هل إلهك من مخلَّفات الوالدين؟

أكثر من كاتب ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

من الحقائق المعروفة أن الفكرة الأولى للطفل عن الله تقررها الصورة الذهنية التي لديه عن والده الأرضي. إن كلمة "أبي السماوي" التي استخدمها السيد المسيح في حديثه عن الله ساهمت في هذه الصورة الذهنية.

 ولكنها أيضًا لها معنى ملموس. فبالنسبة للطفل، في البداية يعتبر أبوه إلهًا.. كليّ القدرة وكامل. ثم تبدأ هذه الفكرة في التلاشي عندما يرى أن والده لا يُستثنى من الضعف والخطأ والجهل. وبعد ذلك ينقل هذه الصفات إلى الآب السماوي الذي تعلم عنه وإلا سوف يضيع في اليأس. ومع هذه الصفات ينسب أيضًا إلى الله صورته الذهنية عن أبيه الأرضي. 

وقد يبدو أن هذا هو سبب مشاكل الشك التي يتعرض لها كل مؤمن. فإذا كان قد أُحبط من إلهه الأول (والده)، فهو يشعر بخوف دائم من أن يُحبط من أباه السماوي. 

ونتيجة أخرى مهمة في هذا الأمر هي أن الذين عانوا في طفولتهم وحشية المعاملة والكراهية والتسلط من آبائهم يجدوا صعوبة بالغة في تصديق أن الآب السماوي محب، ورحوم، وغفور، إنهم لا يستطيعوا أن يصلّوا بثقة له دون طلب معونة التحليل النفسي للتخلص من العقد التي تكونت في طفولتهم، وحتى يتمكنوا من أن يجدوا منفذًا للهروب من هذه العقد فإنهم يعتبرون أنفسهم أشرارًا وخطاة لأنهم لم يتمكنوا من إقناع أنفسهم بالصلاة إذ يعتقدوا أن الله يرفضهم ويدينهم، وإذا حاول أي شخص مساعدتهم بتقديم مساعدة روحية فسوف تكون النتيجة تعقد حياتهم الروحية بصورة أسوأ. وقد لاحظت مرة نتيجة مماثلة في حالة فتاة فقدت والدها في طفولتها. ومنعها التمرد الذي تولد في ذهنها كنتيجة لهذه الصدمة –بالرغم من تقواها الحقيقة- من أن تصدق في صلاح الله الأبوي. 

 
وكتبت لي إحدى الشابات تقول: "إنني أخاف من الله ولا أصدق في محبته ليّ أنا على وجه الخصوص، والسبب في ذلك إنني لا أعرف ماذا يشبه الأب الحقيقي. وفي طفولتي كانت الفكرة الوحيدة لديّ عن الأب هي الغول. وعندما كنت طفلة صغيرة كانوا يرعبونني بالقول بأن أبي "الحقيقي" سوف يضربني. وفيما بعد كنت أرتعب من كرباج زوج أمي الذي حبسني في غرفة بها القليل من الخبر والماء. واستمروا في إرهابي وتهديدي بإعادتي لأبي "الحقيقي" الذي سوف يُلقي بي في أحد الأديرة. 

 

بول تورنييه

من كتاب "ولادة جديدة للذات الإنسانية"

 

 

قد يندهش قارئ هذا الكتاب (ما أصغر إلهك) إذ يكتشف أنه متمسك بفكرة صغيرة عن الله، فكرة عاجزة غير كافية بل حمقاء. يهدف الكتاب إلى القيام بأمرين: الأمر الأول، ان يكشف عن الآراء الناقصة التي نرى بها الله، تلك المفاهيم المغلوطة التي لا تزال تعلق بأذهاننا، دون أن ننتبه إلى وجودها، فتحجب عنا رؤية الإله الحق. والأمر الثاني، أن يقترح طرقًا نتمكن بها أن نجد الإله الحقيقي. إن كان هناك حقًا كائن سام يحمل في يده كل سر الحياة والموت، فلن نجد مفرًا من الشعور بالبُطل (اليأس) والقنوط (الإحباط)، ما لم نبدأ بالتعرّف إلى شخصيته والاطلاع على مقاصده. 

