نوعين من الصمت

الأب هنري نووين ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

نحن نعلم أن هناك علاقة ما بين الصلاة والصمت، لكن إن فكَّرنا في الصمت على مدار حياتنا، قد يبدو أحيانًا بعيدًا عن السلام، لأنه قد يكون صمتًا مُخيفًا. فحينما فَّكر أحد الطلبة بعمقٍ في الصمت، خلال حياته، كتب قائلاً:

 

"الصمت ليلٌ،

وكأن لم يعد هناك ألاَّ ليالي متتالية،

بدون قمر أو نجوم.

عندما تكون وحيدًا؛

وحيدًا تمامًا.

حينما تشعر وكأنك مكروهًا،

حينما تصبح لا شيء،

حينما لا يحتاج إليك أحدٌ،

فكذلك يكون الصمت.

حيث تتراكم التحديات،

لأنه لم يعد يوجد إلا الصمت.

وحتى لو حاولت أن تفتح أذنيك وعينيك،

ستبقى دائمًا بدون رجاء أو شفاء.

ليلٌ بدون ضوءٍ أو أملٍ،

أنا وحدي في إثمي،

بدون مغفرةٍ، بدون حب.

أذهب يائسًا باحثًا عن أصدقاء،

فأُمشط الطرقات باحثًا عن شخصٍ، عن علامةٍ أو صوت،

فلا أحد سوى العدم.

ولكن يوجد هناك ليلٌ آخر،

بنجوم ساطعة وبدر منير،

بضوء مُنبثق من منزل بعيد،

حيث الصمت هادئًا وتأملي،

وصوت العصافير في تلك الكنيسة الكبيرة الخاوية،

حينما يُريد قلبي أن يُنشد فرحًا،

حينما أشعر بأني لست وحيدًا،

حينما أتوقع المزيد من الأصدقاء،

أو حينما أتذكر بيتًا من آخر قصيدة قرأتها،

حينما تذوب نفسي في سلام العذراء مريم،

أو في صوت المزامير الشجية،

حينما أكون أنا أنا، وأنت أنت،

حينما لا يخشى إحدانا الآخر،

حينما نترك الحديث للملائكة

التي تجلب لنا الصمت والسلام."

 

فكما أن هناك نوعان من الليالي، هكذا أيضًا هناك نوعان من الصمت، إحداهما مُخيف والآخر مسالم. إن الصمت يُعتبر تحديًا للكثيرين، إذ يجهلون كيفية التعامل معه. فإن تركوا ضوضاء المدينة خلفهم، وارتحلوا إلى مكانٍ آخر قد غاب عنه زئير السيارات، وتبويق الباخرات، وضجيج القاطرات؛ وحيث لم يعد هناك دندنة الراديو أو التلفاز، يشعرون بأن كامل أجسادهم قد قُبض عليها باضطرابات شديدة، كسمكةٍ قد أُلقيت على أرضٍ جافة، فيفقدون قدرتهم على الاحتمال. لا يستطيع بعض الناس تحصيل دروسهم بدون جدار صلب من الموسيقى يُحيط بهم. وإذا اضطرَّ بهم الحال أن يجلسوا في حجرةٍ بدون تدفق تيار ثابت من الصوت، فإنهم يُعانون من تشنجاتٍ شديدة، لهذا أصبح الصمت بمثابة تحدي للكثير منَّا.

لقد مضى زمانٌ، حيث كان الصمت هو الأمر المعتاد، بينما الضوضاء هي مصدر الإزعاج. ولكن اليوم صارت الضوضاء هي الحالة العادية، بينما أصبح الصمت –على نحو غريب كما يبدو- هو مصدر الإزعاج. لذا، لم يعد من الغريب أن نرى صعوبات في الصلاة عند الذين يفهمون الصمت بهذه الطريقة.

لقد أصبحنا متغربين عن الصمت؛ فإن ذهبنا إلى الشاطئ أو تنزهنا في الغابة فإن أهم صحبة نحرص عليها هي جهاز الاستماع (Walkman)، إذ يبدو أننا قد فقدنا المقدرة على تحمل صوت الصمت. الصمت ممتلئ بالأصوات: الرياح تهب، والأوراق تُخشخش، والطيور تُرفرف والأمواج تغسل الشاطئ. وإن كنَّا لا نسمع تلك الأصوات، فمازال لدينا المقدرة على أن نسمع صوت تنفسنا الهادئ وحركة أيادينا الرقيقة، ونمط خطواتنا الرتيبة. ولكن للأسف قد أُصبنا بالصمم تجاه كل تلك الأصوات التي للصمت.

حينما نكون مدعوين أن نترك عالمنا الصاخب، لندخل إلى هذا الصمت، فإننا، أحيانًا، يتملكنا الخوف. نشعر كالطفل الذي يرى جدران المنزل تنهار، وفجأة يجد نفسه في مجالٍ مفتوح؛ أو نشعر وكأننا قد جُردنا بعنفٍ من ملابسنا؛ أو كالطائر الذي غادر عُشَّه سريعًا مُجبرًا.

