ثنائية إنكار الذات وتوكيدها: نقطة التوازن

بول تورنييه ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

رأينا جميعنا كيف أن العديد من الرجال والنساء لم ينضجوا، لأنهم قد تم كبتهم بالتنشئة الدينية وتدربوا منذ طفولتهم على إنكار الذات والتخلي عن الذات الممنهج. إضافة إلى أنه ليس فقط الأطباء النفسيين الذين سيعترضوا ولكن أيضًا رجال علم الاجتماع. لم يكن "كارل ماركس" مخطئًا كلية عندما قال "أن الدين أفيون الشعوب". كم من الأجيال البائسة بشرت لها الكنيسة بالاعتزال وقبول النصيب الشخصي في الحياة أي الهزيمة والخضوع وتم التبشير للطبقات الراقية المحظوظة أيضًا وهم في منتهى الاطمئنان داخل الكنائس أن الثروة الهائلة التي للملك سليمان كانت دلالة على بركة الله. وهكذا وبينما الأخصائيون النفسيين يعانون من المجهود الشاق وهم يمارسون عملهم للنضج الاجتماعي فهم يشفون مرضاهم بالنتائج التالية:

  • منح مكان لمن ليس لهم مكان
  • إعادة تنشيط العواطف الضامرة للذين فقدوا العواطف (التبلد العاطفي apathy)
  • إعادة العصابي للمقدرة على التمتع بالمسرات الأرضية

فإذا بالكنيسة على النقيض من ذلك تعلمهم ازدراء تلك الأشياء والانفصال عنها وهذا التضارب يجري على مجال واسع بنفس الطريقة التي أشرت إليها

 

كن نفسك

يقول علماء النفس وهم يمارسون مهامهم:

  • كن نفسك بدلاً من تقليد الأمثلة الاجتماعية أو الكنيسة
  • كن نفسك بدلاً من أن تحفظ وتسمع درس أنت قد تعلمته
  • رسّخ نفسك
  • تجرأ وأظهر نفسك كما أنت
  • كن حقيقي وصادق مع نفسك

ثم عقب ذلك يتذكر هذا المريض كل ما تعلمه في الكنيسة من الحقيقة الإلهية في "حينئذ قال يسوع لتلاميذه: إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (متى 16: 24).

يقول أخصائيو علم النفس "كن رجلاً، تخلص من هذا الخجل الصبياني الذي يعوقك عن النضج، لقد احتفظت بسذاجة الطفولة أكثر من اللازم بما لا يتناسب على الإطلاق مع عمرك"، وفي الحال يتذكر نفس المريض أقوال الرب يسوع "دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات" (متى 19: 14).

يقول أخصائيو علم النفس للمريض "تعلم أن تدافع عن نفسك فالحياة عبارة عن كفاح ونضال مستمر والشخص الذي لا يدافع عن نفسه سوف يُطرح أرضًا دون رحمة أو شفقة، تعلم أن تقول لا، والشخص اللذي لم يتعلم كيف يقول لا سوف يكون كالكرة بين أقدام الجميع"، فيتذكر هذا المريض أقوال الرب يسوع: "سمعتم أنه قيل عينٌ بعين وسنٌ بسن وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فأترك له الرداء أيضًا" (متى 5: 38-41).

 

يقول أخصائيو علم النفس للمريض "لا تخاف، اظهر مشاعرك بدلاً من إخفائها؛ قلبك ممتلئ بالكراهية ضد أبيك ومع ذلك أنت تدعي أنك تحبه وتطيعه، وذهنك ممتلئ بضغينة وتمرد سري داخلك مما يُسمم ذهنك، عبّر عن ذلك بوضوح وبدون تنميق، فيزول ألم صدرك"، ثم يتذكر المريض أقوال الرب يسوع المسيح:

  • (متى 5: 43-44): "سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".
  • (متى 5: 5): "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض"
  • (مرقس 11: 25-26): "ومتى وقفتم تصلون فأغفروا إن كان لكم على أحد شئ لكي يغفر لكم أيضًا أبوكم الذي في السموات زلاتكم، وإن لم تغفروا أنتم لا يغفر لكم أبوكم الذي في السموات أيضًا زلاتكم"