  

آلهة باطلة 

 

1- رقيب داخلي 

هذا الرقيب الداخلي، أي الضمير، هو بالنسبة لكثير من الناس كل ما يعرفونه عن الله. هذا الصوت الخافت الهادئ الذي يوبّخ الناس فيولِّد في قلوبهم شعورًا بالذنب كلما هموا باقتراف إثم وفي أثناء ذلك أو بعده، هذا الضمير في نظر أولئك الناس هو الله بالذات يتكلم إليهم. فهو لذلك، إلى حد ما، يوجه سلوكهم، وهو الذي يدفعهم لتأدية واجباتهم المتعبة واختبار السير في طريق الحياة الشاق. 

والواقع أنه ليس هناك من يعتقد بديانة حقّة ويهمه الدفاع عنها، إلا ويعتقد بوجود الضمير، ويجد في صوت هذا الضمير تلميحًا لوجود نظام أدبي يتوارى خلف هذا العالم المنظور الذي نعيش فيه. لكن، أن نقول أن الضمير هو الله، أمر في غاية الخطورة. فالضمير، قبل كل شئ، وكما سنرى بعد قليل، ليس بأي حال مرشدًا معصومًا عن الخطأ. ثم ليس من المعقول أن نجد أنفسنا يومًا مدفوعين لتقديم العبادة والحب والخدمة إلى مجرد صوت داخلي هو، في أسوأ الأحوال، عامل إزعاج يقطع حبل مسراتنا، وفي أفضل الأحوال يُبقينا بشكل سلبي في طريق الفضيلة. 

والضمير في الإنسان الحساس غير مستقر وقابل للانحراف والتغير، وفي إنسان قليل الحس هو شئ يسهل تجاهله وإسكاته. فهو، والحال هذه، لا يصلح أن يكون إلهًا. لأنه إذا كان لكل إنسان عادي نواة شعور أدبي يستطيع بها تمييز الصواب من الخطأ، وهذا أمر جائز، فإن هذا الشعور يظل قابلاً للتقدم أو التأخر أو الانحراف تبعًا لتربية الإنسان وهو صغير، ووفقًا لما تلقاه من تدريب وما تعرّض له من دعاية. 

هاك مثالاً على تأثير التربية في الضمير. لنفرض أن طفلاً تربَّى في بيت جميع أفراده نباتيون لا يأكلون اللحم، فإن طفلاً كهذا يُصبح رجلاً له في أغلب الأحيان ضمير يأبى عليه أن يأكل اللحم. وكذلك إذا تربى على اعتبار أن بعض المسرات المشروعة هي مسرات "عالمية" غير مرغوب فيها، فإنه يشب على النفور من تلك المسرات، ويحس بوخز الضمير كلما مارس شيئًا منها. يظهر صوت الضمير في أحوال كهذه كما لو كان صوت الله، بينما هو في الواقع ليس سوى صوت التربية المبكرة التي كيَّفت الحس الأدبي في ذلك الإنسان. 

ومثال على الأمر الثاني الذي هو تأثير التدريب على الحس الخلقي، ذلك الصياد الذي تدرّب منذ صباه على ألا يُطلق النار على أي طائر إلا بعد أن يطير. ودخل ذلك في تكوين ضميره حتى أنه إذا أطلق النار ولو سهوًا على طائر واقف فإنه يحس حالاً بأنه أتى مُنكرًا أو اقترف إثمًا، بينما لا يحس بأي ذنب أن هو قتل الطائر ذاته وهو يطير على بعد عشرين مترًا. فضميره قد تدرب اصطناعيًّا، وعلى أساس كهذا تنشأ "المحرمات" في عرف الشعوب المختلفة، سواء أكان ذلك في المتمدنة منها أم غير المتمدنة. 

هناك أمثلة عديدة على إمكان تدرّب الحس الخلقي أو الضمير بحيث تُصبح بعض الأشياء محرمة، وذلك في جميع الأعمال الرياضية وفي كثير من المهن. قد يكون شعور الإنسان بالخطأ أو الفشل نتيجة قيامه بعمل ممنوع شعورًا زائفًا لا يستند إلى أساس صحيح، وهو في أغلب الأحوال لا يتناسب مع الخطأ الذي جرى إن كان هناك من خطأ. 

مثال على الأمر الثالث، وهو تأثر الإنسان بالدعاية، ما كان للدعاية العامة من تأثير على ذوي الضمائر الحساسة خلال الحرب العالمية الأخيرة. لقد كانت الدول المشتركة في الحرب تحث رعاياها على الاقتصاد في استخدام الورق ووسائل النقل، وكان الناس يحسون بوخز الضمير إذا هم بذّروا في استخدام الورق أو أكثروا من السفر بدون حاجة حقيقية لذلك. 

