الاغتراب الذاتي: المشكلة الوجودية الأولى

مشير سمير ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢

في مشكلة الإنسان الوجودية الأولى والأساسية:

انفصاله واغترابه عن نفسه وفقدانه لمعنى الحياة

وبناءه للوجود الزائف

 

اغتراب الإنسان

 الاغتراب هو إحساس الإنسان بأنه غريب عن نفسه أول كل شيء، ثم غريب عن كل شيء آخر بالتالي. وانفصال الإنسان عن ذاته الأصيلة -التي في الله- جعله غريباً ومغترباً عنها، أي عن ذاته (الأصيلة). ولقد صرح الفيلسوف والمفكر الفرنسي جان جاك روسو في القرن الـ 18 بأن الإنسان "أخفق في تحقيق وجوده الأصيل". وبالرغم من أنه كان يُرجع سبب ذلك الإخفاق إلى أمر آخر غير السقوط – بل كان يرفض فكرة الخطية الأصلية وسقوط الإنسان، إلا أنه أدرك واقع هذا الإخفاق وتحدث عنه بوضوح. وقد أتى بعده هيجل، الفيلسوف الألماني الشهير، ليؤكد بوضوح – من خلفيته اللاهوتية – أن الإنسان منفصل/خارج عن نفسه، حين وضع لأول مرة مصطلح "الاغتراب Alienation"* على خريطة الإنسان للتعبير عن هذه الحالة التي نعاني منها أنا وأنت. إنه اغترابنا وتغربنا عن أنفسنا، والذي هو في الأصل تغرب عن الله كما قال اللاهوتي الليبرالي بول تيليك (أو بول تيليش كما يكتب في العربية): "إنه انفصال الإنسان عن وجوده الجوهري، وعن الله. وهو الأمر الذي صار طابعاً مميزاً للوجود الإنساني منذ السقوط."[1]

ويضيف تيليك قائلاً: "وهكذا نجد أن حالة حياتنا الكلية عبارة عن اغتراب عن الآخرين وعن أنفسنا، لأننا مغتربون عن أساس وجودنا، لأننا مغتربون عن أصل حياتنا وهدفها.وبالرغم من أن البشرية ليست غريبة على الله، فإنها مغتربة عنه… إن البشرية مفصولة عن أصلها."[2] إذاً، فاغتراب الإنسان عن ذاته ليس إلا نتيجة لاغترابه عن الله "نقطته المرجعية"، وهذا هو المصطلح الذي خرج به اللاهوتي فرانسيس شيفر[3] في مناقشته لفلسفة سارتر الإلحادية، إذ يقول سارتر رغم إلحاده بأنه: "لا يوجد أي معنى لنقطة محددة ما لم توجَد لها نقطة مرجعية تقارن بها، وإن وُجدت نقطة محدودة ليس لها نقطة مرجعية غير محدودة فهي نقطة غامضة بلا معنى"، استناداً على ما ذكره أفلاطون عن نسبية الأشياء والتي لا يقوم لها معنى بدون نسبتها إلى المطلق، وهنا كانت مقولة شيفر بأن الله هو النقطة المرجعية الوحيدة للإنسان كالإجابة النهائية المفحمة.

وهنا يتفق جميع علماء اللاهوت مع سارتر وأفلاطون في أن الإنسان كائن محدود وليس له مرجعية في ذاته ولذلك فهو يفقد ذاته** ووجوده ويصير بلا معنى بدون الله (النقطة المرجعية للإنسان) التي يقدمها اللاهوت المسيحي.

 إذاً فالإنسان بدون الله هو ذات ممسوخة، منسوخة (مُحرفة)، مشوهة وغير موجودة حقيقةً. كما يقول عالم النفس شاختل: "إن المغترب عن ذاته لا يعرف من يكون ولا ماذا يريد."[4] ففي السقوط حدث تحور جذري في ما هو الإنسان كجنس بشري خلقه الله، كما شرحنا في هذا الجزء من الكتاب، إذ في اللحظة التي وضع فيها الإنسان ذاته مركزاً للكون فقد ذاته، فصار أجوفاً متمركزاً حول فراغ وعابداً للاشيء! تماماً كما الشجرة التي فقدت قلبها، جذرها، مصدر الحياة, ماتت وهي لازالت واقفة، صارت جوفاء، فارغة من الداخل، مجرد بناء خارجي هش وضعيف ومنفصل عن داخله متروك عرضة للتيارات الخارجية.

