الكتاب المقدس والعلم (التكامل)

د. بول تورنييه ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

"خلال القرن الماضى سمح الله لعلماء النفس بتطوير أدوات وأبحاث علمية دقيقة لدراسة سلوك الإنسان، ونحن نحد من فاعليتنا فى مساعدة الآخرين إذا رفضنا كل الحقائق المُكتشفة بواسطة دراسات فهم سلوك الإنسان (أى علم النفس) ونصمم بعناد أن هذه الدراسات ليس لها ما تساهم به فى حياة الإنسان ومساعدته على علاج مشاكله."

 جارى كولنز  Gary Colins

من كتاب: "المشورة المسيحية  "Christian Counseling

 

"إن المسيحية لا تحل محل التقنية the technique؛ عندما تقول لك أن تطعم الجياع فهي لا تعطيك دروساً فى الطهى."

سي. إس. لويس  C. S. Lewis

من كتاب: "المسيحية المجردة  "Mere Christianity

 

أحد الأسئلة التي تواجهنا حين نفتح الكتاب المقدس هو العلاقة بين العلم والإيمان..

يعتقد الكثيرون أن الكتاب المقدس يتعارض مع العلم تعارضًا جوهريًّا. وحين نتحدث بوصفنا أطباء آخذين في الاعتبار معتقداتنا الدينية، فإن بعض الأطباء يعتقد أننا نرفض العلم. ومن جانبهم، يرى بعض المؤمنين أننا حين نلجأ للعلم في معالجة الأمراض، فأننا نرفض الإيمان. وذات يوم كنت أفحص مريضة مصابة بفتق، ونصحتها أن تستشير طبيبًا جراحًا، لكنها رفضت، وعلقت على نصيحتي قائلة: "لا أريد أن أعتمد على أحد آخر غير يسوع المسيح". ولاحقًا، قابلت صديقًا كنت أعالجه لعدة سنوات بالاشتراك مع طبيب نفسي، والذي كان يعالجه أثناء الفترات العصبية من مرضه. وقد أخبرني أنه ذهب لطبيبه النفسي مؤخرًا. وأنه نصحه أن يستخدم أقراصًا أو شرابًا منومًا، على أن يستخدمه كل ليلة. وأخبرني أنه صار أكثر هدوءًا واسترخاءً وأقل غضبًا، وأكثر مجهودًا في عمله، ومع ذلك لم يكن مرتاح الضمير وهو يأخذ الدواء. كان يعتقد أن استخدام وسائل غير طبيعية لهو دليل ضعف الإيمان.

سألته: "ولكن، هذا الدواء بركة من الرب أيضًا، يعطينا إياه مثلما يعطينا خبزنا اليومي!".

وهكذا، لا أقدر أن أُنكر أنه يمكن للإنسان أن يرفض المساعدة الطبية نتيجة فهمه لبعض وصايا الله بشكل مختلف. وبالأسلوب نفسه، فإن الرهبان والنساك، وحكماء الشرق، كانوا يصومون عن الطعام لفترات طويلة. ولكن كل هذا ليس دليلاً على ضعف الإيمان حينما نأكل الخبز اليومي الذي نطلب من الله أن يمنحه لنا، شريطة أن نقدم له الشكر من أجله. ويمكن أن نقول نفس الشيء عن أمور كثيرة مثل أن ترتدي ثيابًا صنعها الخياط، وأن تجلس تحت سقف صنعه النجار، وأن تسافر للخارج في قارب صياد. وها هنا نرى حياة يسوع في كامل إنسانيتها، كان يسوع نجارًا، أي يعمل عملاً فنيًّا (مت 13: 55). وانظر إلى مجادلاته مع الفريسيين بشأن الطعام (مت 11: 19)، والمعجزة التي صنعها في عرس قانا الجليل (يو 2: 1-11)، ورحلاته الكثيرة التي كان يستخدم فيها قاربًا أو سفينة (مت 8: 23)، مع أنه كان قادرًا أن يسير فوق المياه (يو 6: 19).

ولنأخذ حذرنا من التعميمات. فإن الرفض المنهجي لقبول فوائد التقنية والنجاحات العلمية يعود إلى الفكرة التي سبق وأشرت إليها: أي وجود صراع ما بين ما هو روحي وما هو مادي. وإني لا أجد في الكتاب المقدس ما يدعم هذه الفكرة. بل يُخبرنا الكتاب المقدس أن العلم عطيّة من عند الرب. وحين خلق الله الإنسان أمره أن يُعطي اسمًا لكل طير من طيور السماء وكل حيوان من حيوانات البريّة (تك 2: 19). وإن تُعطي شيئًا ما اسمًا لهو القاعدة الأساسية للعلم. وما وظيفة العلم الطبيعي إلا أن يُعطي اسمًا محددًا لكل نوع من المخلوقات، ولكل عنصر كيميائي، وكل قوة فيزيائية. وكما هو الحال في الرياضيات، فإن "بوانكاريه" يقول: إنها لغة اصطلاحية.

ويمكننا أن نرى أساس العلم في تلك القوة الفريدة التي منحها الله للإنسان "ذكر وأنثى" حين قال لهما: "أثمروا واكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض – (تك 1: 28)".

