الحيوية: القوة الحيوية التي بها تحيا الأشياء

بول تورنييه ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

إن القوة الحيوية التي بها تحيا الأشياء، والأجساد، والنفوس، وتقودها في مساراتها الثابتة هي... الحياة، ويخبرنا الكتاب المقدس أن كل حياة تأتي من الله.

 إحدى مريضاتي، وهي الابنة الصغيرة في عائلة كبيرة، والذي فشل أبوها في أن يساعدها في الحياة. سمعته ذات يوم يتمتم بيأس، وكان يشير إليها: "كان يمكننا أن نحيا حياة أفضل لولا تلك الفتاة!" ولك أن تتخيل تأثير ذلك عليها. لم يرغب أبواها في وجودها معها في هذه الحياة، فتملكها غضب وكرب ومرارة عظيمة. وذات يوم سألت راعي كنيستها: "هل يمكن أن يأتي طفل للحياة دون إرادة الله؟" فأجابها الراعي: "عليك أن لا تفكري في مثل هذه الأمور في مثل سنك هذا. كل ما عليك أن تجري وتمرحي مع أصدقائك".

لم يكن الراعي يعلم أن ما أوصاها به تحديدًا هو ما لا تقدر أن تفعله، ذلك أنها كانت ترى نفسها مختلفة عن الآخرين، وتعتقد في قرارة نفسها أنها شخص غير مرغوب فيه. وهناك الكثيرون الذين يشعرون بأنهم غير مرغوب فيهم. وعلى سبيل المثال، الأطفال غير الشرعيين، والأطفال الذين يشعرون أن والديهم يحبون أخوتهم وأخواتهم أكثر منهم، وحالة الطفل صعب المراس الذي أفعاله، وأخطاؤه، تُغضب أبويه. كما أن الأبوين بدورهما – وعن غير قصد أحيانًا – يجعلان الطفل يشعر بأنه عبء ثقيل عليهما.

إن أطفالنا ثمرة الحب الذي وضعه الله في قلوبنا. وهذا الحب الذي نحمله لهم هو انعكاس لحب الرب لهم. وتلك هي مسؤوليتنا الجسيمة. ذلك أن الطفل الذي يشك في محبة أبويه له يشك في محبة الله له. وإن شعر أنه غير مرغوب فيه من أبويه، شعر بأن الله لا يرغب فيه أيضًا.

ويمكننا بسهولة أن نتخيل تداعيات مثل هذه المشاعر على قوة الحياة، على الطاقة الحيوية التي يسميها علماء النفس "الليبدو" أي الرغبة الجنسية. وهذه هي العلة الرئيسية للاضطراب العصبي والذي يوصف بأنه "العصاب المذعن". أعرف امرأة تعاني من هذا النوع من العصاب، قالت لي مؤخرًا: "لا أستطيع أن أقرأ الكتاب المقدس، ذلك أنه يعج بالوعود في هذه الحياة وفي الحياة الأبدية، ولكنني أكره الحياة، ومن ثم، فإني لا أطيق فكرة الحياة الأبدية. ولكني أدرك عواقب ألا يكون الأمر سيكولوجيًا فقط، ذلك أن هناك كبتًا للحيوية الجسدية.

إن الإجابة الوحيدة التي يقدمها الكتاب المقدس، أن كل حياة هي من عند الله. ولا يوجد شئ يمكنه أن يُعيد الثقة لمن يتألم، وأن يدرك قيمته التي لا تقدر بثمن، سوى أن يتيقن أنه يحيا بمشيئة الله، وهو يستحق هذه الامتيازات حتى وإن كان وجوده ثمرة علاقة جنسية طائشة بين اثنين من الغرباء كانا في حالة سكر وعربدة. فابنهما هذا هو ابنٌ لله أيضًا. وهو لا يدين بحياته لوالديه فقط، بل لله أيضًا، الله الذي نقل قدرته على الخلق إلى الإنسان، وأن يسوع المسيح مات من أجله، بل هو في مجال الاهتمام الخاص الذي يوليه الرب للبائسين، والحب الذي قد يجده عند معالج نفسي، وهو العنصر الجوهري لشفاء الإنسان حتى لو كان غير مسيحي، ذلك الحب ما هو إلا انعكاسًا لحب الله له. لذلك، فإن هذا الموقف السلبي تجاه الحياة، يتبعه حتمًا موقف سلبي تجاه الله، والعكس صحيح، أي أن الموقف الإيجابي تجاه الحياة يتبعه موقف إيجابي تجاه الله.