وهذه الذات أو الوجود هي جوهر ما فقدناه كبشر – بعد فقدان الله - بالسقوط.

 

معضلة*** المعنى The Dilemma of meaning

 فهمنا أنه بسقوطنا وانفصالنا عن الله وعن ذاتنا صرنا متغربين/خارجين عن ذواتنا (فارغين من الداخل)، وكذلك من جهة الله، وهو الاغتراب الأخطر كما قال شيفر:

"لكن الإنسان ثار على الله وحاول أن يستقل بذاته، لذلك فإن الاغتراب الأعظم هو الانفصال بين الإنسان والله."[5]

إن هذا الانفصال/الاغتراب الداخلي المزدوج (انفصال الإنسان عن الله وعن ذاته) هو كارثة الإنسان ومشكلته الأولى. فهذا التلف والتفسخ والفصام الداخلي الذي أحدثه السقوط في الكيان الإنساني جعل الإنسان دائم البحث عن المعنى والهدف من وجوده (الذي فقده) دون فائدة.

وهكذا صار الإنسان (بين شقي رحى) في معضلةٍ لا يجد لها حلاً؛ فهو من جهة لا يستطيع أن يحيا بدون أن يجد لحياته معنى أو غرضاً مُشبعاً لوجوده، كاحتياج أساسي له. ومن جهة أخرى فهو بسبب تلفه وفساده وانفصاله عن ذاته الأصيلة في الله لا يستطيع أن يجد هذا المعنى المشبع له في الحياة‍‍‍!!والإنسان المؤمن بالطبع لا يجد الحل لهذه المعضلة في لحظة واحدة من الإيمان، كما لو كان الإيمان مساً سحري، بل أنه يرى لمحة منه فقط، ولكن عليه أن يستمر عاماً بعد عام في رحلة العودة التدريجية إلى الحل من خلال إيمانه هذا، كما شرحنا في هذا الجزء من الكتاب، وهو ما يبدو للأسف أن الإنسان غالباً ما يفشل فيه إذ أنه يريد حلاً سريعاً ومباشراً بينما هو في معضلة ليس لها حل سريع أو مباشر. فكل الأهداف إذن التي يملكها الإنسان، الزواج، الأولاد، النجاح والعمل، الدراسة والتفوق، الامتلاك، وحتى العمل بخدمة مسيحية، تظهر في وقت ما غير كافية أو مشبعة له.

 يعبر الكاتب المسيحي الرقيق هنري نووين عن هذه المعضلة الإنسانية في خواطره الشخصية كالتالي:

"هناك انفصام قد حدث بين الإلوهية والإنسانية في داخلك. ففي مركز الإلوهية الممنوحة داخلك أنت تعرف إرادة الله وطريقه ومحبته. ولكن إنسانيتك مفصولة عن ذلك. فاحتياجاتك الإنسانية العديدة للحب والسلوى والاهتمام تحيا بمعزل عن المساحة الإلهية المقدسة داخلك. ودعوتك هي أن تجمع بين هذين الجزأين من ذاتك من جديد."[6]