في بلد عنصري كألمانيا النازية تحولت الدعاية فيها إلى سلاح فتاك أفسد الحس الخلقي. لقد أصبح المواطن الألماني العادي المتأثر بالدعاية لا يجد غضاضة في احتقار اليهودي، مثلاً، بل كان يشعر بتأنيب الضمير إن هو أظهر لطفًا أو عمل خيرًا لأحد أفراد الشعوب المحتقرة. 

ألمح الكثير من علماء الأخلاق، من مسيحيين وغير مسيحيين، إلى الهبوط الكبير في الحس الخلقي في انكلترا في السنين الأخيرة. من يدري، فقد يكون ذلك عائدًا كليًّا إلى التراجع عن الأخذ بالمبادئ المسيحية (الدينية). إن المسيحية الحقَّة كانت السبَّاقة، وبلا منازع ، في تدريب الحس الخلقي الذي يتصف به الناس العاديون. 

لكن هناك كثير من الناس الذين يُحسَبون مسيحيين قد أصبحت حياتهم عذابًا بسبب ضمائرهم المريضة التي يظنون خطأ إنها صوت الله. وكم من امرأة أو ربة بيت عادية تحمِّل نفسها ما لا تطيق إرضاء لصوت داخلي يطالبها بالكمال. وقد يكون هذا الصوت من صنعها هي أو من بقايا تدريبها وهي طفلة، لكنه ليس بأية حال صوت الخالق الذي صنع الكون. 

ومن ناحية أخرى نجد رجل أعمال في منتصف العمر عوّد ضميره على عدم الحس، ثم يحاول أن يقنع نفسه إنه إنسان طيب وذو ضمير  وخُلق. وقد يقول مفاخرًا إنه لا يفعل شيئًا قط ضد ضميره. غير أنه لا يمكننا أن تعتقد أن ذلك الصوت الخافت، الذي يصدر بين حين وآخر عن ذلك الحس نصف الأعمى الذي يدعوه ضميرًا، هو صوت الله بالمعنى الصحيح. 

إن ما لا شك فيه أن لا الضمير المحموم ولا الضمير الغافل ولا الضمير الهاجع في سبات، هو الله أو صوت الله. وإلا لأصبح الله يظهر للإنسان الحسَّاس كطاغية لا يرحم، وللإنسان القليل الحس مجرد صوت داخلي لطيف لا يُعارض الإنسان في سيره وراء شهواته. 

 

2- مخلَّفات الوالدين 

يُؤكد العديد من علماء النفس أن اتجاه حياة الإنسان بمجملها يتقرر بالمواقف التي كان يقفها من والديه في سني حياته المبكِّرة. وكثير من الناس العاديين الذين عاشوا طفولة سعيدة لا يرون هذا الرأي، غير أن عيادات الأطباء النفسانيين تزدحم يوميًّا بأناس تشوهت حياتهم النفسية الداخلية منذ أيام طفولتهم نتيجة لعلاقاتهم بوالديهم. بل أن العديد من الناس العاديين، الذين لا يخطر لهم أن يستشيروا طبيبًا نفسيًّا، يعانون من خوف غير عادي، سواء أكان خوفهم من السلطة أم من أشخاص، رجالاً كانوا أم نساء، الأمر الذي يرجع عادة إلى ما كانوا قد لاقوه في صغرهم من طغيان الوالدين. قد تجد شخصًا يشعر بأن إهانة لحقت به إذا قيل له أن به وسواسًا، ولكنه في الواقع إنسان يحتاج إلى الكثير من التكيُّف في الحياة، إنسان مبتل بشعور العظمة والتفوق حتى إنه يصعب على الآخرين التعامل أو العيش معه. وليس من الصعب فهم سرّ هذا الوضع الشاذ، إذ يتبين عادة من تاريخ شخص كهذا كيف ان نفسيته أُفسدت في الطفولة عندما كان يُعطى كل ما كان يشتهي بلا رادع، فنشأ على الأنانية ولم يوجَّه إلى الاهتمام بالآخرين. وهذا معنى قولهم: "إن الطفل هو أبو الرجل". 

