التأمل والصلاة.. وطلب إرشاد الله

بول تورنييه ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

يحدث كثيرًا أن يأتي إلى شخص ما ويقول لي: "بعد قراءة كتابك حاولت أن أصرف وقتًا في التأمل الروحي ولكنني لم أتلق أي إرشاد مما تحدثت عنه. ما الذي يجب أن أفعله؟ "قلت له –لكي أهدئه- أنني في المرة الأولى قضيت ساعة لأعرف ماذا يريد الله أن يقوله لي، ولكنني عانيت من نفس الصعوبة وشعرت وكأنني كتبت أفكاري أنا فقط..

ويالها من أفكار ضعيفة وفقيرة. ولكن بينما أنا أغلق مذكرتي وردت لذهني فكرة بأنه يجب أن أستمر في التأمل كل يوم حتى وإن لم أعرف كيف أقوم بذلك. وفورًا عرفت أن الله هو الذي أرشدني إلى هذه الفكرة. إنه يؤنبني لأنني لم أضع الصلاة وحياتي الداخلية في مركز اهتمامات حياتي وأجعلها مصدرًا لكل نشاطي. ومنذ ذلك الوقت أن مستمر في الصلاة وقراءة الكتاب. وفي فترات الجفاف الروحي تزداد صلاتي وقراءتي. ولكن الأمر الرئيسي هو أن هذه الحياة الداخلية لها اهتمام خاص لا علاقة له بحياتي اليومية. ولم تكن هناك صلة بين النظرية والممارسة. والكوبري الذي يربط بينهما والذي كنت احتاج إليه هو التأمل الروحي.

وليس التأمل أسلوبًا سيكولوجيًا. وإذا أراد أحد أن يضع له قواعد فلن يصبح أمرًا حيًا، بل سيفرغ من مضمونه الروحي. ولهذا ليس لدي وصفة لأقترحها إلا أن أسأل الله يومًا بعد الآخر ليساعدني على تنظيم حياتي الروحية مع الاستعانة بنصيحة الكنيسة.

وأول شرط لتلقي إرشاد الله هو أن نسعى لذلك ونبحث عنه. ونحن نعتقد دائمًا أنه ليس لدينا وقت لذلك. ولكننا سنجد الوقت إذا أردنا ذلك حقيقة ويمكننا أن نحصل على هذا الإرشاد حتى في تلك الأوقات التي نحاول أن نرفه بها عن أنفسنا في قلب مشغولياتنا الكثيرة. وعندئذ سوف نكتشف أنه لدينا الكثير من الوقت لكي نعطيه للرب.

جاء إلى مرة أحد الرعاة يطلب مشورتي. وتحدثنا عن تنظيم حياته وعلاقته بصحته وقال لي: "بالطبع حتى الساعة العاشرة لدي واجباتي الدينية". وعندما تركني فكرت في نفسي وأن حاجتي للتواصل مع الله –كطبيب- لا تقل عن حاجته هو كراع.. وبإمكاني أن أهتم بتأملاتي الروحية وأجعلها من أول وأهم اهتماماتي. ومنذ ذلك الوقت، كقاعدة عامة، لا أرى أي مريض قبل التاسعة. وبهذه الطريقة أصبح لدي ساعتان ونصف في بداية كل يوم أقرأ فيها الكتاب المقدس وأتأمل أو أقرأ بعض الكتب الروحية الثمينة. وأفحص أخطائي التي ارتكبتها في اليوم السابق، وأجهز ليوم عملي في حضور الله. وتخلصت من الخجل الذي كنت أشعر به عندما كنت أقول لأي مريض: "لا أستطيع أن أراك غدًا، فيومي كله محجوز، فلا أستطيع أن أتخطي الوقت الذي خصصته للقاء مع الله". إن الشيء السيئ في حياة كثير من الخدام البروتستانت والعلمانيين في الكنيسة هو أنه في زحمة حماسهم لأداء عملهم بطريقة جيدة يتعدون على وقت التأمل والخلوة الشخصية مع الله إلى حد بعيد.