 وتظهر عمق المشكلة في استمرار ملاحقة التساؤلات للإنسان عن معنى الحياة وعن معني وهدف وجوده إذ أنه لا يستطيع أن يعيش بدون معنى وغرض حقيقي ومُشبع يُوجد لأجله، أو كما قال فيكتور فرانكل: "إني أجرؤ على القول بأنه لا يوجد شيء في العالم ينجح في أن يساعد الإنسان على الاستمرار في الحياة حتى في أسوء الظروف قدر معرفته بأنه يوجد لحياته معنى." وللأسف هذا ما لا يستطيع أن يجده الإنسان المعاصر (ولقد أثبت تلامذة فرانكل في دراسة مسحية إحصائية أن 55% من مرضاهم يطلبون العلاج بسبب إحساسهم المباشر بخلو حياتهم من المعنى.)[7] فلو استطاع الإنسان أن يتخلص من بحثه عن المعنى لربما شعر بالراحة. ورغم أنه قد ينجح في هذا مؤقتاً عن طريق الانشغال في الحياة، إلا أن الإنسان الجاد لا يستطيع أن يتوقف عن البحث عن ما لا يستطيع أن يجده. وهذا أيضاً من لعنة السقوط.

ولهذا نسمع شيفر يقول: "إن نقمة الإنسان اليوم أنه لا يجد معنى للإنسان."[8] ولعل هذه كانت إحدى أوجه نبوة أرميا حين قال في معضلة الإنسان: "كسركِ عديم الجبر (لا شفاء له) وجرحكِ عُضَال ("عُضَال" من "المعضلة"، أي لا علاج تام له)." (أر30: 12).

 ولنستمع أيضاً في هذه المعضلة المؤلمة إلى الاقتباسات التالية من أفكار باسكال واعترافات القديس أغسطينوس من وجهة النظر اللاهوتية، وأيضاً من المعاصر د. أنطوني ستور من وجهة النظر العلمية.

يقول باسكال: "نحن نريد الحق ولكننا لا نجد سوى عدم اليقينية. نسعى وراء السعادة لكننا نجد فقط التعاسة والموت. نحن غير قادرين على التوقف عن طلب الحق أو السعي وراء السعادة، لكننا لا نستطيع أن نحصل على اليقينية أو على السعادة. لقد عُوقبنا بوجود هاتين الرغبتين في داخلنا لكي ما ندرك كم هو مقدار سقوطنا."

كما يقول القديس أغسطينوس: "الويل للعُسر في العالم (لمأزق/لمعضلة هذه الحياة)؛ والويل له مرة واثنتين وثلاثاً بسبب الميل الذي يظل في قلب الإنسان نحو السعادة (وهو لا يستطيع أن يحصل عليها) … أليست حياة الإنسان تجربة لا تنقضي؟"

أما أنطوني ستور، فيقول: "الواقع أن الإنسان في بحث دائم عن السعادة، ولكنه بحكم طبيعته الذاتية معوق عن الحصول عليها بشكل نهائي وعلى الدوام، سواء في علاقاته مع الناس أم في سعيه الإبداعي."[9]

 

الجميع يعانون من هذه المعضلة:

 طُلِبَ من الشيخ نعيم عاطف (الشيخ بالكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة) كتابة ترنيمة تعبر عن حال الشباب المعاصر، فطلب هو تسجيل أحاديث وحوارات بعض هؤلاء الشباب لكي يتعرف أكثر على طبيعة مشاكلهم الحالية. وبعدما استمع إلى هذه التسجيلات كتب الكلمات الآتية:

مع إن الدنيا زحمة وكل شيء قريب

وليَّ ألف صاحب وليَّ 100 حبيب

لكني لسه عايش .. عايش إحساس غريب

حاسس بأني وحدي .. حاسس فراغ رهيب!!

الدنيا جوه حياتي فضا وفراغ ممدود

وفراغ الفكر واخدني معاه لطريق مسدود

زهقان من نفسي لأن المعنى ماهوش موجود

وبأعيش أيامي زهق وملل وفراغ وشرود

حتى اللي أنا فاكره الحرية أصبح في حياتي قيود

 

ولعل هذه الكلمات مجرد عينة تخبرنا بواقع مشكلة الإنسان. إن عبارات دارجة مثل: "زهقان، عايز أغير، ما تيجوا نعمل حاجة مختلفة، كله محصل بعضه، دماغك، كَبّر …" عبارات مثل هذه والتي كثيراً ما نسمعها دون أن نحلل معناها، في رأيي إنما هي مجرد انعكاس وإظهار شعبي للمعضلة الأصلية التي لا نريد أن نراها أو نتلامس معها، وهي المشكلة التي لا تجد حلاً لفراغنا الداخلي واغترابنا عن أنفسنا، أو كما أسماها كيركجارد (مؤسس الوجودية المسيحية) "الملل/السأم الحقيقي البحت" حينما قال أنه ملال المرء من نفسه، وإحساسه بفراغ رهيب غريب يهدد الحياة نفسها بفقد معناها.

