فهم الذات وبذل الذات

جون ر. ستوت ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢

(هل إدراك الذات يتنافى مع إنكارها؟)

 

إن الصليب يُثوِّر revolutionizes موقفنا من أنفسنا مثلما يُثوِّر موقفنا من الله. وهكذا فإن جماعة الصليب، بالإضافة إلى أنها جماعة الاحتفال، هي جماعة فهم الذات أيضًا. يبدو هذا بمثابة ارتداد إلى الفردية. لكن هذا لا يجوز نظرًا إلى أن الغرض من فهم الذات هو بذل الذات. فكيف يُعطي المرء شيئًا لا يعرف أنه يملكه؟ هذا ما يجعل بحث المرء عن هويته أمرًا جوهريًّا.

من نحن إذًا؟ ماذا يجب أن تكون فكرتنا عن أنفسنا؟ ما الموقف الذي يجب أن نتخذه تجاه أنفسنا؟ لا يمكن تقديم جواب شاف لهذه الأسئلة دون الرجوع إلى الصليب.

من الشائع نسبيًّا اليوم رسم صورة – ذاتية تنم عن الاستصغار. فكثيرون من الناس يعانون من مشاعر بالنقص تصيبهم بالشلل. في بعض الأحيان تنشأ هذه المشاعر من الحرمان في أيام الطفولة، وأحيانًا من مأساة أكثر حداثة، سببها كون المرء غير محبوب أو غير مرغوب فيه. إن ضغوط المجتمع التنافسي تزيد الأمور سوءًا، والمؤثرات العصرية الأخرى تزيدها سوءًا على سوء، حيثما يعاني الناس من الظلم الاقتصادي أو السياسي، يشعرون بانحطاط قدرهم. ويوسّع الغبن بسبب العرق والجنس أو المأساة الناجمة عن إعلام المرء بأنه فائض عن الحاجة أن يقوض أي ثقة بالنفس يملكها المرء. إن التقنية تنزل مرتبة الإنسان كما عبر عن ذلك توبيني Toynbee، إلى أرقام متسلسلة مثقبة على بطاقة مصممة بحيث تمر عبر أمعاء الحاسوب computer. وفي هذه الأثناء يخبرنا علماء السلوك etiologists، من أمثال ديسموند موريس Desmond Morris أننا لسنا سوى حيوانات، ويخبرنا السلوكيون من أمثال ب. ف. سكينر B .F. Skinner أننا لسنا سوى آلات، مبرمجة لتعطي إجابات آلية ردًا على مؤثرات خارجية. فلا عجب أن يشعر كثيرون من الناس اليوم بأنهم أشياء تافهة عديمة القيمة.

في رد فعل مبالغ فيه على هذه المجموعة من المؤثرات توجد في الاتجاه المعاكس حركة رائجة هي "الإمكانية البشرية". وصيحتها "كن ذاتك، عبر عن ذلك، حقق ذاتك"، إنها تؤكد "قوة التفكير الإيجابي". فإلي جانب الرغبة في بناء تقييم الذات الجديرة بالثناء، تعطي انطباعًا بأن إمكاناتنا للتطور هي في الواقع لا محدودة. لقد نشأ أدب كامل حول هذا المفهوم، وصفه خير وصف ووثق له الدكتور بول فيتس Paul Vitz في كتابه علم النفس كديانة Psychology as Religion: دين (بدعة) عبادة الذات The Cult of Self-Worship. كتب يقول "لقد أصبح علم النفس دينًا، وعلى الخصوص شكلاً من الإنسانية العلمانية مؤسس على عبادة الذات (ص 9). وهو يبدأ بتحليل أشهر أربعة من أصحاب نظريات الذات، وهم أريك فروم Erich Fromm وكارل روجرز Carl Rogers وأبراهام ماسلو Abraham Maslow ورولو ماي Rollo May، وجميعهم، على اختلاف نزعاتهم وخصائصهم يعلمون الصلاح المتأصل في الطبيعة البشرية، وما يترتب على ذلك من حاجة إلى احترام للذات بلا حدود، وإدراك للذات، وتحقيق للذات. لقد راجت نظريات – الذات هذه بفضل "تحليل لطريقة التعامل" (إنني بخير؛ فأنت بخير) وبفضل حلقة إرهارد الدراسية للتدريب التي يدعوها الدكتور فيتز بحق "تأليه للذات حرفي مدهش" (ص 31 وما يليها). كذلك يستشهد بإعلان في مجلة علم النفس اليوم كإيضاح للرطانة الذاتية: "أنا أحب ذاتي، لست مغرورًا، أنا مجرد صديق طيب لذاتي. أود أن أفعل كل ما يجعلني أشعر أنني على ما يرام..." (ص 62). هذا الانهماك في الذات أحيط به إحاطة تامة في ليمريكية"[1]:

        ذات مرة كان هناك كائن خرافي يدعى نرجس،

ظن نفسه جميلاً جدًا؛

وراح يُحدق كساذج مخدوع

في صورته المنعكسة على صفحة ماء البركة،

وما تزال حماقته معنا اليوم.[2]

يبدو، لسوء الحظ، أن كثيرين من المسيحيين قد سمحوا لهذه الحركة بأن تمتصهم.

فكيف إذًا ننظر إلى أنفسنا؟ كيف يمكن أن ننبذ الموقفين المتطرفين وهما حب الذات وبغض الذات، دون أن نحتقر أنفسنا أو نظريها؟ كيف نستطيع أن نتجنب تقدير الذات المتدني جدًا أو المرتفع جدًا ونطيع بدلاً من ذلك نصيحة بولس الرسول لنا "ارتأوا إلى التعقل" (انظروا إلى نفوسكم بتعقل NIV) (رو 12: 3)؟ إن صليب المسيح يزودنا بالجواب إذ يدعونا في آن واحد إلى نكران الذات وتوكيد الذات ولكن قبل أن نصبح في موقف يمكننا من تأمل هاتين النصيحتين المتناميتين، يخبرنا الصليب أننا الآن شعب جديد لأننا قد متنا مع المسيح وقمنا معه.

فإذا سلمنا بهذه الحقيقة الأساسية التي تنطبق على كل الذين في المسيح، أي أننا متنا معه وقمنا معه، بحيث أن حياتنا القديمة التي هي حياة الخطية، والذنب والخزي قد وضعت لها نهاية وبدأت حياة جديدة تمامًا، هي حياة القداسة والغفران والحرية، فكيف يجب أن يكون موقفنا من ذاتنا الجديدة؟ ونظرًا إلى أن ذاتنا الجديدة ماتزال ساقطة، مع أنها مفدية، فسيكون من الضروري اتخاذ موقف مزدوج، أن نكران الذات، وتوكيد الذات، الذين يلقي الصليب ضوءًا عليهما كليهما.

 

نكران الذات

أولاً، الدعوة إلى نكران الذات، دعوة يسوع واضحة: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (مر 8: 34). كان يسوع منذ لحظات قد تنبأ بوضوح لأول مرة بآلامه وموته، فقال أنه "ينبغي" أن يحدث ذلك له (الآية 31). ولكنه الآن يعبر بصورة واضحة عن "ينبغي" لأجل أتباعه أيضًا. ينبغي عليه أن يذهب إلى الصليب؛ وينبغي عليهم أن يحملوا صليبهم ويتبعوه. بالحقيقة ينبغي أن يفعلوا ذلك "كل يوم" وكما يفيد القول المضاد السلبي، إن كان أحد لا يحمل صليبه ويتبعه لا يستحق أن يكون له تلميذًا ولن يكون له تلميذًا[3]. وفي هذه الحال يستطيع المرء أن يقول، إن كل مسيحي هل سمعان القيرواني وباراباس معًا. فنحن ننجو من الصليب كما نجا باراباس، لأن المسيح مات عوضًا عنا. ونحن نحمل الصليب كما حمله سمعان القيرواني لأني يدعونا إلى حمل الصليب واتباعه (مر 15: 21).