 

طريقان للحرية

بالطبع وكما أعلنت سابقًا فأخصائي علم النفس لا يذكر المقارنات بصراحة وإن قيلت فبندرة شديدة، وعندما يقول ذلك فهو بذلك قد صار غير أمين لعقيدته النفسية الخاصة بالحياد الأخلاقي. ولكن تلك المقارنات يلقيها المريض دائمًا على أخصائي علم النفس. والمريض يفعل ذلك، لأنه بفطرته يدرك الاشتباك المأساوي لهذين الإنجيليين. وهو يُدرك هذا الاشتباك الفكري بهذا السؤال الرقيق الذي يُلقى عليه من أخصائي علم النفس "هل تحدثت مع والدك عن تلك المعاناة التي لديك ضده؟"

حقًا هناك إنجيليين يراهما عامة الشعب وأخصائيو علم النفس واللاهوتيون: إنجيل علم النفس مقابل الإنجيل الكتابي، أي إنجيل توكيد الذات مقابل إنجيل الإنكار الذاتي، أي إنجيل إعلاء الذات مقابل إنجيل ازدراء الذات، إنجيل الإخلاص للنفس مقابل إنجيل العطاء، أي الإخلاص مع الآخرين. أنا أتمنى ألا يساء فهمي فيما يخص ذلك فأنا استعمل كلمة إنجيل بالمعنى المدني البسيط، كما عندما يتحدث أحد عن إنجيل الشيوعيين. إن المعنى الحقيقي للإنجيل الكتابي هو استعلان خلاص العالم الذي قام به الرب يسوع، ولكن هذا ليس المعنى المتداول هنا، وأنا أشك أن أي أخصائي علم نفس يجرؤ على المجادلة عن هذا النوع من الإعلان الي ينتمي تمامًا لمجال الإيمان وهو الأمر غير المتاح للعلماء النفسيين.

ما أتحدث عنه هو النصيحة أو المشورة التي تُقدم من الأخصائي النفسي مقارنة بتلك التي تقدم بمعرفة اللاهوتي، أو بالأحرى النصيحة التي يظن الناس أن علماء النفس أو اللاهوتيين سيقدمونها وأنه من الأكيد ستكون متعارضة تمامًا.

كل مرضانا يدرون بهذا التناقض البالغ حتى لو تربوا كمسيحيين وهم أكثر من غيرهم يشعرون بحدة هذا التناقض. شخص مثل هذا يظل صامتًا فيما يخص هذا الصراع الداخلي أثناء مجرى مشورتنا لمدة طويلة وأنا في حيرة وأتساءل: ترى ماذا يدور في ذهنه؟

لكن فجأة يُوضع أمامي هذا السؤال المباشر "في وجهة نظرك ما معنى كلمة إنكار النفس؟" وتلك هي نوعية الجدال التي تدور وتطحن داخل ذهنه، في ذاك الوقت:

  • هل يجب أن يكون المرء نفسه تحت مخاطر التخلي عن ما تعلمنا في كنائسنا أنه الصواب؛ ألا وهو الاتضاع ومحبة القريب
  • أو ينبغي إنكار النفس تحت مخاطر عدم الإخلاص مع النفس ومخاطر الفشل في توكيد الذات الذي يتحدث عنه علم النفس لكي ننمو سعداء وأسوياء وناضجين؟؟

 

لغة الحق والباطل

 

فضائل مزيفة

أنا أكرر أن هذا الخلاص ظاهري أكثر مما هو حقيقي، ونظري أكثر مما هو عملي. وأنا عندما أبرزت هذا الموضوع بطريقة حادة –من منطلق أبيض أو أسود- فهذا لأني أظن أنه من الأفيد أن أقول بكل صراحة واستقامة ما يفكر فيه العديد من الناس ممن لا يجرئون على البوح به علنًا. فالقضية داخل أذهانهم فقط فهي لم تكن أبدًا بين علم النفس والدين فهي على أي مستوى بين مفهومهم عن علم النفس الوضعي وبين مفهومهم عن الإيمان المسيحي المسلم مرة للقديسين.