إن آذاننا تؤلمنا لأنها تفتقد تلك الضوضاء المُحبَّبة لديها، كما اعتادت أجسادنا على تلك الضوضاء وكأنها كسوة رقيقة الملمس تحفظنا دافئين. لقد أصبحنا مثل المدمنين، إذ يجب علينا أن نجتاز رحلة طويلة ملؤها أعراض الانسحاب.

لكن الأصعب من أن نتخلص من الضوضاء الخارجية، هو أن نُحقق الصمت الداخلي: صمت القلب.

إن الشخص الذي تُحاصره كل هذه الضوضاء، قد فقد التلامس مع ذاته الداخلية (inner self). فإن طُرح سؤال داخلي، يظل بلا إجابة، لأن مشاعره غير المؤكدة لم تتضح بعد، ورغباته المُعقدة لم تستقم، والعواطف المشوشة لم تُفهم بعد. كل هذه المشاعر تبقى في حالة من التعثر والفوضوية، لأنها لم تنل فرصة لفهمها.

من الغريب أننا عندما نُغلق كل مصادر الضوضاء على مدار اليوم، تبدأ ضوضاء جديدة في الظهور هي الضوضاء الداخلية، التي تَنتج من صراخ مشاعر مشوشة طالبة الانتباه.

إن دخولنا إلى غرفة هادئة لا يجلب لنا، تلقائيًّا، الهدوء والسكينة الداخلية. لأنه حينما يغيب أي شخصٍ يمكننا التحدث معه أو الاستماع إليه، فإن النزاعات الداخلية تبدأ في الظهور، وكثيرًا ما تُسبب هذه السكينة ضوضاء أشدُّ من التي هربنا منها توًا، لأن المشاكل المعقدة تحتاج إلى انتباه، وكل اهتمام يُقوي نفسه على حساب الآخر، وكل شكوى تُظهر التي تليها، وكل هذا بوره يلتمس الاستماع.

نعجز، في أحيانٍ كثيرة، عن مواجهة تلك المشاعر المُلتبسة، التي لا نستطيع فك شفرتها. ومن دواعي الدهشة أن بحثنا خارج أنفسنا عن كيفية تغيير كثير من الأمور، ليس سوى محاولة لتجنب مواجهة ما بداخلنا.

"ما الذي يمكنني فعله –بخصوص الصمت- وأن غارقٌ في كثير من المهام؟". هذا السؤال يقود الكثيرين للهروب من ذواتهم، والتمسك بعديد من الأمور، ليشعروا وكأنهم مازالوا مشغولين. وكأن لسان حالهم يُردد: "سوف أقوم بفعل كل هذا ولكن حينما لا أجد أي صديق أتحدث معه، أو في غياب أي موسيقى قد أستمع إليها، أو حينما تنتهي الجرائد التي قد أقرأها، والأفلام التي قد أشاهدها". فالسؤال لم يعد: كيف يمكن أن أعيش بدون أصدقاء أو بدون أي شيء يُغذي عينيَّ وأذنيَّ بانطباعاتٍ جديدة؟ -ومن الواضح أننا لا نستطيع- ولكن، السؤال الجوهري هو: هل يمكنني، من حين لآخر، الاختلاء بنفسي، وأن أُغلق عينيَّ، وأُنحِّي برفقٍ كل الضوضاء المتنوعة، وأجلس في هدوءٍ مُطمئن؟؟

أن تكون في حالة هدوء ومستمتع بالطمأنينة داخل أعماق قلبك، لا يُشبه ذلك حالة النوم أو الغفلة.

بل في واقع الأمر، إن تلك الحالة مليئة باليقظة ومتابعة كل حركة داخلية عن كثب، إذ أنها تتطلب ضباط النفس لكي تُميز الدافع المُغري لتنهض وتذهب إلى أماكن عدة، لترى ما بداخل تلك القبضة المُغلقة. إنها تدعوك إلى التجوال بحرية في فنائك الداخلي، وإحراق كل أوراق الخريف المُتساقطة، كل تُمهد طريق يمكنك من خلاله أن تجد قلبك بسهولة.

حينما تنوي الدخول إلى تلك "الأرض المجهولة"، قد تمتزج مخاوف عديدة بشكوك. ولكن ببطءٍ وثقة، سوف تكتشف نظامًا وأُلفة تُعمِّق أشواقك ورغباتك، كي تبقى في الداخل.

وبهذه الثقة الجديدة سنُعاين حياتنا مُتجددة دائمًا، ونابعة من الداخل. وعلى مدار هذه المعرفة لعمق القلب، حيث مشاعر الحب والكراهية، الرقة والألم، المُسامحة والطمع: تتباعد، أو تتقوى أو يُعاد صياغتها. يظهر هناك لغز اليد الحانية؛ إنها يد البستاني الذي يخلق مساحة لينمو البنات الجديد، والذي لا ينزع العشب الضار سريعًا، ولكنه يقتلع فقط ما يُهدد اختناق الحياة الجديدة.

 

الأب هنري نووين

من كتاب "بأيد مفتوحة"