لقد جعل الرومان من الصلب مشهدًا مألوفًا في مستعمراتهم، ولم تستثن فلسطين من ذلك. كان كل متمرد محكوم بالصلب مجبرًا على حمل صليبه، أو حمل عارضة الصليب على الأقل، إلى الموقع الذي سيصلب فيه. كتب بلوتارك "إن كل مجرم محكوم بالموت يحمل صليبه على ظهره"[4]. وهكذا كتب يوحنا عن يسوع أنه "خرج وهو حامل صليبه إلى موضع الجمجمة" (يو 19: 17). فمعنى حملنا لصليبنا واتباع يسوع، إذًا، هو "أن يضع المرء نفسه في وضع الإنسان المحكوم عليه وهو في طريقه إلى تنفيذ حكم الإعدام"[5]. وكما عبر بونهوفر عن ذلك، "عندما يدعو المسيح إنسانًا، يأمره بأن يأتي ويموت"[6]. إن صليبنا إذًا، ليس زوجًا نزقًا أو زوجة مشاكسة. إنه بدلاً من ذلك رمز الموت عن الذات.

مع أن يسوع ربما كان يفكر بإمكانية الاستشهاد، فإن الطبيعة العامة لدعوته ("إن أراد أحد...") توحي بتطبيق أوسع. من المؤكد أن يسوع، حين استخدم هذه الصورة المجازية المفعمة بالحيوية، إنما كان يصف نكران الذات. إن إنكار ذواتنا هو أن نتصرف نحو أنفسنا كما تصرف بطرس نحو يسوع عندما أنكره ثلاث مرات. الفعل المستخدم هو (أبارونيومي). لقد تبرأ منه وأنكره وأدار له القفا. ليس نكران النفس هو أن ننكر على أنفسنا وسائل الترف كالشوكولاتة والكعك. ولفافات التبغ، والكوكتيل (مع أنه قد يتضمن ذلك)؛ إنه يعني في الواقع إنكار ذواتنا والتبرؤ منها ونبذ حقنا المفترض في السير في الطريق الذي اخترناه. "إن إنكار المرء لنفسه هو... الرجوع عن صنمية التمركز حول الذات"[7]. ولابد أن بولس كان يشير إلى الأمر نفسه عندما كتب وبين أن أولئك الذين للمسيح "قد صلبوا الطبيعة الخاطئة مع شهواتها ورغباتها" (غل 5: 24). ما من صورة يمكن أن تكون نابضة بالحياة أكثر من الصورة التالية: القيام فعلاً يتناول مطرقة ثم تسمير طبيعتنا، الساقطة القابلة للانزلاق، على الصليب وهكذا تُميتها، الكلمة التقليدية المستعملة لوصف هذه العملية هي "الإماتة"؛ إنها التصميم المؤكد بقوة الروح القدس على "إماتة أعمال الجسد"، حتى نتمكن عن طريق هذا الموت من العيش بألفة مع الله[8].

لست أدري كيف استجاب قرائي حتى الآن ولاسيما للتأكيد على موت الذات، أو بالأحرى "قتلها بصلبها أو إماتتها؟ أتوقع (وأرجو) أن تكون قد شعرت بالقلق الذي تولده الإماتة. لقد عبرت عن موقف سلبي تجاه الذات إلى درجة أنني أكاد معها أبدو وكأنني انحزت إلى البيروقراطيين والتكنوقراطيين والإيثولوجيين" [9]etiologists والسلوكيين، في الحط من قدر الإنسان. وليس هذا ناجمًا عن كون ما كتبته غير صحيح (لأن يسوع هو الذي أمرنا بأن نحمل صليبنا ونتبعه إلى الموت)، ولكنه ناجم عن أنه يمثل جانبًا فقط من الحقيقة. إنه يفيد ضمنًا أن ذاتنا رديئة بجملتها، وبناء على ذلك يجب أن تُنكر بجملتها، وأن "تُصلب" في الواقع.

