الشر البشري

سي. إس. لويس ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

 

"لا يمكن أن تكون لديك علامة أعظم على الكبرياء المؤكدة من أن تعتقد أنك متواضع بما يكفي".

Law, Serious Call. cap. XVI

 

 

لقد ظهر الإنجيل باعتباره أخبارًا سارة. فقد جاء بأخبار إمكانية الشفاء للبشر الذين عرفوا أنهم أشرار على نحو مميت. لكن كل هذا قد تغير الآن. فالمسيحية الآن يجب عليها أن تُعلّم عن تشخيص الداء –وهذه في حد ذاته أخبار سيئة للغاية- قبل أن تحظى بالإدلاء بشهادتها عن العلاج.

هناك سببان أساسيان لذلك. السبب الأول هو حقيقة أنه على مدى حوالي مئة عام قد ركزنا كثيرًا على واحدة فقط من الفضائل –أي "اللطف" أو "الرحمة"- حتى أن معظمنا لا يشعر بأي شيء سوى الرحمة لكي يكون صالحًا حقًّا. أو أي شيء سوى القسوة لكي يكون شريرًا حقًّا. مثل هذه التطورات الأخلاقية غير المتوازنة ليست غير شائعة. كما أنه هناك عصور أخرى لديها فضائلها المحببة وعدم وعيها المؤذي. وإذا كان لابد أن تكون هناك فضيلة ما يتم غرسها على حساب بقية الفضائل الأخرى كلها. فلا يوجد ما يستحق ذلك أكثر من الحرمة. لأن كل مسيحي لابد أن يرفض باحتقار تلك الدعاية المقنّعة للقسوة التي تحاول أن تنزع الرحمة من العالم بدعوتها بأسماء مثل "النزعة الإنسانية" Humanitarianism و"النزعة العاطفية" Sentimentality. لكن المشكلة الحقيقية هي أن "الرحمة" صفة من السهل حتميًّا أن ننسبها إلى أنفسنا على أسس غير سليمة على الإطلاق. فكل إنسان يشعر أنه خيِّر إذا لم يحدث ما يضايقه في تلك اللحظة. وهكذا يقوم الإنسان بسهولة بتعزية نفسه عن كل رذائله الأخرى بواسطة اقتناعه بأن "قلبه أبيض". وأنه "لا يؤذي ذبابة". رغم أنه في الحقيقة لم يقم بأقل تضحية لمخلوق زميل له. إننا نعتقد أننا صالحون عندما نكون فقط سعداء: إلا أنه ليس بهذه السهولة، على نفس تلك الأسس. أن يتخيل المرء نفسه معتدلاً، أو متعففًا، أو متواضعًا.

أما السبب الثاني فهو تأثير التحليل النفسي Psycho -Analysis على الرأي العام. وبالتحديد، مبدأ الكبت والمنع Repressions and Inhibitions. إلا أنه بغض النظر عما تعنيه حقًّا هذه المبادئ، فإن الانطباع الذي تتركه بالفعل على معظم الناس هو أن الشعور بالخزي Sense of Shame هو أمر خطير ومؤذي. وهكذا جاهدنا لكي نتغلب على ذلك الشعور بالخوف أو الخجل، وتلك الرغبة في التخفي، التي ربطتها إما الطبيعة نفسها أو التقليد عند معظم البشر تقريبًا بالجبن وعدم التعفف والكذب والحسد. وقد قيل لنا (بحسب مبدأ الكبت والمنع) أن "نأتي بالأمور إلى العلن"، ليس لأجل إذلال النفس، بل على أساس أن هذه "الأمور" طبيعية جدًا ولا نحتاج أن نخجل منها. لكن ما لم تكن المسيحية باطلة بالكامل، فإن إدراكنا لأنفسنا الذي يكون لدينا في لحظات الخزي والخجل لابد أن يكون هو الشعور الوحيد الحقيقي؛ بل أنه حتى المجتمع الوثني يُدرك عادة أن "المجون" أو الوقاحة Shamelessness هي أحط درجات النفس. وهكذا في محاولتنا لاستئصال الشعور بالخزي قد هدمنا واحدًا من الأسوار الواقية للروح البشرية، وتهللنا بجنون هذا العمل كما تهلل أبناء طروادة Trojans عندما هدموا أسوارهم وجذبوا الحصان داخل طروادة Troy. إنني لا أعرف أي شيء يمكن فعله سوى أن نشرع في إعادة البناء بأسرع ما يمكننا. إنه عمل أخرق أن نُزيل الرياء بواسطة إزالة إغراء الرياء؛ "فالصراحة" من أناس غارقين تحت الخزي والعار هي صراحة رخيصة للغاية.

