليلاً غير خائف من أن لا تحمله أو تكون مجرد خيال في ذهنه... يستيقظ في الصباح متيقنًا أن الأرض مازالت تحت قدميه وتحمله... والسماء الزرقاء فوقه والصخور والحجارة والأشجار حوله... تمامًا كما ترك كل هذه في ليلة الأمس... وعندئذٍ يعيش الإنسان ويفرح في عالم "الحقيقة".

بحواسه الخمس يتفاعل مع الحياة وحقيقتها. فكل ما هو ضروري لحياته ووجوده المادي هو مُدرك بحواسه والتي أُعطيت له من الله الخالق الذي وضعه على هذه الأرض.

وفي تعريفنا أيضًا "للحقيقة"، نجد أن الله هو "الحقيقة"، إنه الحقيقة النهائية والمُطلقة فوق كل شئ آخر. وكل حقيقة أخرى في الوجود تعتمد على الله وحقيقته. الحق الأعظم هو الله. فهو صاحب ومنبع كل حقيقة، وكل حقيقة أخرى مؤسسة ومعتمدة عليه – كل حقائق الأشياء المخلوقة بما فيهم نحن البشر. وجود الله هو وجود "ذاتي" نابع من ذاته ولا يعتمد على أي شئ خارجه أو أي فكرة نكوَّنها عنه. القلب المتعبد لا يخلق ما يتعبد لهن ولكنه يجد الله في ذلك الصباح الذي يستيقظ فيه من سباته الأدبي Moral Slumber (يقصد الكاتب سبات الخطية والسقوط – المترجم) في يوم تجديده ومولده الثاني Regeneration.

الكلمة الثانية والتي نحتاج توضيحها هي كلمة "إدراك" Reckon. بالطبع "يُدرك" لا تعني تصور أو تخيل. التصور والتخيل ليس إيمانًا Faith. التصور والإيمان هما متضادان. فالتخيل يُعبر عن صور غير واقعية موجودة في العقل، ثم يسعى الإنسان لإلباسها ثوب الحقيقة والواقعية. أما الإيمان لا يخلق شيئًا؛ لكنه فقط يتعرف ويُدرك ويقرر ما هو موجود وقائم وحقيقي. الله والعالم الروحي هما حقيقة. ولذلك نستطيع إدراكهما والاستناد عليهما تمامًا مثل تيقننا من الأشياء التي تستطيع أيدينا لمسها في العالم المادي حولنا. الأمور الروحية حولنا تريد جذب انتباهنا وإثارة ثقتنا وإيماننا.

إن مشكلتنا تكمن في ترسيخ أنماط فكرية خاطئة داخلنا. لقد تعودنا على النظر إلى العالم المادي على أنه الحقيقة. وأيضًا تعودنا على الشك في وجود العالم الروحي. وربما لا ننكر تمامًا وجود عالم الروح، ولكننا لا نتعامل معه بنفس قوة الحقيقة التي نعطيها ونمنحها لعالم الماديات. إن عالم الحواس والماديات يُقحم نفسه على اهتماماتنا ليلاً ونهارًا وإلى نهاية العمر. إنه عالم صاخب ومستمر بلا هوادة ودائم التعبير عن نفسه. هو عالم لا علاقة له بالإيمان، وهو يغتصب حواسنا مُصرًا على أن نقبل بانه الواقع الوحيد والنهائي في الحياة. والخطية بدورها سببت عتامة لعيون قلوبنا حتى أننا لا نستطيع أن نُدرك أن هناك حقيقة أخرى، وهي "مدينة الله City Of God" تُشع ضياءً من حولنا. (هذا التعبير "مدينة الله" هو تعبير خاص بالقديس أوغسطينوس حيث أنه كتب كتابًا هامًا تحت هذا العنوان – المترجم). للأسف، فإن عالم الحواس المادي ينتصر (أحيانًا كثيرة). إن المنظور هو عدو غير المنظور؛ الوقتي عدو الأبدي –هذه هي اللعنة التي توارثناها نحن ذرية آدم.

الإيمان "بالغير منظور" يوجد متأصلاً في جذور المسيحية. بل إن هدف الإيمان المسيحي هو السعي وراء الحقيقة الغير منظورة. إن أفكارنا الخاطئة والتي هي نتاج ظلام قلوبنا (الناتج من السقوط)، بالإضافة إلى سطوة واقتحام عالم الماديات المنظور، كل هذا يحاول إقناعنا بأن هناك فصل أو تضاد ما بين ما هو "روحي" وما هو "حقيقي" (واقعي). ولكن لا يوجد هذا الفصل أو التضاد بينهما. إن التضاد موجود في مكان آخر –إنه بين "الحقيقي" و"التخيلي" – بين "الروحي" و"المادي"، بين "الأبدي" و"الوقتي". لا يوجد تضاد أبدًا بين "الروحي" و"الحقيقي الواقعي". الروحي هو الحقيقي والواقعي (بالطبع يوجد أمام الكاتب في هذه الفقرة كلمات الحي المقدس التي خطّها الرسول بولس "وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ." 2كو4: 18– المترجم).

