التناقضات البشرية

بليز باسكال ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

(من خواطر بليز باسكال)

 

الحقيقة أحيانًا كثيرة قد تبدو لأول وهلة أن بها تناقضات Paradoxical.. لابد أن نبدأ بذلك، وإلا فلن نستطيع أن نفهم أي شئ..

 

فكِّر في العظمة والبؤس. حيث أن البؤس يمكن الاستدلال عليه من العظمة والعظمة من البؤس..

هذا لأننا أكثر بؤساء لكوننا قد سقطنا من مكانة عالية..

كلاهما يعمل في دائرة مغلقة. لأنه من المؤكد أنه على قدر ما يكون للبشر بصيرة، فإنهم يجدون كلاً من العظمة والبؤس في الإنسان. باختصار، يُعرف الإنسان أنه بائس. لذلك فهو بائس لأنه هو كذلك. ولكنه أيضًا عظيم لأنه يعي ذلك.

كلما ازددنا في الاستنارة، كلما اكتشفنا أكثر العظمة والبؤس في الإنسان..

من الخطير أن نَدَع إنسانًا بوضوح شديد كم الأمور المشتركة بينه وبين الحيوانات دون مساعدته في نفس الوقت على إدراك عظمته. كما أنه من عدم الحكمة أن ندعه يرى عظمته بوضوح شديد بدون أن يُدرك أيضًا وضاعته. لكن الأكثر خطورة هو أن نتركه في جهل بكل منهما. لذلك من المفيد أن نُلفت الانتباه إلى كلا الأمرين.

بعد إظهار مدى حقارة وأيضًا مدى عظمة الإنسان، يتمكن الإنسان من تقدير قيمته الحقيقية..

دعه يكره ويحب نفسه على السواء، لأنه توجد في داخله القدرة على معرفة الحقيقة وعلى أن يكون سعيدًا، لكن أيضًا لا توجد داخله حقيقة لا ثابته ولا مُرضية..

الديانة الحقيقية التي تعلِّم عن عظمة الإنسان وبؤسه تبعث على تقدير الذات كما تبعث على احتقار الذات.

يمكن التفكير في طبيعة الإنسان بطريقتين. عندما يُرى بحسب الغاية من وجوده، فإنه يكون عظيمًا ولا يُضاهى. أما إذا تم النظر إليه مثل إنسان عادي، فإنه يكون مثل كلب أو حصان يتم الحكم عليه بواسطة الآخرين بحسب مدى عدوه جيدًا أو طرده للغرباء. إذ تتم رؤيته من هذا المنظور، يكون الإنسان حقيرًا وبائسًا. كل من الطريقتين يثير تنوعًا من الأفكار والمجادلات بين الفلاسفة لأن كل منظور يُنكر فرضية الآخر.

فيقول أحدهم: "لم يولد الإنسان لأجل هذه الغاية، لأن كل شئ يفعله ينكرها." بينما يقول الآخر: "إنه يُقصر كثيرًا عن غايته عندما يتصرف بمثل هذه الحقارة". (لذلك رغم أنه لا يمكن حسم الشكوك بحسب المنطق الطبيعي Natural Reason. لكن الإعلان Revelation المسيحي يزعم أن لديه إجابة).

لكونهم (البشر) غير قادرين على علاج الموت، والبؤس، والجهل، قرر البشر أنه لكي يكونوا سعداء، لابد أن يكبتوا التفكير في مثل هذه الأمور..

إن لديهم غريزة سرية تدفعهم للبحث عن الملاهي والانشغالات الخارجية، وهذا نتيجة شعورهم المستمر بالبؤس. كما أن لديهم غريزة أخرى، التي تأتي من عظمة طبيعتنا الأصلية. إنها تخبرهم أن السعادة الوحيدة الحقيقية تكمن في الراحة وليس في الإثارة. هاتان الغريزتان المتناقضتان تثيران الارتباك في أعماق أنفسهم، وتقودانهم إلى السعي للراحة عن طريق النشاط والعمل. لذلك فهم يتخيلون دائمًا أن الرضى الذي يفتقدونه سوف يأتي إليهم بمجرد أن يتغلبوا على صعوبات معينة واضحة. ثم يفتح هذا الباب للإتيان بالراحة المنتظرة.

هذه هي الكيفية التي تفلت بها حياتنا بأكملها من بين أيدينا. إننا نسعى للراحة عن طريق مكافحة بعض العقبات، وبمجرد أن نتغلب عليها نجد أننا لا نستطيع احتمال الراحة بسبب الملل الذي تُنشئه، لابد أن نبعد عن هذا كله. لكننا عندئذٍ نتجول متسولين بحثًا عن إثارة جديدة. فنحن لا نستطيع أن نتخيل حالة ممتعة بدون لهو وضوضاء. إننا نفترض أن كل حالة يمكننا أن نستمتع فيها بنوع من الإلهاء تكون مريحة ومرضية. لكن فكرِّ في نوع السعادة التي تتكون فقط من مجرد الإلهاء عن التفكير في أنفسنا!

إذا كان العقل منطقيًّا وراشدًا، فإنه إذًا سيكون منطقيًّا بما يكفي للاعتراف بأنه قد فشل في اكتشاف أي شئ مهم..

نحن نريد الحق ولكننا لا نجد سوى عدم اليقينية. نسعى وراء السعادة لكننا نجد فقط التعاسة والموت. نحن غير قادرين على التوقف عن طلب الحق أو السعي وراء السعادة، لكننا لا نستطيع أن نحصل على اليقينية أو على السعادة. لقد عُوقبنا بوجود هاتين الرغبتين في داخلنا لكي ما ندرك كم هو مقدار سقوطنا.

ومع ذلك، من الجيد أن نتعب ونُحبط في البحث غير المثمر عن الخير، بحيث يستطيع الإنسان أن يمد ذراعيه بدلاً من ذلك إلى الفادي The Redeemer.

بدون "إيمان" لا يستطيع الإنسان أن يعرف لا حقيقة الخير ولا حقيقة العدل. الجميع بلا استثناء يبحثون عن السعادة. على الرغم من أنهم يستخدمون وسائل مختلفة، إلا أنهم جميعًا يكافحون للوصول إلى هذا الهدف. هذا هو السبب في أن البعض يذهبون إلى الحرب والبعض يقومون بأشياء أخرى. وهكذا، هذا هو الدافع لكل عمل للبشر، بما فيهم أولئك الذين يشنقون أنفسهم.

البعض يبحثون عن خيرهم في السلطة، والبعض في الدراسة والمعرفة، والبعض في المتعة.

ومع ذلك على مدى سنين كثيرة، لم يصل أبدًا أي إنسان بدون إيمان إلى الهدف الذي يُجاهد لأجله الجميع باستمرار. الجميع يشكون –الأمراء والرعايا، النبلاء وعامة الشعب، الكبار والصغار، الأقوياء والضعفاء، المتعلمون والجهلة، الأصحاء والمرضى، في كل الشعوب- طوال الوقت في وكل العصور وتحت كل الظروف.

بالتأكيد دراسة مثل هذه التي واصلناها بدون توقف أو تغيير لمدة كبيرة يجب حقًّا أن تُقنعنا بأننا فعلاً غير قادرين أبدًا على الوصول إلى الخير بمجهوداتنا الخاصة. لكن السابقة تعلمنا القليل. فلا يوجد اثنان متماثلان تمامًا، وهذا هو ما يجعلنا نتوقع أن مجهوداتنا لن تفشل هذه المرة كما حدث في مرات سابقة.

 

من كتاب "باسكال"