إضافة إلى أنه هناك عدة حقائق –ملحوظة من كل فرد- ترسخ هذا المفهوم عن التضارب الحادث بداخلهم. فكم من الشخصيات الهزيلة الهلامية داخل كنائسنا أناس ليس لديهم الشجاعة ليحيوا ملء حياتهم أو أن يؤكدوا ذاتهم وأن يُخرجوا كل ما لديهم من وزنات، وهم يرون خنق أنفسهم هذا كفضائل مسيحية ولا يعلمون أن الإيمان يخلق شخصيات ممتلئة بالقوة والطاقة.

 

أتذكر قصة شخص يُعتبر شخصية مثالية ونمطية أحب أمه من كل قلبه وهي أحبته وكانت دائمًا تقول عنه أنه أفضل أولادها والأكثر إحساسًا بها، وهو لم يتسبب لها مطلقًا بلحظة قلق. وكان من أعز أمانيها أن تراه متزوجًا، ولكنه لم يكن لديه أية نية لتنفيذ تلك الرغبة.

إن خلاص وإنقاذ هذا الولد بدون أي محاولة لمجادلة الأم التي قد تكون عاجزة عن فهم نتائج تصرفاتها فهذا سيكون مثل أصمين يتكلمان مع بعضهما البعض. وما يزيد من الطين بلة، أن بعض الخدام والكهنة كثيرًا –ببساطة قلب- ما يلقون ثقلهم بجانب الأم المسيطرة ويمدحون تقواها.

 

لنرى هذا المثال أيضًا: شابة صغيرة لديها أم معتلة بمرض ما، ولا تصلح لتربية الأولاد، لذا هي تكرس نفسها، لتأخذ مكان أمها فتدير البيت وتربي إخوتها وأخواتها الصغار. يكبر الأولاد ويتزوجون ويتركون البيت وتظل هي البنت الوفية المفضلة لوالدتها. الأم لا تستطيع أن تصنع شيئًا بدون تلك الابنة، ويحدث أن تلك الفتاة تحصل على فرصة رائعة للسفر للخارج لتمارس حياة عملية. نصحها طبيب القرية أن تأخذ فرصتها بجدية، لأنها ستكون فرصتها الأخيرة، لتصنع شيئًا ما لنفسها، ولكنها ذهبت لتستشير كاهن الأبرشية، فقال لها الكاهن بكل حزم: أتذهبين؟!! أنتي لا يمكن لك أن تفعلي هذا الأمر. أمك مريضة وكل أخوتك تركوا لمنزل، اعتنِ بأمك فهذا هو واجبك أن تمكثي بالمنزل وتعتني بها. وهكذا مكثت في البيت، ولكن يداهمها السؤال التالي المحير: لماذا هي وليس إخوتها التي تمكث مع الأم؟! لقد التقيت بها بعد عشرين عامًا، بعد أن كانت الأم قد ماتت، ورأيت بها كل المضاعفات النفسية التي ظهرت عليها آنذاك؛ فقد امتلأت بالوسوسة ومشاعر أنها قد أفسدت حياتها. لقد اندهشت أسرتها للغاية عندما نصحتها وأيدتها أن تبدأ –ومن الآن- خطة عودتها للدراسة مرة أخرى. فقد تعود أفراد أسرتها على اعتبارها الابنة المضحية غير الأنانية التي لا تسأل شيء لنفسها، مدللين على ذلك بقولهم ألا زالت حتى الآن تعتني بأبيها المسن بعد موت أمها؟! وكان للأسف الوقت متأخرًا تمامًا لكي ما تبدأ دراساتها مرة أخرى وتتدرب للقيام بعمل ما لشغل وظيفة.

عندما نسمح للفرصة الرائعة التي تأتي في الميعاد المناسب لنا أن تنزلق من بين أيدينا فمن المُحال أن نبدأها مرة أخرى بنفس الطاقة، فذلك مثل الجري وراء القطار الذي قد فاتنا. وهكذا يأتينا الشعور بعدم الفائدة وأننا غير قادرين على النجاح، ومع طول مناقشاتنا معًا صارت على وعي بموقفها الحقيقي وعن الوقائع المسببة للهواجس التي تعصف بها والتي تكفي لكي ما تصيبها بالقلق الذي لا تستطيع بنفسها مواجهة تداعياته.