الحياة عطية الله، وهذا ما يجعلها مقدسة لا يجب أن تُنتهك حرمتها. كما أن الملحدين يُدركون هذا أيضًا، وهذا يفسر لنا ما كتب على مدخل معسكر بوخنفالد: "هنا لا يوجد الله". وبعد مقتل هابيل قال الله لقايين: "ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخٌ إلى من الأرض – تك 4: 10"  كما قال لنوح: "سافك دم الإنسان بالإنسان يُسفك دمه. لأن الله على صورته عمل الإنسان – تك 9: 6"، ولقد أوصى الله القابلات اللواتي رفضن طاعة أوامر فرعون مصر بقتل أطفال المصريين الذكور (خر 1: 15-17". وفي سيناء، أعطى الرب هذه الوصية لموسى: "لا تقتل – خر 20: 13"، ورددها ثانية الرب يسوع معطيًا لها معناها الكامل (مت 5: 21-24). حيث ندد بالغضب والكراهية لكونهما المصدر الأساسي للقتل، الذي هو احتقار لحياة هي من عند الله.

إن الكتاب المقدس يبين لنا الأصل الإلهي لحياة البشر، وأساس التشريع الاجتماعي: "لا يسترهن أحدٌ رحى أو مرداتها، لأنه أنما يسترهن حياةً – تث 24: 6". ويعوزني أن أستعير كل أحكام الناموس الموسوي التي تحض على حماية الضعيف ودعم الحق في الحياة. وسوف أُشير إلى أحد تلك الأحكام بشكل عابر والذي يمكن أن يكون مثار اهتمام الأطباء – خر 21: 19 – ذلك أنه حتى في تلك الأيام الغابرة، وضع أساس المسؤولية المدنية، والتعويض عن المكاسب المفقودة. أما الآن، فعلينا أن نعود أدراجنا إلى الكتاب إلى المعنى الكتابي للحياة وتأثيره على الطب.

إن الحياة – من وجهة نظر الكتاب المقدس- شركة مع الله، أما الموت فهو انفصال عنه. وعلى سبيل المثال، اقرأ ما قاله الأب لابنه الأكبر في مثل "الابن الضال": "ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسرَّ، لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالاً فوجد  - لو 15: 32" قال يسوع: "الحق الحق أقول لكم: أن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياةٌ أبديةٌ، ولا يأتي إلى دينوية، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة – يو 5: 24". وإن إعاة تأسيس الشركة مع الله بواسطة يسوع المسيح دائمًا ما يسميها الإنجيل "حياة أبدية"، "لأنه هكذا أحب الله حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية – يو 3: 16"، "أنا هو الطريق والحق والحياة - يو 14: 6".

ويصعب على الإنسان إدراك مفهوم الحيوية الجسدية، ومن السهل أن يصاب بالحيرة تجاه فكرة "المزاج"، وما هي إلا مظاهر مرئية سطحية للحياة. وكل فرد من أخوتي الأطباء يُدرك مدى الدهشة التي تصيبنا خلال ممارستنا للطب: أناس يبدون أقوياء ومفعمون بالحياة نجدهم وقد انهاروا انهيارًا كاملاً أمام بعض الأمراض التافهة، ولا يتجاوبون مع أية علاجات، حتى أن الأطباء يقفون عاجزين أمام تلك الحالات، ينظرون إليها مندهشين وهم يسعون هكذا إلى الموت. وعلى العكس من ذلك، ترى البعض ضعيفًا هزيلاً، حتى أنك تظن أن نفخة ريح يمكنها أن تطرحهم أرضًا، مثل هؤلاء يرافقهم المرض، ومع ذلك نجدهم يُظهرون جلدًا ومثابرة غير متوقعة أمام المرض.

 

بول تورنييه

من كتاب: "يوميات طبيب"