إن استرداد الشعور القديم بالخطية هو أمر أساسي بالنسبة للمسيحية. فقد اعتبره المسيح أمرًا مسلمًا به أن البشر أشرار. لذلك ما لم نشعر حقًا بأن افتراضه هذا حقيقي، رغم أننا جزء من العالم الذي جاء لكي يُخلصه. فإننا لن نصبح جزءًا من سامعيه الذين يوجه كلماته إليهم. إذ إننا نفتقر إلى الشرط الأول لفهم ما يتحدث عنه. وعندما يحاول البشر أن يكونوا مسيحيين بدون هذا الوعي المسبق بالخطية، تميل النتيجة غالبًا إلى أن يكون هناك نوعًا من الاستياء تجاه الله باعتباره الشخص الذي يقوم دائمًا بمطالب مستحيلة ويكون دائمًا غاضبًا لسبب غير مفهوم. معظمنا يشعر في بعض الأحيان بتعاطف خفي مع المزارع المحتضر الذي رد على رسالة الكاهن الخاصة بالتوبة بأن سأله "ما الأذى الذي فعلته به (بالله) في أي وقت مضى؟" هذه هي المشكلة الحقيقية. إن أسوأ شيء نفعله لله هو أن نتركه بمفرده. لماذا لا يستطيع لله أن يرد الفعل بالمثل؟! (بمعنى: لماذا لا يتركنا الله وشأننا؟! – المحرر) لماذا لا يعيش ويترك غيره يعيشون؟ ما الذي يدعوه، من بين كل الكائنات، أن يكون "غاضبًا"؟ من السهل على الله أن يكون صالحًا!

أما في تلك اللحظة التي يشعر فيها الإنسان بذنب حقيقي – وهي لحظات نادرة جدًا في حياتنا- فتختفي كل هذه التجاديف. قد نشعر أن هناك الكثير ما يمكن تبريره بالضعفات البشرية: لكن ليس هذا الفعل (الذي شعرنا بسببه بالذنب)- فهذا الفعل وضيع وقبيح بشكل لا يُصدق، بحيث أنه لا يمكن لأي من أصدقائنا أن يفعله، حتى أن شخصًا مُغاليًا في السوء مثل (س) كان ليشعر بالخجل منه، لذلك فنحن لن نسمح أبدًا بأن يُنشر هذا الفعل في العلن. في مثل تلك اللحظة نعرف بالفعل أن شخصيتنا، كما انكشفت من خلال هذا الفعل، بغيضة ويجب أن تكون مكروهة بالنسبة لكل الأناس الصالحين، وإذا كانت هناك قوى فوق الإنسان، يجب أن تكون مكروهة لهم أيضًا. فالإله الذي لا ينظر إلى هذا الفعل بنفور غير قابل للاسترضاء لا يكون كائنًا صالحًا. بل أننا لا يمكن حتى أن نرغب في مثل هذا الإله –يشبه هذا أن نرغب في أن تزول كل أنف في الوجود، وألا تُسعد رائحة الحشيش أو عبير الورود أو البحر أي كائن فيما بعد، لأن أنفسانا نفسها ثبت أنه عفنة.