ولحسن الحظ قمت بتأييدها لطاعة مرشدها الروحي وهو رجل في منتهى الذكاء والفهم والبصيرة. هو أتى وقابلني وصلينا معًا لكي يمنحها الرب شفائه.

مما لاشك فيه أنه قد انزعج تمامًا عندما قالت له: لا تحدثني عن الله أو عن يسوع مرة أخرى. فقد خُدعت، لقد خُدعت في اسميهما والناس بشروني بنكران النفس على اسميهما، وكنت أظن أني أطيعهما. قال لها ذلك المرشد الموقر: أنتي لا تتمردين على الله، ولكنك تعترضي على الصورة المزيفة لله التي أعطوكي إياها. قالت له: "الصورة المزيفة.. ماذا تقصد؟ أنا لديّ الكثير من الانسحابات التي قمت بها على يدي العديد من الكهنة المشهورين، وكلهم حدثوني عن نبذ نفسي، أليس هذا هو ما تُعلمه الكنيسة دائمًا؟"

وبكل صراحة أعلن أنني إلى حد ما كنت مقيدًا ومعاقًا معها. بالنسبة لها، كطبيب مسيحيّ، كنت أمثل في نظرها العالم الديني الذي تربت عليه. وأنا لاحظت أنها تحمل فعلاً اتجاهات ومشاعر متضاربة ناحيتي، وأيضًا ناحية الكنيسة، وقد قالت لي أيضًا: لا تحدثني عن الله أو الرب يسوع لقد خدعت في إسميهما. ولكن لحسن الحظ مازال متبقيًا لدينا الأقنوم الثالث وهو الروح القدس فقد أسرت لي أنها صلّت للروح القدس.

بوضوح شديد كانت تعاني من أخطاء سيكولوجية خطيرة اختلطت بخبث ببعض التعاليم القويمة ولكن كيف يمكن فض هذا التداخل أو الامتزاج ما بين الحق والباطل، إن هذا العمل ليس سهلاً على الإطلاق ولابد أن يكون الحوار بيننا صريحًا للغاية وأمين ويتميز بالإخلاص. ألا يوجد من يرفضون المسيحية في النهاية لسبب بسيط إنهم غير قادرين على وضع توكيد الذات وإنكار الذات في منظورهم الروحي والنفسي الصحيح معًا؟!

 

يوجد حقًا إنجيلين: إنجيل النسك والوداعة مقابل إنجيل توكيد الذات.

 

الترك قبل الوقت

الإنسان يستطيع أن ينبذ ويترك فقط ما استطاع أن يحوزه، والإنسان أيضًا يتخلى فقط عن ما قد قبله قبلاً. هناك اختلاف جذري ما بين أن تُنكر على نفسك شئ لم تنله قط، وما بين أن يكون معك هذا الشيء وتنبذه.

أن يُنكر المرء شيئًا على نفسه قبل الوقت يعني أن يُمنع من حيازته قبل أن يتعلم كيف يمكنه الحصول عليه! لذا يظل لديه شوق وتوق عظيم لحيازته، ولكن يُعتبر ذلك سوء حظ أكثر من أي شيء آخر إذ لا يستطيع المرء عمل أي شئ حياله. فمن القسوة والظلم بالغ أن تحث إنسانًا ما على إنكار شئ على نفسه مما لم يقتبله من الأساس! وللأسف هذا كثيرًا ما يحدث. ولكن من ناحية أخرى فأن الترك الإرادي لشيء ما بعد حيازته لهو عملٌ حرٌ وصحي وطريق للنمو والنضج. إن الترك قبل الوقت يحدث غالبًا التالي: يقع الشخص منا ضحية هذا الترك الذي يسمع عنه في عظة ما كما لو كان الكلام موجهًا له شخصيًا، وكأنه هو المعني به بالرغم من حقيقة أنه لا يستطيع ترك ذلك الشيء لسبب بسيط، وهو أنه لم يقتبله أصلاً.