 

المشكلة الوجودية ومعنى الحياة:

 يسأل الإنسان نفسه منذ البدء هذا السؤال عن معنى حياته ووجوده، ولا يجد الإجابة الشافية. وهو نفس السؤال الحرج الذي طرحه أيوب في أزمته (أي 3: 11، 20، 23/ 10: 18)؛ لما الحياة، ولما يولد الإنسان ويتألم ثم يموت؟ هل الحياة عبثية أم أن لها معنى؟!

 يقول الطبيبان ماي و يالوم في كتابهما عن العلاج النفسي الوجودي:

"إذا كان كل شخص مائتاً لا محالة، وكان كل شخص يشيد عالمه الخاص، وكل شخص وحيداً في عالم غير مكترث، فماذا عسى أن يكون للحياة من معنى؟ لماذا نعيش؟ كيف نعيش في مقبل الأيام؟ إذا لم يكن هناك تشكيلُ مسبق للحياة وتكوين مُقدرُ سلفاً، فعلينا إذن أن نؤسس المعنى الخاص لحياتنا. ويصبح السؤال الجوهري عندئذ هو: "هل يمكن لمعنى حياتيٍّ يخلقه الفرد أن يكون من القوة والرسوخ بحيث ينهض بحياة ذلك الفرد ويحملها؟"[10]

يجيب الجناح الملحد للوجوديين، بتقديم الفرضية بأن الإنسان لابد وأن يخلق لنفسه معنى قوياً وراسخاً بحيث يكفي للنهوض بحياته ويعطيها المعنى، على اعتبار أنه لا يوجد للحياة تشكيل مُسبق ذو غرض. حتى أن سارتر يقول في كتابٍ له بعنوان "الوجودية مذهب إنساني" بأن الإنسان يخلق ذاته ويصنعها "الإنسان في البداية لا شيء. إنه لن يكون شيئاً إلا فيما بعد. وعندئذ سوف يكون على نحو ما يصنع من ذاته"[11].

 

ولكن هل يستطيع الإنسان أن يخلق ذاته أو أن يخلق لحياته هذا المعنى الكافي لإنهاضها؟!

هذا هو سؤالنا المسيحي الذي نضعه بجوار سؤال ماي ويالوم السابق، ونجيب عليه قائلين؛ بأن المسيحية تتفق مع الوجودية في أن الاحتياج الأول للإنسان هو إلى المعنى ولكنها تقول بأن هذا المعنى لابد وأن يكون أكبر منه، أي لا يستطيع الإنسان أن يخلقه أو يوجده بنفسه، بل يُبتلع الإنسان من هذا المعنى ابتلاعاً يكفي حياته وينهض بها. وهو ما يعنيه الرسول بولس عندما يقول لنا: "وفيه يقوم الكل" (كو1: 17)، أو كما يقول د. ق. فايز فارس: "ومع أن الإنسان مخلوق زمني، ومعرض للتغير والزوال، وهي صفات كل ما هو زمني، وسيواجه الموت، لكنه يستطيع أن يثري وجوده الزمني بمعنى أوسع من الزمن (أي أكبر من الزمن ومن الإنسان)، وهكذا يربط نفسه بالأبدية."[12]

ففي الواقع إن أي تأمل جاد في الحياة لابد وأن يفضي بنا إلى اليقينية بأنه لا يوجد شيء في الحياة في حد ذاتها (زمني) كافي لأن يكسبها المعنى.