عندما نقول بكل بساطة (فقط بكلمات سطحية – المحرر) أننا مجرد أشرار، يبدو عندها "غضب الله" وكأنه مبدأ همجي؛ لكن ما أن ندرك ونعي شرنا، يبدو حتميًّا، أن هذا الغضب هو مجرد نتيجة حتمية لصلاح الله. وهكذا أن نحتفظ أمامنا دائمًا بالرؤية المستقاة من مثل هذه اللحظة كما كنت أصفها، وأن نتعلم أن نكتشف نفس هذا الفساد الحقيقي الذي يتعذر تبريره، خلف المزيد والمزيد من سبل تخفِّيه المعقدة، فهذا أمر لا يمكن الاستغناء عنه للحصول على فهم حقيقي للإيمان المسيحي. هذه بالطبع ليست عقيدة جديدة، فأنا لا أحاول عرض شيء مبهر للغابة في هذا الفصل، إنني فقط أحاول أن أُخرج قارئي (بل والأكثر من ذلك، نفسي أيضًا) من جنة الحمقى Pons Asinorum ومن الوهم المطلق. لكن هذا الوهم ينمو ويزداد في الأزمنة الحديثة، بقوة شديدة، حتى أننا لابد أن أضيف القليل من الاعتبارات التي تميل إلى أن تجعل الواقع اقل إذهالاً.

أولاً: إننا ننخدع بالنظر إلى الأمور من خارجها. فنحن نفترض في أنفسنا أننا لسنا أكثر سوءًا تقريبًا من (ص)، الذي يعرف الجميع عنه أنه شخص لطيف ومهذب، وبالتأكيد (رغم أننا لا يجب أن نزعم ذلك في العلن) أننا أفضل من (س)، ذلك الشخص البغيض المكروه. حتى على المستوى الظاهري، ربما ننخدع بشأن ذلك. فلا تكن شديد اليقين من أن أصدقائك يعتقدون أنك في مثل صلاح (ص). فمجرد حقيقة أنك قد اخترته لعقد هذه المقارنة يعد مثار للشك: فربما يكون هو أفضل منك ومن دائرة معارفك. لكن دعونا نفترض أن (ص) وأنت كلاكما تبدوان "غير سيئين". إلى أي مدى يبدوا مظهر (ص) مخادعًا، هذا أمر بين (ص) وبين الله. فمظهره قد لا يكون مخادعًا: لكنك تعرف أن مظهرك أنت مخادع. هل تبدو هذه بالنسبة لك مجرد خدعة، لأني أستطيع أن أقول نفس الشيء إلى (ص) وهكذا إلى كل فرد بدوره؟ هذا هو بيت القصيد. كل إنسان، ليس شديد القداسة أو شديد الكبرياء، يجب أن "يرقى إلى مستوى" المظهر الخارجي للأشخاص الآخرين: فهو يعرف أنه يوجد داخله ما يهبط أدنى كثيرًا من أكثر سلوكياته العلنية استهتارًا، وحتى أكثر أحاديثه مجونًا. ففي لحظة من الزمن –بينما يتردد صديقك في قول كلمة ما- ما الأمور التي تدور في ذهنك؟ إننا لا نقول أبدًا الحقيقة كاملة. قد نعترف بحقائق قبيحة- بأكثر الأمور خساسة وحقارة وأكثرها جنبًا، أو بأردأ النجاسات وأكثرها ابتذالاً- لكن النبرة أو الأسلوب يكون زائفًا. إن فعل الاعتراف نفسهن مع لمحة نفاق متناهية الصغر، مع حركة دعابة خفية، فكل هذا يوجد وسيلة لفصل وإبعاد الحقائق عن ذاتك الحقيقية. لا يستطيع أحد أن يخمن كم كانت هذه الأمور مألوفة، من ناحية ما، ومتجانسة روحًا وطبعًا مع نفسك، وكم هي نموذج لبقية ما في داخلك كله: فهناك في دفء الأعماق الداخلية الحالم، لم تلقِ هذه الأمور تنافرًا، ولم تكن غريبة للغاية ومنفصلة عن بقية ذاتك، كما تبدو عندما تتحول إلى كلمات. إننا نفترض ضمنيًّا، وكثيرًا ما نؤمن، بأن الرذائل المعتادة هي أعمال فردية استثنائية، ونقوم بالخطأ العكسي بشأن تقييم فضائلنا، مثل لاعب التنس السيئ الذي عدو مستواه الطبيعي هو "أيامه السيئة" ويخطئ تقدير نجاحاته النادرة باعتبارها هي الوضع الطبيعي بالنسبة له. إنني لا أعتقد أنه خطؤنا أننا لا نستطيع أن نقول الحقيقة الواقعية بشأن أنفسنا؛ فالتذمر الداخلي المستمر طوال الحياة من الحقد، والغيرة، والاهتمام المحموم بالجنس، والطمع، والرضا عن الذات، ببساطة لن تعبِّر عن الكلمات. لكن الأمر المهم هو أننا يجب ألا نُخطئ باعتبار أن كلماتنا المحدودة هي بالضرورة تقرير كامل عن أسوأ ما بداخلنا.