 

أمثلة كتابية للترك السوي

  • إبراهيم دُعي من الله لكي ما يترك مكانه، المكان النموذجي الذي حقيقة كان له.
  • الأخوين بطرس وأندراوس الذين دعاهما الرب يسوع، لكي ما يتركا كل شئ ويتبعاه. فقد كان لديهم بالفعل كل شئ، مكانًا ووظيفة آمنة.

 

فالإنسان لابد وأن يقتبل ويأخذ أولاً لكي ما يصير قادرًا على الترك والتخلي، يمتلك أولاً لكي ما يصير قادرًا على التنازل فيما بعد.

 

عانت إحدى مريضاتي بشدة في طفولتها من نبذها العواطف (أي أنكرت حقها الإنفعالي)، وهذا قادها إلى تكوين مركب نقص داخلها، وجاهرت بشكها في شخصيتها وانسحبت إلى عزلة اجتماعية. وقد أرسلتها إلى زميل أجنبي والذي ذكرها بالآية الشهيرة (أع 20: 35): "متذكرين كلام الرب يسوع أنه قال مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" وشجعها لتخرج من داخل نفسها وتخرج من داخل ظروفها الشخصية وتمنح نفسها بسخاء لخير الآخرين، ولمهنتها التي لم تكن تحبها على الإطلاق، وعقب ذلك سوف تجد السعادة. لقد كان ذلك الفكر مفهومًا روحيًا حقيقيًا ومفهومًا نفسانيًا صحيحًا وهي تعلم ذلك، ولكن كان ذلك عينه هو الشيء الوحيد الذي لا تستطيع عمله، فقد شعرت أنها ليس لديها شيئًا تمنحه للآخرين.

عندما نُعطى أنفسنا للآخرين، فنحن نفعل ذلك بتلقائية بسيطة بدون أن نُعلن أننا نريد ذلك وبدون مجاهدة لعمل ذلك، ولسبب أننا قد سبق أن قبلنا أنفسنا، فنحن نحتاج لأن نُعطي ما قد اقتبلناه أولاً. ولذا فكلما حثت مريضتي نفسها أن تُعطي كلما قلت قدرتها على فعل ذلك.

لقد اندهشت تمامًا منى عندما حدثتها عقب ذلك عن أن تقبل أولاً، وأن تفتح قلبها لفرحة الأخذ والقبول، أما إعطاء النفس فيأتي فيما بعد، سوف يأتي في دوره بعدما تقبل ما كان ينقصها.

قال أحد الشعراء: "إن من لم يحز السعادة لا يستطيع أن يمنحها" بمعنى أن فاقد الشيء لا يُعطيه.

أعطى الأب تايل هارد دي كاردن في كتابه "الوسط الإلهي" وصفًا رائعًا لهذا التبادل الأساسي الحيوي ما بين الأخذ وبين العطاء، عندما اقتبس من المثل القديم القائل: لا يستطيع أحد أن يُعطي شئ لم ينله. فقال: كيف يمنح المرء نفسه للرب إن لم يكن لنفسه وجود؟ وما هي الممتلكات التي يهبها المرء للرب من خلال نزعها من نفسه إذا كانت يديه فارغتين؟!

وهذا الأب كان دائمًا كاهن يسأل نفسه: ما هو الأفضل للمسحيين، الإيجابية أم السلبية؟ الحياة أم الموت؟ النمو أم الضمور؟ التنمية أم المحدودية؟ الملكية أم نبذ الملكية؟ ولكونه كاهن أجاب على نفسه: لماذا نميز ونفرق ما بين المرحلتين الطبيعتين للطاقة الواحدة؟ نمّي نفسك وامتلك العالم لكي يكون لك كيان وحالما ينُجز هذا الأمر حينئذ يأتي الوقت للتفكير في النبذ والترك، أي يأتي الوقت لقبول النقص من أجل الزيادة في آخر! نمّ نفسك أولاً.