 

توكيد الذات

لكن ينبغي ألا تهمل الطاق الآخرالحبل في الكتاب المقدس. فإلى جانب دعوة يسوع الصريحة إلى إنكار الذات توجد دعوته الصريحة إلى توكيد الذات (وهو ليس أبدًا محبة الذات). ولا يمكن لأي أمرئ قرأالأناجيل كلها أن يخرج بانطباع مفاده أنه كان لدى يسوع نفسه موقف سلبي نحو البشر، أو أنه شجع موقفًا كهذا لدى تلاميذه. فالحال بعكس ذلك.

فكر أولاً في تعليمه فيما يختص بالناس. صحيح أنه لفت الانتباه إلى الشر وإلى الأشياء البشعة التي تخرج من القلب الشرير (مت 7: 21، 23).إلا أنه "تكلم أيضًا عن "قيمة البشر في نظر الله. فقال إنهم "أثمن بكثير" من العصافير والبهائم[10]. ماذا كان أساس هذا التقييم؟ لابد أنه كان تعليم الخلق، الذي اقتبسه يسوع من العهد القديم، أي أن البشر هم تاج فعالية الله الخلاقة، وأنه خلق الإنسان ذكرًا وأنثى على صورته خلقهم، فالصورة الإلهية التي نحملها تعطينا قيمتنا المميزة، في كتيبه القيم المسيحي ينظر إلى نفسه The Christian Looks at Himself يقتبس الدكتور أنتوني هوكيما Dr Anthony Hokema من شاب أسود أمريكي، أراد أن يعبر عن تمرده على مشاعر النقص التي غرسها البيض في نفسه، فعلق هذا الشعار في غرفته "إنني أنا وأنا صالح لأن الله لا يخلق شيئًا تافهًا" (ص 15). ربما كان هذا الشعار رديئًا بحسب قواعد النحو والصرف[11]. لكنه كان لاهوتًا جيدًا.

ثانيًا، كان هناك موقف يسوع من الناس. إنه لم يحتقر أحدًا، ولم يتبرأ من أحد. ما فعله هو العكس، فقد تقصد أن يُكرّم أولئك الذين احتقرهم العالم ويقبل أولئك الذين رفضهم العالم. وتكلم باحترام مع الناس أمام الملأ. ودعا الأولاد الصغار ليأتوا إليه. وكلم السامريين والأمم كلمات تبعث الرجاء. وسمح للذين يعانون من البرص بأن يقتربوا منه، وسمح لزانية بأن تمسح قدميه وتقبلهما. وصادق المنبوذين في المجتمع، وخدم الفقراء والجياع. في كل ضروب هذه الخدمة، ظهر جليًّا احترامه الرؤوف بالبشر. لقد أقر بقيمتهم، وأحبهم، وبمحبته لهم زاد من قدرهم.

 

 

ثالثًا، يجب أن نذكر بخاصة، إرسالية يسوع وموته لأجل البشر. قال يسوع: أنه قد جاء لكي يَخدم، وليس لكي يُخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين. لا شيء يمكن أن يوضح بجلاء الأهمية العظيمة التي منحها يسوع للناس أكثر مما يوضحها تصميمه على التألم والموت لأجلهم. كان هو الراعي الصالح الذي جاء إلى البرية، متحملاً المشقات بشجاعة، ومعرضًا نفسه للخطر لكي يطلب ويخلص خروفًا ضالاً واحدًا. حقًا، لقد بذل حياته لأجل الخراف، فعندما ننظر إلى الصليب فقط نرى القيمة الحقيقية للبشر. وهذا ما عبر عنه وليم تامبل، إن "قيمتي هي ما أساويه في نظر الله، وإنها لقيمة كبيرة جدًا ومدهشة، لأن المسيح مات لأجلي"[12].