ثانيًا: هناك رد فعل، الذي هو في حد ذاته مفيد، يسري الآن ضد المفاهيم الخاصة البحتة أو المحلية للأخلاق، وهو إعادة الصحوة للضمير الاجتماعي. إننا نشعر في أنفسنا أننا متورطون في نظام اجتماعي شرير وجائر وأننا نشارك في ذنب جماعي. هذا صحيح جدًا، لكن العدو يمكنه أن يستغل حتى الحقائق لخداعنا، لذلك احذر لئلا تقوم باستغلال فكرة الذنب الجماعي لكي تصرف انتباهك عن تلك الذنوب المضجرة ذات الموضة القديمة الخاصة بك التي ليست لها علاقة "بالنظام" والتي يمكن التعامل معها بدون انتظار الألفية التالية. لأن الذنب الجماعي ربما لا يمكن، كما أنه بالتأكيد، لا يتم الشعور به بنفس قوة الذنب الشخصي. بالنسبة لمعظمنا، كما نقول الآن، هذا المفهوم هو مجرد عذر لتجنب المشكلة الحقيقية. لكن عندما نتعلم حقًا أن نعرف فسادنا الشخصي، عندها بالحقيقة نستطيع أن نواصل لكي نفكر في الذنب الجماعي ولا نقدر أن فيه أكثر من اللازم، إذ أننا لابد أن نتعلم المشي قبل أن نتمكن من الجري.

ثالثًا: إن لدينا وهم غريب وهو أن مجرد الزمن يلغي الخطية ويزيلها. لقد سمعت آخرين، وسمعت نفسي، نحكي بل وحتى نضحك، من أشكال القسوة والكذب التي ارتكبناها في صبانا كما لو أن لا علاقة لها بالشخص الذي يتحدث في الوقت الحاضر. لكن مجرد الزمن لا يفعل شيئًا سواء بالنسبة إلى حقيقة الخطية أو إلى إثم خطية ما. الذنب لا يُغسل بمرور الزمن، بل بالتوبة وبدم المسيح: فإذا كنا قد تبنا عن هذه الخطايا المبكرة في حياتنا يجب أن نتذكر ثمن غفران خطايانا ونتضع. أما بالنسبة لحقيقة الخطية، فهل من الممكن لأي شيء أن يزيلها؟ كل الأزمنة هي حاضرة سرمديًّا أمام الله: أليس من الممكن على الأقل أنه عبر خط واحد في أبديته متعددة الأبعاد أن يراك الله إلا الأبد وأنت في مرحلة الحضانة تنزع أجنحة الذباب، يراك إلى الأبد وأنت تتملق، وتكذب، وتشتهي كصبي في المدرسة، يراك إلى الأبد في تلك اللحظة التي تعبر فيها عن الجبن أو الوقاحة والعجرفة بدرجة وضيعة؟ ربما يرجع الأمر إلى أن الخلاص لا يتألف من إزالة هذه اللحظات الأبدية بل يتألف من الاتضاع الكامل الذي يحمل الخزي إلى الأبد، ويفرح بالفرصة التي هيأتها رحمة الله ويسعد أنها يجب أن تكون معروفة بطريقة عامة للكون بأكمله. ربما في تلك اللحظة الأبدية يقوم القديس بطرس –وسوف يغفر لي إذا كنت على خطأ- بإنكار سيده إلى الأبد. إن كان الأمر كذلك، سيكون صحيحًا بالفعل أن أفراح السماء هي بالنسبة لمعظمنا، في حالتنا الحاضرة، "خاصية مكتسبة" –وأن طرقًا معينة من الحياة قد تجعل هذه الخاصية يستحيل اكتسابها. وربما الضالون هم أولئك الذين لا يجرؤون على الذهاب إلى مثل هذا المكان العام. بالطبع أنا لا أعرف إن كان هذا صحيح أم لا؛ ولكني أعتقد أن احتماليته يجدر أن توضع في الاعتبار.