فكما يقول بولس، حين نأتي إلى النهاية القصوى للحياة (الوقت منذ الآن مقصر)، لا الزواج وتكوين الأسرة (الذين لهم نساء كأن ليس لهم)، ولا الأفراح ولا الأحزان (والذين يبكون كأنهم لا يبكون، والذين يفرحون كأنهم لا يفرحون)، ولا التشييد والامتلاك (والذين يشترون كأنهم لا يملكون)، ولا العمل والإنجاز (والذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه)، أي من هذه الأهداف لا يصلح في مثل هذا الوقت أن يكون غرضاً مشبعاً وكافياً ًللحياة (1كو7: 29-31)!

 

فنحن إذاً يمكننا فقط أن نـُلهَى بمشاغل الحياة خمسين عاماً فلا نجد الفرصة لكي نشعر بمقدار تعاستها، ولكنا إن بحثنا عن معنى حقيقي وراء ما في الحياة من أنشطة وعمل وعلاقات فإننا نجده غير كافٍ لكي يعطي الحياة المبرر والمعنى.

 وهنا نجد أن المسيحية تقدم المبرر والتفسير الوحيد المشبع للحياة والذي يعالج مشكلة المعنى، من خلال البعد الروحي لوجود الإنسان كمخلوق ذو غرض وهدف أول لوجوده في هذه الحياة، غرض وهدف يقع خلف هذه الحياة، غرض أبدي فوق طبيعي خلف هذه الحياة، وهو إقامة علاقة حميمة مستمرة وثابتة مع خالقه فيها ينشغل الإنسان تماماً بأن يعرف الله ويحبه ويعبده ويخدمه (أي يمجده كما يقول قانون الإيمان).

 فإن أرقى أهداف الحياة، من دون البعد الروحي لا تكفي لإعطاء الحياة المعنى، طالما أن الحياة سوف تنتهي يوما ما. ولذا قال المسيح: "اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي" (يو6: 27). فإننا في قوله هذا نجد الإجابة لمعضلة المعنى، فبدون العلاقة مع الله (الإطار المرجعي للإنسان) فإننا كبشر بمفردنا بالحقيقة لا نستطيع أن نجد للحياة معنى، كما وإننا لا نستطيع أن نَخلق كما قال سارتر، هذا المعنى الكافي لإعطاء الحياة المبرر والمعنى. إننا فقط نستطيع أن نختار وأن نقرر الاستسلام لهذا المعنى الروحي كما تعلنه المسيحية، بكامل إرادتنا – وفقاً لحق تقرير المصير- إن أردنا أن نجد للحياة معنى.

 

"كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان.

 فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس." (يو1: 3، 4)

 

الوجود الزائف

 قلنا في معضلة الإنسان أنه لا يستطيع أن يحيا بدون أن يجد معنى كافيا لوجوده، وفي ذات الوقت هو لا يجد في ذاته أو في أي شيء آخر في الحياة هذا المعنى الكافي الذي يبرر وجوده (بسبب السقوط)! فماذا يفعل الإنسان في مجابهة هذه المعضلة؟!

ولنعط المعضلة مزيداً من الوضوح، دعونا نقول أن من سمات الطبيعة البشرية الساقطة أيضاً أننا صرنا غير صبورين ولا نكف عن طلب الحلول الفورية السريعة والمباشرة، كما أننا لا نحتمل الكفاح الطويل ودفع الثمن من أجل الحصول على ما نحتاجه حقيقة. فنحن نريد أن نحصل على ما نحتاجه الآن وفوراً دون الكفاح أو بذل العناء من أجله. وهكذا فعندما لا نجد حلاً كاملاً فورياً لمعضلة المعنى ويزداد ألمنا وصراعنا الداخلي فإننا نأخذ موقفاً من اثنين:

1-  إما أن نندفع فوراً لخلق معنى وهدف شخصي بديل وزائف لحياتنا لكي ما نشعر بإحساسٍ فوري، ولو زائف، بالقيمة والحب.