رأينا حتى الآن أن صليب المسيح هو البرهان على قيمة الذات الإنسانية وصورة عن الكيفية التي يمكن بها نكران هذه الذات أو صلبها. فكيف نحل هذا التناقض الظاهري والكتابي؟ كيف يمكن أن نقدر أنفسنا تقديرًا عاليًا وننكر أنفسنا في وقت واحد؟

ينشأ هذا السؤال لأننا نناقش مواقفنا من أنفسنا ونطور مواقف بديلة قبل أن نكون قد حددنا الـ "ذات" التي نتحدث عنها. ليست "ذاتنا" كينونة بسيطة إما أن تكون صالحة كلها أو شريرة كلها، ومن ثم إما أن تُقدر بكاملها أو تُنكر بكاملها. لكن ذاتنا كينونة معقدة من الخير والشر، من المجد والخزي، وتتطلب بناء على هذا الوصف أن نطور تجاهها مواقف أكثر تفهمًا.

ما نحن عليه (ذاتنا أو هويتنا الشخصية) هو جزئيًّا نتيجة للخلق (صورة الله)، كما أنه جزئيًّا نتيجة السقوط (الصورة المشوهة). إن الذات التي ينبغي أن ننكرها ونتبرأ منها ونصلبها، هي ذاتنا الساقطة أي كل شئ فينا يتنافى مع يسوع المسيح (ومن هنا جاء أمره "لينكر نفسه" وبعدئذ "ليتبعني أنا"). الذات التي علينا أن نؤكدها ونقدرها هي ذاتنا المخلوقة. أي كل شئ فينا ينسجم مع يسوع المسيح (من هذا جاء قوله إننا إذا خسرنا ذواتنا عن طريق نكران النفس فلسوف نجد ذواتنا). إن إنكار النفس الحقيقي (إنكار ذاتنا الساقطة الزائفة) ليس هو الطريق إلى تدمير النفس بل هو الطريق إلى اكتشاف – الذات.

هكذا إذا، كل ما نحن عليه بالخلق ينبغي أن نؤكده: عقلانيتنا، إحساسنا بالالتزام الأخلاقي، جنسيانيتنا sexuality (سواء أكانت ذكورة أم أنوثة)، حياتنا العائلية، مواهبنا للتقدير الجمالي والإبداع الفني، وكالتنا على أرضنا المثمرة، جوعنا إلى المحبة وخبرتنا الجماعية، وإدراكنا لجلال الله الفائق، ورغبتنا الملحة الفطرية في أن نركع ونعبده. كل هذا وأكثر منه هو جزء من إنسانيتنا المخلوقة. حقًا لقد تلوثت وانحرفت بالخطية. مع ذلك أتى المسيح ليفديها، لا ليدمرها. وهكذا يجب أن نؤكدها بصورة إيجابية وبامتنان.

أما ما نحن عليه بالسقوط، فهذا يجب أن ننكره أو نتبرأ منه: لاعقلانيتنا، انحرافنا الأخلاقي، تعميتنا للفروق الجنسية وافتقارنا إلى ضبط النفس الجنسي، أنانيتنا التي تفسد حياتنا العائلية، افتناننا بما هو قبيح، رفضنا الكسول لتطوير المواهب الممنوحة لنا من الله، تلويثنا للبيئة وسوء استغلالنا لها، الميول المضادة للمجتمع التي تحول دون إقامة مجتمع حقيقي، استقلالنا المتكبر ورفضنا الصنمي أن نعبد الإله الحي الحقيقي. كل هذا (وأكثر منه) هو جزء من إنسانيتنا الساقطة. أن المسيح لم يأت ليفدي هذا الجزء بل ليدمره وهكذا ينبغي علينا أن ننكره بنشاط أو نتبرأ منه.