إذا أردنا أن نأتي إلى حيز ومنطقة النور والقوة اللذين يحثنا عليهما وحي الحق المقدس (كلمة الله)، فعلينا أولاً أن نتخلص من الميل والاتجاه الشرير والذي يصمم على إغفال "الروحي". لابد أن نحول اهتمامنا من المنظور إلى الغير منظور، لأن الحقيقة العظمى الغير منظورة هي الله "... لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ" (عب 11: 6). هذا أساسي في حياة الإيمان. وعلى هذا الأساس ومن هذه القاعدة نستطيع أن نصعد قمم الجبال التي أشار لها المسيح "أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ فَآمِنُوا بِي." (يوحنا 14: 1). بدون الأساس الأول، لا يوجد صعود للجبل.

إذا أردنا حقًا اتباع الله، ينبغي أن نكون معنيين بعالم الروح الغير منظور. وإني أستخدم هذه الكلمة (الغير منظور) وأعلم جيدًا كم يستهزئ بها ويحتقرها أولاد هذا العالم، ويرونها كوصمة عار على صدور المؤمنين. فليكن، لأن كل إنسان عليه أن يختار اختياره في هذه الحياة. ولا أعلم لماذا يعترض العلام علينا عندما نقرر أن نتبع المسيح (ونحن مُدركين الحقائق والواقع) ونختار بوعي ملكوت الله؟! إذا كانت النتيجة النهائية هي خسارتنا، فنحن وحدنا الخاسرون؛ إذا كسبنا، فنحن بمكسبنا هذا لا نسلب أحدًا. إن عالم الروح هو اختيارنا وهو الهدف الأعظم لاشتياقنا المقدس – ونحن مُدركين تمامًا أن عالم الروح هذا هو مدعاة لسخرية الآخرين وموضوع لأغانيهم السكّيرة المتهكمة.

وعلينا أيضًا أن نتفادى الخطأ الشائع في دفع عالم الروح إلى زمن المستقبل. إنه ليس مستقبلاً بل حاضرًا الآن. إنه يوجد متوازيًا مع العالم المادي الملموس، والباب الذي يفصل بين العالمين هو بابٌ مفتوحٌ. يقول الكاتب إلى العبرانيين (وأرجو أن نلاحظ أنه يستعمل الفعل المضارع) "بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ اللهِ الْحَيِّ. أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ، وَكَنِيسَةُ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَإِلَى اللهِ دَيَّانِ الْجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ، وَإِلَى وَسِيطِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، يَسُوعَ، وَإِلَى دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ." (عب 12: 22-24). كل ما يتحدث عنه الوحي "جبل صهيون". "وهتاف بوق وصوت كلماتٍ" (عب 12: 19)، يوجد موازيًا لوسيط العهد الجديد يسوع – كل هذه هي حقائق حاضرة وملموسة بالروح. إنها ليست في عالم الخيال المخادع، بل هي حقيقة الواقع. إن نفس الإنسان (وروحه) لها عين ترى وأذن تسمع. وحتى إن وجدت صعوبة في الرؤية والسمع، إلا أن لمسة المسيح المُحيية قادرة على مساعدة العين والأذن في الوصول إلى يقينية الرؤية والسمع.

كلما شخصنا النظر في الله، ستأخذ أمور الروح مكانها الثابت أمام أعيننا الداخلية. فإن الطاعة لكلمة المسيح ستعلن لنا داخليًا عن الإله الثالوث (يوحنا 14: 21-23)، والطاعة ستمنحنا إدراك ثاقب يمكننا من معاينة الله كما وعد هو أنقياء القلب. عندئذٍ سيستولى على مداركنا وعي إلهي من نوع خاص، فنتذوق في الروح هذا الإله الذي هو حياتنا وكل شئ لنا. سيشع دائمًا في قلوبنا "النُّور الحقيقيّ الذي ينيرُ كلَّ إنسانٍ" (يو1: 9). وتزداد حساسية قدراتنا الروحية لرؤية الله، وهنا يُصبح الله لنا هو الكل في الكل، وحضوره هو مجد وروعة حياتنا.

 

صلاة:

يا الله، لتُحي كل طاقة في كياني لأُدرك أمور الأبدية. افتح عيني فأرى وأعطني إدراكًا روحيًّا نافذًا. ساعدني أن أتذوق روحك وأعرف أنك صالح. لتجعل السماء حقيقة وواقع بالنسبة لي أكثر من كل الأرضيات. آمين

 

 (أ. و. توزر)

"اللهث وراء الله"