كثير من الكتابات تتحدث عن مدى استعجال وسرعة عالمنا الحديث وضوضائه وعن إعادة اكتشاف قيمة التأمل الروحي، والسكون والصلاة أمام الله. وأنا أعلم هذا قبل أن أمارسه. وإذا أراد شخص أن يساعد العالم على إعادة هذا الاكتشاف يجب أن يمارسه هو بنفسه. ويجب تغذية الحياة الروحية. إننا نكرس السنوات في دراسة حرفة أو تجارة، ألا يجب علينا أن نظهر نوعًا من المثابرة في اكتساب اختبارات مع الله؟

إن أقل لاعب للبلياردو أو الشطرنج يعرف كم من الوقت عليه أن يقضيه ليتعلم اللعب، وكم مباراة يخسرها حتى يتمكن من كسب مباراة واحدة.

في علم الأحياء تُخلق العادات فينا بالتكرار. وأثبتت التجارب أن الكثير من سلوكياتنا تقرره الصور الذهنية التي تستعيدها أذهاننا باستمرار. وإذا أعتدنا أذهاننا إلى الله مرة تلو الأخرى فسوف نعطي الله تدريجيًا المكان المركزي في حياتنا، ليس فقط بداخلنا بل وأيضًا في حياتنا اليومية العملية.

دعونا نجد في طلب إرشاد الله لنعرف ماذا يريد منا. هل يمكن أن يحدث هذا حتى في العمل، أي هل يمكن أن تقضي ربع الساعة الأولى من العمل في التأمل الجماعي وسوف نجد أن الإنتاجية ستزيد بدلاً من أنها كانت تنقص؟ وسأوضح الفكرة التي اكتشفتها وأنا أنشر قطعة خشب بمنشاري الدائري. عندما تضعف أسنان المنشار أقوم بفكه وأجعله حادًا مرة أخرى ثم أثبته. والوقت الذي أمضيته في جعله حادًا أعوضه في سرعة العمل به. وبالمثل، فإننا نسترد الوقت الذي قضيناه في تجديد أذهاننا عند التأمل وهي التي أصيبت بالتبلد والإرهاق بسبب صعوبات الحياة التي نواجهها.

ومع ذلك، فإن لحظات قليلة يوميًا لا تكفي. وما تحتاجه هو تدخل في حياتنا العملية بفترات رياضة روحية حقيقية. وبعض الأسابيع ليست كثيرة. إن مهنتي كطبيب حدث فيها تحول كبير بفضل أسابيع قضيتها في رياضة روحية منذ سبع سنوات مع أصدقاء من كل العالم. كما أنني أعلم أيضًا مدى الثمار والفائدة التي استطعت أن أمنحها للمرضى من خلال الاستشارات النفسية التي أعددتها لفترات طويلة وأنا في شاليه على أحد الجبال أو أثناء أحد الرحلات.

أما الشرط الثاني لتلقي إرشاد الله فهو الاستعداد لاتباعه. قالت لي إحدى مريضاتي أنها لم تعد تستطيع أن تصلي، وقد تولد لديها هذا الشعور عندما حدث في يوم معين إنها رفضت أن تطيع الله في أمر صعب كان يخصها. ويجادل كثير من الناس لفترة طويلة بسبب صعوبة معرفة إرادة الله، ومع أنهم يعرفون أن رفض الإرشاد الإلهي في حياتهم يجعل التواصل مع أمرًا صعبًا. يأتي إلينا أغلبية الناس ولديهم بعض الاختيارات التي يريدون أن يعرفوا إرادة الله فيها. ويظل هذا السؤال بلا إجابة لأن لديهم مشاكل أخرى تحتاج إلى الحل، مشاكلهم يعرفون جيدًا إرادة الله فيها، ولكنهم لا يريدوا اتباعها، ويلجأون للمناقشات هربًا منها.

وهناك مناسبات لا يستحسن فيها الاسترسال في التأملات على الإطلاق. فقد شاهدت الكثيرين توقفوا عنها بعد أن كانوا قد استمروا فيها لفترة طويلة. ولم أوبخهم لذلك ولم أطلب منهم العودة إليها مرة أخرى كنوع من التهذيب الروحي. وبدلاً من ذلك حاولت أن أفهم أن تطورهم الروحي مستمر بداخلهم. لقد تخلوا عن هذه التأملات لشعورهم باليأس من نوعيتها إذ أنها تحولت إلى عادة غير مفيدة يبذلون فيها مجهودًا ليقولوا بعض العبارات اللطيفة التي لا تخرج من القلب أو مجرد تقليد لشخص آخر. وفي أحيان أجدهم يعودون إليها بروح جديدة وبطريقة شخصية جديدة. حاول أحدهم أن يمارس نوعاً من التأمل كان مناسبًا لشخص آخر ولكن بالنسبة له كان عقلانيًا لأنه كان فنانًا في الأصل إن الله لا يتحدث فقط بالأفكار المنطقية ولكن أيضًا بالصور والموسيقى. وشخص آخر تصور أن أفكاره المسبقة عن الله، وما زرع بداخله من قبل آخرين، تقيد إرشاده وتضيق المجال أمامه.