لقد تعمدت حتى الآن أن أفرط في تبسيط المفارقة بين الخلقانية createdness والسقوطية fallenness. وتحتاج الصورة الآن إلى تعديل، وبالحقيقة إلى إغناء بطريقتين. وكلا الطريقتين في الإغناء ناتجة عن دخول فداء المسيح إلى المسرح البشري. فلا يجوز بعد الآن أن يفكر المسيحيون بأنفسهم كـ "مخلوقين وساقطين" فقط؛ بل بالأحرى كـ "مخلوقين وساقطين ومفديين". وإقحام هذا العنصر الجديد يعطينا شيئًا إضافيًا تؤكده وشيئًا إضافيًا ننكره.

أولاً، هناك شئ إضافي نؤكده، فنحن لم نُخلق في صورة الله فحسب، لكننا خُلقنا فيها من جديد، إن عمل نعمة الله فينا، الذي يُصور بأشكال متنوعة في العهد الجديد كـ "تجديد regeneration" و "قيامة" و"فداء" إلخ... هو بصورة جوهرية خلق من جديد. إن ذاتنا الجديدة "خلقت لنكون مشابهين لله في البر والقداسة" وهي "تتجدد في المعرفة حسب صورة خالقها". بالحقيقة إن كل شخص في المسيح "هو خليقة جديدة"[13]. هذا يعني أن ذهننا وخلقنا وعلاقاتنا كلها في طور تجدد. نحن أولاد الله، وتلاميذ المسيح، وهيكل الروح القدس. ننتمي إلى الجماعة الجديدة التي هي عائلة الله. والروح القدس يغنينا بالثمر والمواهب. ونحن ورثة الله، نتطلع إلى الأمام بثقة إلى المجد الذي سيستعلن ذات يوم. إن صيرورة الإنسان مسيحيًّا خبرة مُغيرة. وهي إذ تُغيرنا، تغير صورتنا عن الذات، عندنا الآن أكثر جدًا مما كان لدينا لنؤكده، ليس بتكبر بل بامتنان. الدكتور هوكيما على حق عندما يفعل هذا الأمر الرئيس الذي يؤكده في كتابه، المسيحي ينظر إلى نفسه. وهو يذكر ترنيمة "تحت صليب يسوع" التي هي، من عدة أوجه، ترنيمة رائعة ومؤثرة، لكنه لا يذكر ختام أحد الأبيات وهو كالتالي:

ومن قلبي المسحوق بالدموع

         اعترف بأمرين عجيبين-

         عجب محبته المجيدة،

         وعدم قيمتي أنا.

فالدكتور هوكيما يعترض بقوله كلا ثم كلا. لا نستطيع أن نرنم تلك العبارة. إن تعبير "وعدم جدارتي" سوف يعبر عن الحقيقة، ولكن تعبير عدم قيمتي أنا "لن يعبر عنها" (ص 26). فكيف نستطيع أن نصرح عن شئ بأنه "عديم القيمة" في حين أن يسوع قد صرح بأنه "ذو قيمة"؟ فهل كون المرء ولدًا لله، وعضوًا في جسد المسيح ووريثًا لملكوت السموات أمر "عديم القيمة" ما صرناه في المسيح إذًا، هو جزء حيوي من توكيد الذات، الذي هو بالحقيقة توكيد لنعمة الله خالقنا وفادينا. "إن الأساس الجوهري لصورة الذات الإيجابية يجب أن يكون قبول الله لنا في المسيح" (ص 102).