2-  وإما أن نهرب، ولو مؤقتاً، من مواجهة هذه الأسئلة المؤلمة في أعماقنا عن معنى الحياة ونحاول كبتها والتعامي عنها. كما يقول باسكال في خواطره: "أن حياة الإلهاء و الانشغال  Distraction هي الشيء الوحيد الذي يعزينا عن الإحساس الناتج عن مواجهة نفوسنا ورؤية حقيقتها وشعورها بالتعاسة." ولكن هذا أيضاً بلا جدوى، فنحن لا نستطيع أن نهرب تماماً من طعم الألم الذي نولد في الحياة وهو في أفواهنا ويبقى معنا طوال العمر كما لو كان خلفية موسيقية دائمة لمشهد حياتنا، ذاك الألم الذي ربما يتمثل فيما أسماه أحد علماء التحليل النفسي (أوتـّو رانك 1929) بصدمة الميلاد The Birth Trauma حين أرجع قلق الإنسان وألمه النفسي الدائم لما عاناه الإنسان من ألم لحظة الميلاد وانفصاله عن الأم والوقوف بمفرده في هذه الحياة.

 وهكذا لا يجد الإنسان – حتى المؤمن حين يبتعد عن العلاقة مع خالقه في البعد الروحي كالجواب الأوحد - لا يجد أمامه سوى أن يخلق لنفسه معانً زائفة للحياة في محاولة منه لمعالجة معضلة المعنى، وبالتالي يصير وجود الإنسان في الحياة "وجوداً زائفاً" بناء على المعنى الزائف الذي لديه في الحياة! فنحن نجد أن الإنسان – في غياب العلاقة الحميمة مع الله – قد يخترع لنفسه معنى وذات، كما قال سارتر.

 تعلق المحللة النفسية كارين هورني على الاغتراب الذاتي للإنسان، وبالتالي فقدان المعنى في الحياة - قائلة: "إن الفرد يصبح ببساطة غافلاً عن حقيقة ما يشعر به، وما يحبه، وما يرفضه وما يعتقده… باختصار يصبح غافلاً عن فهم من يكون؟ ونتيجة لافتقاره إلى فهم هويته فإنه يحيا حياته من نسج تصوره ويفقد الاهتمام بالحياة لأنها ليست ما يرغب فيه حقيقة (وكأنها تشير إلى بحث الإنسان اليائس عن الحق، كما قال باسكال سابقاً)، فليس في وسعه أن يتخذ قراراته، لأنه لا يعرف حقيقة ما يريد، ويعيش في حالة من اللاواقعية، وبالتالي فهو في حالة من الوجود الزائف مع نفسه."[13]

 هكذا بني الإنسان لنفسه- نتيجة لاغترابه وفقدانه لهويته- وجوداً ومعنى زائفاً مستقلاً من صنع نفسه ومن صنع أفكاره المبنية على خبرته بعد السقوط. صار عنده معانٍ عن من هو الإنسان، ولماذا هو موجود، وما هي الحياة وكيف تـُعاش، وما هو النجاح، وما هي السعادة؛ وكلها معانٍ تختلف كل الاختلاف عن الحقيقة التي صممها الله الخالق. فصار كل منا يجتهد في صنع الشخصية الجيدة، بل وحتى الشخصية المسيحية من وجهة نظره، والتي يراها مناسبة لنفسه من بنات أفكاره ومن النماذج الفقيرة المتاحة أمامه، وبهذا فقد الإنسان أيضاً تفرده إذ تحول الفرد إلى نسخة رديئة ومشوهة وليس أصلاً.

فعاش الإنسان فيما يُسمّى بالوجود الزائف Inauthentic Being أو المصطنع وصار يحمل بداخله وجوداً وهوية زائفة، وهذا هو المعنى السلبي الدارج بعد السقوط الذي نستطيع أن نطلقه على لفظة "ذات Self" بمعناها السلبي، أي محاولة الإنسان أن يجد كينونته بمعزل عن الله، كما رأينا في الملحق السابق "هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء.  ونصنع لأنفسنا اسماً." (تك 4:11) فهذه هي الذات التي يجب أن ننكرها ونتنكر لها بشدة إن رغبنا في أن نكون بحق مسيحيين، وأن نجد الطريق للخلاص والنجاة من مأزق السقوط الإنساني هذا. وهذا هو ما تحدث عنه الرب يسوع حين قال: "من يحب نفسه يهلكها. ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية." (يو12: 25)

 

"إن كل مشاكل الإنسان تنشأ من محاولة الإنسان التفرد بذاته بعيداً عن الله."