لاحظ هذا الأب الكتب التي تتحدث عن الحياة الروحية أنها دائمًا بوجه عام لا تتحدث بالوضوح الكافي الشافي عن تلك المرحلة الأولى للكمال المسيحي ألا وهي القبول قبل النبذ، ومن هنا تنشأ الصراعات النفسية التي تناولتها بعين الاعتبار في الفصل السابق.

حقيقة إن مفتاح المشكلة هو في تأكيد أن هناك ثنائية هامة. ولخص لنا هذا الأب الأمر قائلاً: "وهكذا، في الدورة العامة للحياة المسيحية يأتي النمو ثم بعد ذلك النبذ والإنكار، الالتصاق ثم النزع، فليس أي منهما تصرفًا قاطعًا في ذاتهما، ولكن على العكس هما يعملان بتناغم مثل التنفس، فالشهيق والزفير يتبادلا في حركة رئاتنا.

 

تكامل دور الطبيب مع الكاهن

قال هنري فردرك أمايل عام 1865 (فليسوف سويسري وشاعر وناقد من قادة الحركة البيوريتانية في القرن التاسع عشر... المعرب): "إن حياتنا ليست إلا تذبذبًا ما بين الثورة والخضوع، ما بين النقيضين المتخالفين:

  • غريزة وفطرة الأنا: بمعنى الحاجة للامتداد والتمتع بالإحساس بالاحترام من الآخرين، حتى دون وجود نصرة في معركة الحياة الشخصية.
  • الفطرة الروحية التي تعني قبول ترتيب الكون وأيضًا قبول مشيئة الله

وهكذا واقعيًا وبناء على ما سبق هناك انتفاضتين متتاليتين ومتكاملتين. وسوف نرى انهما متطابقتين مع الإنجيلين الذين تحدثت عنهما سابقًا، إنجيل توكيد الذات وإنجيل إنكار النفس، أي إنجيل علم النفس والإنجيل الكتابي، وهما يتطابقا بالمعنى العام للوظيفة المحددة للأخصائي النفسي والطبيب من ناحية، والوظيفة المحددة للكاهن أو الواعظ من ناحية أخرى.

فالطبيب يبحث عن أن يُعطي المحروم ما ينقصه ألا وهو:

  • الصحة
  • المكان
  • الاندماج مع البيئة الاجتماعية

أما الكاهن أو الواعظ فهو يُعلن دعوة الله للانفصال عن القنية الأرضية، وهي دعوة معنية خصيصًا لمن هم لديهم وفرة في القنية والممتلكات الأرضية.

والعديد من الآباء يُلحِقون الانتفاضتين معًا في الحياة المسيحية، فالرب الذي يدعو الطبيب هو نفسه الذي يدعو رجل الدين لخدمة البشر. الأول يُعطي المحتاج القنية التي يحتاجها، أما الثاني فهو يعطي الغني الخروج من عبودية ذواتهم وممتلكاتهم.

لذلك أقول أن هاتين الوظيفتين هما تقريبًا كل ما يحدد ما هي دعواتنا المقابلة لتلك الوظيفة. وفي الواقع تتداخل هاتان الوظيفتان في مهامنا في الحياة: فخادم الكلمة قد يُعطي المحرومين أشياء قد يكونوا أنكروها على أنفسهم "قال لهم أعطوهم أنتم ليأكلوا" (لو 9: 13). قال يسوع ذلك لتلاميذه في محضر الجماهير الجائعة. كما قد تأتي اللحظة اللازمة والتي يقود فيها الطبيب والأخصائي النفسي مخدوميه (عملائه) إلى ما وراء الإشباع الصِرف لاحتياجاتهم إلى اكتمال النضج الذي يُوجد في عطاء النفس للآخر.

إن سر التوازن والسعادة يكون في مراقبة النفس وعدم مراقبة الآخرين، مع الاهتمام البالغ بما هو أعظم جدًا من النفس. وهكذا فإن وظيفتي المحددة في الحياة كطبيب أو صاحب مشورة هي:

  • ترسيخ كيفية عمل هذه الثنائية؛ هاتين الانتفاضتين معًا بتوالي على المستوى العملي، وإبراز أهمية اتباع الترتيب الذي يحدثان به.

 

بول تورنييه

من كتاب "ويوجد أيضاً مكان"