ثانيًا، لدى المسيحيين شئ إضافي ينكرونه مثلما لديهم شئ إضافي يؤكدونه، لقد اقتصرت حتى الآن على ذكر أن سقوطيتنا متضمنة في ما يجب أن ينكر. إلا أن الله في، بعض الأحيان، يدعونا للنكر على أنفسنا أشياء تقف في طريق فعلنا إراداته من نحونا بخاصة، مع أن هذه الأشياء ليست خاطئة بحد ذاتها أو يمكن أن تعزي إلى السقوط. لهذا كان على يسوع أن ينكر نفسه مع أن إنسانيته كانت كاملة وغير ساقطة. يقول لنا الكتاب أنه، "لم يعتبر مساواته بالله شيئًا ينبغي التمسك به"، أي شيئًا يمكن التمتع به بأنانية (في 2: 6 حسب NIV). لقد كانت هذه المساواة بحوزته من قبل. فهو "لم يجعل نفسه معادلاً لله" كما اتهمه ناقدوه رسميًا (يو 5: 18). لقد كان معادلاً لله بصورة أزلية، بحيث كان والآب "واحدًا" (يو 10: 30). مع ذلك لم يتشبث بامتيازات مكانته. وبدلاً من ذلك "اخلى نفسه" من مجده، غير أن السبب الذي جعله يتخلى عن مجده ليس لأن هذا المجد ليس من حقه، بل لأنه لم يكن باستطاعة يسوع أن يحتفظ به ويتم في الوقت نفسه ما قدر عليه بوصفه مسيا الله ووسيطه. لقد ذهب إلى الصليب منكرًا نفسه، ومن الطبيعي أن ذلك لم يكن بسبب قيامه بعمل يستحق الموت بل لأن هذه كانت إرادة الله من نحوه وفقًا للكتاب المقدس، وكان سيسلم نفسه طوعًا لهذه الإرادة. لقد قاوم طوال حياته إغراء تجنب الصليب، وبحسب كلمات ماكس وارن Max Warren البارعة "كان المسيح يموت طوال حياته"[14]. لقد أنكر نفسه لكي يبذلها لأجلنا.

هذا المبدأ نفسه ينطبق على أتباع المسيح. كتب بولس، "فليكن فيكم هذا الفكر"، لأنه عرف الدعوة إلى إنكار النفس بحكم خبرته الرسولية الخاصة. كانت له حقوق شرعية، كالحق في الزواج مثلاً والحصول على دعم مادي، أنكرها على نفسه بتعمد لأنه آمن بأن تلك كانت إرادة الله من نحوه. كما كتب أيضًا عن وجوب استعداد المسيحيين الناضجين للتخلي عن حقوقهم والحد من حرياتهم بحيث لا يجعلون أخوتهم وأخواتهم الأقل نضجًا يخطئون. وحتى اليوم يُدعى بعض المسيحيين إلى الامتناع عن الزواج، أو الالتحاق بوظيفة مضمونة، أو ترقية في العمل، أو امتلاك بيت مريح في ضاحية صحية. لا لأن أيا من هذه المزايا خاطئ بحد ذاته بل لأنها تتعارض مع دعوة الله الخاصة لهم لكي يذهبوا إلى ما وراء البحار، أو يعيشوا في قلب المدينة أو يندمجوا بصورة أوثق مع الفقراء والجياع.

ثمة، إذا، حاجة عظيمة إلى تمييز فيما يتعلق بفهمنا للذات. من أنا؟ ما هي ذاتي؟ الجواب هو أنني دكتور جيكل ومستر هايد[15]، غلام مرتبك، أملك الكرامة والفساد معًا، الجلال لأنني خلقت ثم خلقت من جديد في صورة الله، والفساد، لأنني مازلت أملك طبيعة ساقطة عاصية. فأنا نبيل وحقير معًا، جميل وبشع، صالح وردئ، مستقيم ومنحرف، صورة الله وولده، ومع ذلك أُقدم العبادة لإبليس الذي أنقذني المسيح من براثنه. ذاتي الحقيقية هي ما أنا بالخلق، التي جاء المسيح ليفديها وما أنا بالدعوة. ذاتي الزائفة هي ما أنا بالسقوط، التي جاء المسيح ليدمرها.