ولكن ما علاقة هذا الأمر بالفكر الخاطئ عن الله؟ العلاقة هي أن الفكرة الأولى لدى الإنسان عن الله هي تلك التي يستمدها من أبيه. فإن كان محظوظًا بأن له أبًا صالحًا فبداية خيِّرة على أن يُتاح له أن تنمو فكرته عن الله جنبًا إلى جنب مع نمو شخصيته. أما إذا حدث أن الطفل يخاف والده (أو إذا كان إلى جانب خوفه هذا يشعر بالذنب لأنه يخاف) فتكون النتيجة أن تنشأ عنده فكرة خاطئة وهي أن الآب في السماء كائن مخيف. لكن، مع هذا، قد يكون محظوظًا وينمو متغلبًا على تلك الفكرة فيميِّز بين فكرته القديمة الخاطئة وفكرته الجديدة الناضجة. غير أن كثيرين يعجزون عن النمو والتغلب على شعورهم بالذنب والخوف، ويصبحون رجالاً ونساء ويظل الخوف يلاحقهم. مع أن ذلك في الواقع لا يعيق علاقتهم الصحيحة بالله الحي. ليس الأمر سوى مخلَّفات الوالدين، أو بقايا تأثيرهم في أولادهم. 

كم من كاهن أو واعظ أو خادم للإنجيل له بعض المعرفة بعلم النفس، يقابل شخصًا يشعر شعورًا غير عادي بالخوف من الله، فيحاول مساعدته وهو يعلم أن سبب الخوف في الشخص المذكور نفساني غير ديني. وقد يفرح خدام الإنجيل هؤلاء إذ يرون الإيمان يُزهر ويُثمر فرحًا وثقة في أولئك الناس بعد تغلبهم على الحالة النفسية التي كانت تنتابهم. وطبعًا لا مجال في هذا الكتاب لشرح الكيفية التي بها يتم ذلك، غير أنه يكفي القول، لخير الذين يشعرون بالخوف من فكرة الله أو يحسون بالتمرد والتبرّم بهذه الفكرة، إن سرّ مشكلتهم ما لا يكمن في "إثمهم" أو "تمردهم" بل هو عائد إلى والديهم وأيام طفولتهم. 

والغريب، أو ربما المحزن، إن هناك نوعًا من المسيحية (التدين) لا ينجح إلا بالاعتماد كليًّا على هذا الشعور بالذنب، "فالإنجيل" في هذه الحالة لا يقبله غير الذين يستفيق فيهم هذا الشعور بالذنب. فتجد دعاة هذا النوع من المسيحية (الدين) يسعون (بعكس الأسلوب الذي استخدمه السيد المسيح) لإثارة "التبكيت على الخطية" في سامعيهم. وعندما لا تحصل نتائج كبيرة في خدمة هؤلاء الدعاة أو الوعاظ ينسبون ذلك عادة إلى قساوة قلوب السامعين. لكن السبب الحقيقي هو ردة فعل سليمة من قبل الفئة التي لا ترضى أن تداوى بأساليب مصطنعة لُتشفى من داء الشعور بالذنب الذي يلازم الناس –ما عدا فئة قليلة منهم – الذين كانت طفولتهم التعسة سببًا في تعريضهم إلى هذا النوع من الهجوم الروحي الذي يقوم به الوعاظ. 

وهذا لا يعني إنكار حقيقة آثام البشر أو تجاهل الحاجة إلى غفران الله. هناك بلا شك "تبكيت على الخطية"، ولكنه تبكيت يختلف نوعية عن الشعور الذي يولده الضغط العالي الناجم عن الوعظ والتبشير. إننا سنبحث في هذا الأمر في فصل لاحق. أما الآن فسنحصر اهتمامنا في التأكيد على أن فكرة الله، القائمة على علاقة الخوف والتي تكونت في الطفولة، لا تكفي أن تكون أساسًا لمسيحية الكبار (التدين الناضج). إن الكثير من ذلك "الخوف من الله" الذي اتصف به أبناء الأجيال الماضية كان ثمرة خوفهم من جهنم في أولئك الذين طفحت طفولتهم بذكريات الذنب والعار والخوف من القصاص. 