كتب "دينيس روجيمونت": "إن القنبلة الذريّة ليست هي الخطر في حد ذاتها، هي مجرد شئ. أما الخطر المرعب فهو... الإنسان... وأقولها بكل وضوح: إن تركنا تلك القنبلة لحالها، فلن تفعل شيئًا. لذا دعنا من هذا الهراء، ومن ثم، فإن ما نحتاجه هو السيطرة على الإنسان. أما الكتاب المقدس فلا يدين العلم إلا حين يبتعد عن كونه عطيّة من عند الله، وحين يتحدث بكونه إلهًا، حين ينتفخ بكبريائه، حين يدعي أنه يُحرر الإنسان من قبضة الإله. كما قبل إرمياء النبي "ملعونٌ الرجل الذي يتكل على الإنسان" (إر 17: 5)."

ينظر الكتاب المقدس إلى العلم بكونه عطيّة الله، عهد به الله إلينا، حتى نعتني بمرضانا بشكل أفضل. ومع ذلك، فالأمر معرّض لخطر فقدان ذلك التواضع في غياب العلم الحقيقي والطب الحقيقي. ويمكننا أن نسترد تواضعنا إن راجعنا سلوكنا، فالكتاب المقدس يُكثر الحديث عن التوبة.

إن لم يكن العلم في صراع مع الكتاب المقدس أو يريد أحدهما أن يضحد الآخر. هنا يجب أن أُبدي ملاحظة مهمة عن الروح التي بها ندرس نحن الأطباء الكتاب المقدس، ففي محادثة بيني وبين البروفيسور "إيكرودت Eichrodt" من مدينة Bale، أخبرني أنه يتعامل مع القانون، والاقتصاد، والسياسة وعلم الاجتماع. وناقش معي إلى أي مدى يجب على المسيحي أن يستلهم من الكتاب المقدس ما يعينه على تنظيم المجتمع في هذه المجالات جميعًا.

وأشار إلى ثلاثة مواقف: أولاً: السلوك الحرفي، وهو يسعى لفرض ناموس موسى على مجتمعنا الحديث. على أساس أنه التشريع الوحيد الذي سنّه الله بنفسه. ثانيًا، الموقف التشككي، والذي يعتبر أن الناموس الموسوي ينتمي إلى حقيقة سحيقة في القدم وقد عفى عليه الزمن، وأنه يمكننا أن نحتفظ برسالة الكتاب المقدس الدينية الصارمة، أما فيما يتعلق بتنظيم المجتمع، فليس أمامنا إلا العلم وهو فقط يستطيع أن يساعدنا في هذا الأمر. ثالثًا: وهو موقف وسط بين الموقفين السابقين، وقد دافع محدثي عن هذا الموقف الثالث. وإن وجهة النظر الكتابية ليست منفصلة عن عالمنا هذا وما يجري فيه من أحداث، ولكن، بالأحرى هو دين متجسد، يُشكّل حياة الإنسان والمجتمع. واستطرد قائلاً: وإليك الطريق الذي سنسلكه: خذ الناموس الموسوي كله كما هو، ولكن دون الدخول في أية تفاصيل، وافهم مبادئه الأساسية، وعلى سبيل المثال، مبدأ حماية الضعيف، وهو أحد سمات الكتاب المقدس الأساسية، عليك أن تطبقه في عالم اليوم بحسب أحواله وظروفه.

وبينما كنت أستمع له، كنت أفكر في الطب. ذلك لأن الموقف الحرفي حين يصف كمية غذائية لمريض سوف يُحرم من لحم الخنزير، وبقية الحيوانات المذكورة في الإصحاح الحادي عشر من سفر اللاويين. ومن الممكن أن يتبنى التشخيص المقارن للبرص المذكور في الإصحاح الثالث عشر، أو قواعد النظافة الجنسية في الإصحاح الخامس عشر، كما أن المرضى يجب علاجهم كما في أيام داود أو يسوع المسيح، ونستخدم ضمادة إشعياء التي من التين لشفاء الدمل (2 مل 20: 7)، أو الطين للشفاء من العمى (يو 9: 6)، والخمر للحموضة (1 تي 5: 23). وباختصار، سيقع الإنسان في حيرة ما بين الكتاب المقدس والعلم، وسيبحث في الكتاب المقدس عن تعليم علمي وهو غير موجود.

وهناك الكثير من الأطباء الذين يتبنون الموقف المعارض، أي أن العلم هو القادر وحده أن يقودنا ويقود عملنا المهني في عالمنا المعاصر، وعلينا البحث عن أخلاقنا وحياتنا الدينية في وصايا الكتاب، ولكن هذا لن يفيدنا شيئًا فيما يتعلق بالطب. وكما يقول الاختصاصي الألماني "نونين": "إما أن يكون الطب علميًّا أو لا يكون".

ولكني أتبنى الموقف الثالث الذي يتبناه البروفيسور "إيكرودت" مما سيقودنا إلى البحث في الكتاب المقدس.