    (فرانسيس شيفر)[14]

 

وهنا لابد أن نقول أن أغلب المفكرين والعلماء واللاهوتيين يتفقون على أن أصل مشاكل الإنسان هو هذا الاغتراب الذاتي وفقدان المعنى الواقع فيهما الإنسان. ولكن كلٍ يعطي تفسيراً مختلفاً وبالتالي أسلوب معالجة مختلفاً لهذه المعضلة الأساسية. فالاغتراب بالتأكيد هو أصل القلق الإنساني Anxiety، كما سنرى في الملحق التالي الخاص بـ"عواقب السقوط"

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يرجع مصطلح الاغتراب Alienation لغوياً إلى الكلمات التالية:

الفعل اللاتيني Alienare والذي يعني: نقل أو إبعاد الشئ ليصبح غريباً عن صاحبه. أو التعلق أو الانتماء إلى آخر بحسب الاشتقاق Alieus. أيضاً الكلمتان الألمانيتان اللتان استخدمهما هيجل Entfremdung, و Entausserung ومعناهما: تباعد الفعل/العمل عن صاحبه وانفصاله عنه (تخارجه) بحيث يصبح وكأنه شئ آخر غريب/متباعد/غير منتمي ومنفصل عن صاحبه أو صانعه. ومن الجدير بالذكر هنا ما تخبرنا به موسوعة بيكر Baker المسيحية لعلم النفس في تعريف اغتراب الإنسان، إذ تقول: "إن لفظة "إغتراب" يمكن أن تـُحلل على ضوء أربعة علاقات مختلفة: علاقة الإنسان بالله، علاقة الإنسان بنفسه، علاقة الإنسان بالإنسان الآخر، وعلاقة الإنسان بالطبيعة." للمزيد عن راجع المصدرين التاليين:

د.رجب، محمود. "الاغتراب – سيرة مصطلح". دار المعارف. القاهرة 1993

شاخت، ريتشارد. "الاغتراب". ترجمة: كامل يوسف حسين. دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة 1980

[1] Tillich, P. “Systematic Theology”. London Nisbet 1953

[2] تيليش، بول. "زعزعة الأساسات". ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. بيروت 1995

[3] شيفر، فرانسيس. "إله غير صامت". ترجمة: جوزيف صابر. دار الثقافة. القاهرة 1978

[4] Schachtel, H. “An alienated concepts of identity”. Journal of humanistic psychology 1961, Vol.1, pp. 110-121

[5] المصدر السابق

[6] نووين، الأب هنري. "صوت الحب الداخلي"، ترجمة ونشر "مشير سمير، القاهرة 2009

[7] فرانكل، فيكتور. "الإنسان يبحث عن المعنى". ترجمة: طلعت منصور. دار القلم. الكويت 1982

[8] المصدر السابق

[9] ستور، أنطوني. "الإعتكاف عودة إلى الذات". ترجمة: يوسف ميخائيل أسعد. نهضة مصر 1993

[10] ماي، رولو، و يالوم، إرفين. "مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي". ترجمة: د. عادل مصطفي. دار النهضة العربية. بيروت 1999

[11] سارتر، جان بول. " الوجودية مذهب إنساني". ترجمة: عبد المنعم الحفني. مطبعة الدار المصرية 1964

[12] د. ق. فارس، فايز. "حول أزمة الدين والأخلاق في المجتمع المعاصر". دار الثقافة. القاهرة 2002

[13] Horney, K. “Our inner conflicts”. Routledge & Kegan Paul, London 1946 

[14] شيفر، فرانسيس. "إله غير صامت". ترجمة: جوزيف صابر. دار الثقافة. القاهرة 1978