لن تعرف المواقف الذي ستتخذه نحو كل منهما إلا بعد أن نكون قد عرفنا أي الذاتين تكمن في داخلنا. يجب أن نكون صادقين تجاه ذاتنا الحقيقية وغادرين تجاه ذاتنا الزائفة. يجب أن لا يعثرنا أي خوف من أن نؤكد كل ما نحن إياه بالخلق، والفداء والدعوة، ومن ان ننكر بلا شفقة كل ما نحن إياه بالسقوط.

بالإضافة إلى ذلك، يُعملنا صليب المسيح عن الموقفين كليهما. فالصليب، من جهة، هو معيار القيمة لذاتنا الحقيقية المعطى لنا من الله، نظرًا إلى أن المسيح أحبنا ومات لأجلنا. وهو من جهة أخرى النموذج لإنكار الذات الزائفة الذي وهبه الله لنا، نظرًا إلى أن علينا أن نسمر هذه الذات بالصليب وهكذا نميتها. وبصورة أبسط فحينما نقف أمام الصليب نرى في آن واحد قيمتنا وعدم جدارتنا، نظرًا إلى اننا نُدرك في آن واحد عظمة محبته اتي تجلت في موته وعظمة خطيتنا التي سببت موته.

إن آيًا من نكران – الذات (نكران خطايانا) وتوكيد الذات (تقدير هبات الله لنا) ليس طريقًا مسدودًا يفضي إلى الاستغراق في الذات – فكلاهما، بالعكس، وسيلة للتضحية بالذات. ينبغي أن يؤدي فهم – الذات إلى بذل – الذات. إن جماعة الصليب هي في الأساس جماعة المحبة التي تبذل ذاتها، معبرة عن ذلك بعبادة الله (التي كانت موضوعنا في الفصل السابق) وخدمة الآخرين (التي هي موضوعنا في ختام هذا الفصل). إلى هذه المحبة المضحية – بالذات يدعونا الصليب، بصورة ثابتة، وبإصرار.

 

جون ستوت

من كتاب: "صليب المسيح"

للمزيد: راجع المقتطف بعنوان "محبة النفس هل تتعارض مع إنكار الذات؟"



[1] ليمركية: قصيدة فكاهية خماسية الأبيات (قاموس المورد) (المترجم)

[2] اقتبسها جون بيبر John Pipper من كلية بيت إيل في مينيابوليس في مقال نشر عام 1977 في مجلة المسيحية اليوم Christianity Today بعنوان: "هل محبة الذات كتابية؟"

[3] لو 9: 23؛ مت 6: 38؛ لو 14: 27

[4] Quoted by Martin Hengel in Crucfixtion, p. 77

[5] H.B.Swete, St Mark, p. 172

[6] Dietrich Bonhoeffer. Cost of Discipleship. P. 79

[7] C.E.B. Cranfield in his Mark, p. 281

[8] رو 8: 13 قارن كو 3: 5؛ 1بط 2: 24

[9] Ethology: فرع من العلم يبحث في القيم الإنسانية وتكونها وتطورها (قاموس المورد) (المترجم)

[10] مت 6: 26؛ 12: 12

[11] ينطبق هذا على النص الإنجليزي (المترجم)

[12] William Temple, Citizen and Churchman, p. 74

[13] أف 4: 24؛ كو 3: 10: 2 كو 5: 17

[14] M.A.C Warren, Interpreting the Cross. P. 81

[15] شخصيتان متغايرتان متجسدتان في شخص واحد كما تصوره رواية "قضية دكتور جيكل ومستر هايد الغريبة" تأليف روبرت ل. ستيفنسون. وقد نشرت عام (1886). يتمثل الخير في الدكتور جيكل ويتمثل الشر في مستر هايد. ويستطيع الدكتور جيكل أن يتناول عقارًا فيتحول إلى مستر هايد. Jekyll and Hyde. The World University Encycloperida> Vol 6. P. 2650 (المترجم)