لقد رسخت فكرة العلاقة التي تقوم بين صورة الأب المبكرة لدى الطفل وبين صورة الله في عقول بعض علماء النفس من غير المسيحيين بحيث أصبحوا يزعمون أن كل دين هو حركة ارتداد أو انكفاء إلى الأصل. أي محاولة الإنسان العودة إلى طفولته عندما كان يتكل على الأب. لا ننكر أن في هذا شيئًا من الصحة. ولكنه قول لا يَصدُق على أولئك الأشخاص العظام الذين عرفهم هذا العالم والذين كانوا يؤمنون إيمانًا راسخًا بالله إلهًا شخصيًا حيًّا. وثم، هناك مسيحيون تعرّضوا لعملية "التحليل النفسي"، وتبيَّن فيما بعد أن ذلك حرّر إيمانهم من أشياء صبيانية بل عاطفية أيضًا، لكنها لم تؤثر في الإيمان الناضج الذي لديهم وظلّ إيمانهم وعقيدتهم صلبين راسخين. 

لكن، قد يُثار بكل تأكيد الاعتراض، وهو أن لا بأس من اعتبار الله كأب، فالسيد المسيح نفسه علَّم بذلك، فهل نرفض تشبيهه؟ كلا، ولكن شريطة أن نتذكر أن كلام المسيح لا يعدو كونه تشبيهًا. 

عندما دعا السيد المسيح تلاميذه إلى اعتبار الله أباهم الذي في السماوات لم يقصد أن تكون فكرتهم عن الله بالضرورة مبنية على ما كان لديهم من أفكار آبائهم. بحسب ما نعلم كان بين سامعيه من اتصف آباؤهم بالظلم والطغيان والبلادة والغش والاستهتار والانغماس في اللذات. والسيد المسيح في تشبيهه الله بالأب إنما يشدد على ناحية واحدة هي "العلاقة". فحب الأب الأرضي لابنه، واهتمامه به وحده به أشياء تظهر للناس العلاقة بين الأب وابنه بحيث يستطيعون فهمها حتى وإن كانوا هم أنفسهم بلا آباء. والذي يقوله السيد المسيح هو أن الإنسان يستطيع أن تكون له علاقة بالله شبيهة بعلاقة الابن بأبيه. 

يظهر أن هناك مسيحيين (مؤمنين) لا يفهمون هذه القضية فهمًا صحيحًا. قال السيد المسيح أن على الناس أن يرجعوا ويصيروا مثل "الأطفال" (أي أن ينبذوا الخداع والتزلف والتهكم والسخرية التي يمارسها الكبار) لكي يتمكنوا من القيام بدورهم في ملكوته ببساطة وإخلاص، فظن البعض أن السيد المسيح كان بهذا يمتدح عدم النضج في البشر. إنه لمن السخف أن نظن أن الله الحكيم يطلب من الناس، رجالاً أو نساءً، أن يظلوا أطفالاً في الروح يزحفون في جلاليب الطفولة لكي يضمن له علاقة بهم كعلاقة الأب ببنيه. ولقد ثبت بالاختبار أن المسيحي (المؤمن) الناضج وحده يبتدئ أن يُدرك شيئًا من عظمة أبيه السماوي. ولعله كان يظن قبلاً أن المقارنة بين علاقة ابن صغير بأبيه وبين علاقته هو بالله مقارنة فيها الكثير من المبالغة. ففي ظنه أن الفارق بينه وبين أبيه السماوي لا يبلغ الفارق بين طفل وأبيه حتى وإن كان هذا الفارق من حيث المقدرة الفكرية. ولكن بعد أن ينمو هذا المسيحي (المؤمن) وينضج فإنه يكتشف أن السيد المسيح كان فائق اللطف في تشبيهه، وإنه لم يبالغ قط عندما وصف التباين العظيم بين الله والإنسان. 

ونحن، إذ نؤمن بإله يفوقنا علمًا وقدرة بمثل ما نحن نفوق طفلاً رضيعًا أو أكثر من ذلك كثيرًا، فإن فكرتنا عن الله في تلك الحال لا تكون فكرة صبيانية بل عكس ذلك تمامًا. ونحن، إذ نحدد الفكر ونحدّ من نشاطه وسعيه في أثر خالقه، وذلك بأن نفرض عليه صورًا أو نماذج لوالدينا تكاد أن تكون منسية فإننا عند ذاك فقط نطوّح بأنفسنا في مهاوي القنوط (اليأس) في الروح، ونستغرب في الوقت ذاته كيف لا تتفجَّر لنا ينابيع العبادة والمحبة. لابد لنا، لكي نجد الإله العظيم، أن نطرح عنّا "مخلَّفات الوالدين". 

 

ج. ب. فيليبس

من كتاب "ما أصغر إلهك"