من اعترافات القديس أغسطينوس - "الترجمة العربية" (4)

القديس أغسطينوس ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

وفيما كان بونتسيانوس يروى لنا هذه الأخبار(أخبار رفيقين اهتدوا إلى المسيح) كنت أيها الرب توجهني نحو نفسي. وفيما كنت أشيح بنظري إلى الوراء لئلاّ أقابل نفسي وجهاً لوجه كنت أنت تضعني أمام نفسي لأري ما أنا عليه من الشناعة والقبح والقروح والادناس! رأيتُ نفسي فخفتُ، ولكن،أين المفرُّ! إن اشحتُ بوجهي عني وجدتُ أمامي بونتسياس يقصُ عليًّ أخباره فتعود بي من جديد إلى ما كنتُ عليه سابقاً وتصّوب عليًّ نظراتي كي أدرك أثمي فأكرهه. لقد كنتُ اعرف أثمي هذا إنما كنت أُطبق جفنيًّ واتناساه.
أماًّ الآن فبقدر ما ازددتُ حباً لذنيك الرفيقين اللذين استسلما إليك لتشفيهما، ناذرين لك نفسيهما، ازددتّ كذلك بغضاً وكراهيةَّ لنفسي وقد وجدتها حقيرة.

أظن أن تأخيري من يومٍ إلى آخر في نبذ ما للعالم، سعياً وراءك، ناتجَُ عن نقصٍ في النور أمامي. أما اليوم فقد حان لي أن أراني عرياناً واسمع ضميري يؤنبني قائلاً: أين لسانك؟ لقد كنت بالأمس تدعي انك لم تكفر بأباطيلك لأنك مرتابَُ في ظهور الحق. ومع ان الحق قد حصحص (صار واضحاً)الآن فلا تزال ترزح تحت عبء تلك الترهات. ها إنَّ من تحَّررت كواهلهم يطيرون على اجنحتهم دون ان يجهدوا أنفسهم باحثين، منقبين طوال عشر سنوات واكثر. وكنت في تلك الأثناء اشعرُ بخجل شديد، مضنٍ، يتأكلني سراً. ولدي انتهائه (بونتسيانوس) من حديثه وادائه للمهمة التي قدم من اجلها، تركني ومضى فولجتُ إلى نفسي واتهمُتها بأشياء وأشياء؛ وباسواط فكرية جلدتها حثاً لها علي اللحاق بي في السير وراءك. برغم ذلك لبِثت واقفةً متحيرةَ لا تبدي عذراً طال ما ان حججها وأعذارها قد دُحِضت واستنُفِذَت ولم يبقَ لديها سوي صمتٍ اخرس، مخيف. لقد كانت تخشى فراق العادة التي منها تَعبُ الفساد والموت موتاً لها.

لقد كان اسهل علي جسدي الخضوع لادني إشارة تصدر عن النفس لتحريك هذا العضو أو ذاك؛ من ان تخضع النفسُ لذاتها فتحقق بإرادتها وحدها ما تتوق ليه من الأمجاد.
ما هو مصدر هذا الأمر الغريب؟ وما سببه؟ أواه! أنرني برحمتك علني أجد جواباً عليه في ما يحل بالجنس البشري من عقوبات وفي انسحاقات بني آدم الحالكة السواد! اجل، ما هو مصدر هذا الأمر الغريب؟ وما سببه؟ النفس تأمر الجسد، فيطيعها فوراً؛ وتأمر ذاتها فلا تُطاع. أنها تأمر اليد أن تتحرك فينفَّذ أمرها بسرعة كلية بحيث يندمج الأمر والخضوع له؛ مع أن النفس روح واليد من الجسد. النفس تأمر ذاتها بان تريد ولكنها لا تعمل. يا للعجب؟ وما هو مصدر هذا الحدث الغريب؟ تأمر النفس ذاتها بأن تريد؛ ولو لم تـُرد لما أمرت؛ ولكن أمرها لا ينفذ.
ذلك أنها لا تريد إرادة كاملة ولا تأمر أمراً كاملاً، لكنها تأمر بقدر ما تريد؛ وبقدر ما لا تريد لا ينفَّذ أمرها. الإرادة تخلق إرادة مشابهةً لها كلياً، أنها تخلق نفسها ولهذا فان أمرها ناقص، لا ينفذ. إذ لو كانت كاملة لما أمرت بأن تكون، لأنها موجودة. ليست الغرابة في تجزئة الإرادة فتريد في هذا الجزء ولا تريد في ذاك. إنما العبرة كلها في أن النفس مريضة ترفعها الحقيقة دون أن تقوي تماماَ على تقويم اعوجاجها تحت عبء العادة. وعليه فأننا نجد مشيئتين ناقصتين تكمِّل إحداهما الأخرى.

تلك حالنا أمام الأبدية: تتقدم منا بمغرياتها السامية في حين تشد بنا الخيرات الأرضية إلى أسفل. النفس عينها تريد هذا الخير وذاك إرادة ناقصة، نصف إرادة، فينشأ عن هذا العجز غمُ وضنك يمزَّقانها: الحقيقة تدعو النفس إلى هذا الخير والعادة تقيّدها بذاك.

الاعترافات
ص 157 - 163