بين الحين والآخر علينا أن نعيد اكتشاف التأمل الحي. وسوف ندرك أننا تدربنا على الاستماع لأنفسنا بدلاً من الاستماع لله.

وفي بعض الأحيان أيضًا نشعر أننا لم نعد نمارس التأمل لأننا نحب الله. ولكن لكي نتلقى بعض الرسائل منه. إن التأمل، وحتى الرغبة لأن يرشدنا الله، لم تعد لها أي معنى روحي إذا توقفت عن أن تكون تعبيرًا لقلب ملتهب نحو الله.

والتأمل يفصلنا عن الأحداث بأن يجعلنا نتكل على الله، وهو بهذا يكون مدرسة للقيادة، لأن القائد هو الذي لديه الشجاعة ليؤكد نفسه بمفرده، ويتقوى بقناعاته الداخلية.

علينا أن نحذر من أن ننسب قيمة سحرية لإرشاد الله ومن المجادلة مع بعضنا البعض بخصوصها. وموقفنا الأساسي هو الأهم: وهو البحث المخلص والأمين عن إرادة الله. كما أننا يجب أن نحترم دائمًا هذا الإخلاص لدى الآخرين.

أرادت شابة أن تعرف ما إذا كان الله يدعوها للتبتل أم للزواج. ويصعب علي أن أقول أن هذا الارتباك جعلها تتصرف بحرج أمام من تقابله من الشباب ولكن بدلاً من أن تقلق على هذا الأمر كمشكلة نظرية بدأت تثق ببساطة أن الله سوف يقودها بالتأكيد إلى الحياة التي رسمها لها إذا أطاعته خطوة بخطوة في كل ظروف حياتها. وبالمثل، رأيت الكثيرين الذين يضعون أمام الله بعض الأسئلة عن وظائفهم –وذلك لعدة سنوات- ولم يتلقوا أية إجابة. كانوا يريدون أن يتأكدوا من ما يطلبه الله منهم: هل يريدهم يظلوا في وظيفتهم أم يتركوها لعمل جديد لازال غامضًا في أذهانهم؟ وإذا تركوا وظيفتهم الحالية فهل سيفشلوا في الجديدة؟ وإذا ظلوا في وظيفتهم هل بذلك يتجنبوا التحدي؟ مثل هذه الأسئلة النظرية والمحيرة هي أسئلة عقيمة. إن مثل هؤلاء الناس لا يركزون في عملهم الحالي لأنهم غير مقتنعين به. ومثل هذا التفكير المرتبك نادرًا ما يتلقى أية رسالة واضحة من الله. فالإيمان يثق في أن المكان الذي نحن فيه الآن هو الذي أراده الله لنا، وهو يريدنا أن نركز فيه تمامًا، وسوف يقودنا إلى مكان آخر إذا أراد هو أن يفعل هذا. وإذا كانت لنا خدمة فيجب أن نؤديها بروح الخدمة. آخرون يطبقون روح الوظيفة هذه على العمل الذي هم فيه ويطلبون إرشاد الله في كل تفاصيل المشاكل الروتينية اليومية. وكنتيجة لذلك هم يثرون اختباراتهم ويقدرهم الآخرين، وسوف يأتي اليوم عندما يقدم لهم عمل آخر قد يروا فيه مكافأة إلهية. أو ربما يحدث أنه في وسط الحياة النشيطة العاملة قد يعطي الله دعوة واضحة لترك العمل الذي يحبونها إلى عمل جديد.

إن الرب يسوع نفسه هو تجسيد لهذه الحياة المنقادة بالروح حتى في أصغر تفاصيلها. كان يسير بسلام ويرى في الرجل الذي يقابله في الطريق أو المرأة على البئر النفس التي أرسله الله من أجلها. لا اندفاع، ولا خطة ملفقة، ولا فوضى، كل شئ يحدث في وقته كما كان هو نفسه يقول بهذا. ولكن هذا لم يمنعه هو والتلاميذ من طلب إرشاد الله. وعاد بتأكيد كامل إلى أورشليم لمواجهة الموت.

  

بول تورنييه

من كتاب: "ولادة جديدة للذات الإنسانية"