وإليك مثال عن الجانب السيكولوجي للكتاب المقدس. قيل بشأن تأسيس الزواج: "لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدًا واحدًا – تك 2: 24". أي أنه وفقًا لخطة الله، فلكي تتزوج عليك أن تنفصل عن أبيك وأمك.

يأتي إلينا أزواج طلبًا للمشورة حيث إن زواجهم يواجه صراعات كثيرة، وأغلب تلك الصراعات في أساسها نتجت من الفشل في إدراك هذا القانون المقدس. وقد أظهر الفحص الجيد لتلك الحالات أن واحدًا منهم أو أكثر، وأحيانًا جميعهم، يظل يعاني من اعتمادية نفسية طفولية على والديهم، وقد تستمر هذه الحالة بعد وفاة الوالدين أيضًا. وتصب اعتمادية الرجل على أمه، أما المرأة فيصب اعتمادها على أبيها، والذي يظل حتى بعد وفاته أكثر الأشخاص ارتباطًا بها.

وبالطبع، هم عادة لا يدركون الحقيقة. لقد سقط هؤلاء ضحية ما يسميه علم النفس أب "اللاوعي" أو الأم "الدفينة" إذ يظل الوالدان مركز حياة مثل هؤلاء الأشخاص، وهما مركز دعمهم وإلهامهم، وهي محاولة للاحتفاظ بالمكان الذي ينبغي أن يحتله شريك الحياة. كما أن هناك حالات حيث لم يتجاوز الرجل ثورة مراهقته ضد أبيه. بل ينتقده على الدوام، ويعارض أية اتجاهات يتبناها الآب في حياته. وعلى الرغم من تلك الحقيقة، وبصرف النظر عن تمرده، واعتماده عليه، إلا أن هذا التمرد يتحكم في أفعاله. إذ قد تزوج دون أن يتحرر، ودون أن يمنح نفسه لشريكه دون تحفظ.

وكثيرًا ما رأينا آباء لم يرخوا قبضتهم عن طفلهم الذي كبر وتزوج. وعادة ما يكون هؤلاء الأشخاص ممن تلقوا قسطًا كبيرًا من التعليم، وحسني النية، مستنيرين، بل ومتدينين كثيرًا. وهم يظنون أنهم يفعلون الصواب حين يُحيطون ابنهم أو ابنتهم المتزوجة بعنايتهم وحمايتهم، ولكي يمنحوهم عصارة نصائحهم في كل شئ. وهم لا يدرون أنهم بذلك يجعلونهم في حالة من الاعتمادية لا تتفق وتعاليم الكتاب المقدس. وغريزة الحماية هذه، والتي تُشبه الدجاجة التي تجمع فراخها تحت جناحيها، قد تكون شديدة القوة. ولقد تقابلت مع امرأة كانت حماتها تقتحم غرفة نومها وهي مع زوجها، وذلك بعد أن عادا من شهر العسل. وبالطبع، لا يتنازل الآباء عن مكانتهم عن زواج أبنائهم فقط. بل يجب أن يحدث هذا منذ الطفولة وفي فترة المراهقة، حتى يسمح لهم أن يكونوا أنفسهم، وأن يكونوا أشخاصًا حقيقيين. وهناك مثال يرويه لنا الكتاب المقدس. وقد رواه القديس لوقا (لو 2: 41-51). حيث كان يسوع في الثانية عشرة من عمره، واصطحبه أبواه إلى أورشليم، ولكنه لم يغادر أورشليم معهما، بل فضّل أن يبقى في الهيكل يتحدث مع اللاهوتيين. ومن الطبيعي أن تظن أمه أنه لا عمل له سوى أن يرضيها وألا يسبب لها المتاعب. لذا وجهت له لومًا شديدًا حين عثرت عليه ثانية. ولكنه أجابها في حزم: "ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي؟". لقد استطاع أن يفصل نفسه عن أمه وهو في الثانية عشرة من عمره، ليكون نفسه، وليكتشف مهمته الخاصة. لم يكن على استعداد أن يكون كما تتصوره أمه، ولكن ما دعاه الله أن يكونه. كما يرينا الكتاب مثالاً للأم المهيمنة أو بعبارة أخرى "عقدة الأم"، كما يسميها علماء النفس. كما أن هناك فقرة في الإنجيل حيث نرى أمًّا لتلميذين من تلاميذ الرب، يعقوب ويوحنا. جاءت الأم إلى يسوع وقال له: "قل أن يجلس ابناي هذان واحدٌ عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك – (مت 20: 21)". وهنا يعرض لنا الإنجيل طموحات أم نحو أبنائها، وكم نقابل مثل هذه الأم في خضم الحياة.

وسوف تتاح لنا الفرصة لدراسة أمثلة أخرى متميزة تُظهر الحكمة النفسية للكتاب المقدس. ولكن، وقبل كل شئ، أود أن أعود إلى أسلوب البروفيسور"إيكرودت"، أي البحث عن وجهة نظر الكتاب المقدس.

 

بول تورنييه

من كتاب "يوميات طبيب"

للمزيد في هذا الموضوع، راجع مقال (فيما يُقدم تحت عنوان "المشورة الكتابية")