رابعًا: يجب أن نحذر من الشعور بأن هناك "أمان في الجماعة" أو في الأعداد الكبيرة. فمن الطبيعي أن نشعر أنه إذا كان كل البشر هم بمثل الشر الذي يتحدث عنه المسيحيون إذًا لابد أن يكون الشر مبررًا للغاية. فإذا رسب كل التلاميذ في الامتحان، فلابد بالتأكيد أن الامتحان كان شديد الصعوبة. وهكذا يشعر أيضًا المدرسون في تلك المدرسة إلى أن يعلموا أن هناك مدارس أخرى بلغت نسبة النجاح فيها تسعون في المائة لنفس هذا الامتحان. عندها يبدأون في الشك في أن الخطأ لا يكمن فيمن يضعون الامتحان. مرة أخرى، كثيرون منّا كانت لديهم خبرة العيش في قطاع محلي ضيق من المجتمع البشري في مدرسة أو كلية أو نظام أو مهنة معينة حيث كانت البيئة سيئة وفاسدة. وداخل ذلك القطاع كانت هناك أفعال معينة يتم اعتبارها مجرد طبيعية (كل الناس يفعلون ذلك) وأعمال أخرى معينة يتم اعتبارها فاضلة ومثالية بطريقة خيالية غير عملية. لكننا عندما خرجنا من ذلك المجتمع السيئ اكتشفنا شيئًا مريعًا وهو أنه في العالم الخارجي كان "الطبيعي" بالنسبة لنا هو شيء لا يحلم أي إنسان مهذب بالقيام به أبدًا، وما كان يُعتبر بالنسبة لنا "مثالي"، كان أمرًا مسلمًا به باعتباره هو المعيار الأدنى للأخلاق. ما كان يبدو لنا رهيبًا وخياليًّا بينما كنا نعيش في "هذا القطاع الضيق" قد اتضح الآن أنه هو اللحظات الوحيدة من العقل التي استمتعنا بها ونحن هناك. لذلك من الحكمة أن نواجه احتمالية أن الجنس البشري كله (لكونه شيئًا صغيرًا في الكون الواسع) هو في الحقيقة، مجرد هذا القطاع المحلي الضيق من الشر مدرسة فاسدة منعزلة أو نظام يُنظر داخله إلى الحد الأدنى من الأخلاق باعتباره فضيلة بطولية ضخمة، وإلى الفساد الكامل باعتباره خلل يمكن الصفح عنه. لكن، هل هناك أي دليل – باستثناء العقيدة المسيحية نفسها، على أن هذا الأمر كذلك؟ أخشى أن هذا الدليل موجود فعلاً.

في المقام الأول، يوجد بيننا أولئك البشر غريبي الأطوار (المؤمنون الحقيقيون) الذين لا يقبلون المعيار المحلي، والذين يُظهرون الحقيقة المزعجة بأن ممارسة سلوك مختلف تمامًا، هو في الحقيقة أمر ممكن.

ثانيًا: إلا أن الأسوأ من ذلك هو حقيقة أن هؤلاء البشر، حتى عندما ينفصلون كثيرًا عن بعضهم البعض في المكان والزمان، تكون لديهم قدرة خاصة مريبة على الاتفاق مع أحدهم الآخر في الأمور الأساسية –كما لو كانوا على اتصال مع رأي عام أوسع خارج هذا القطاع الضيق. الأمر المشترك بين زرادشت Zarathustra، وإرميا، وسقراط Socrates، وجوتاما Gotama، والمسيح، وماركوس أوريليوس Marcus Aurelius، هو أمر شديد الجوهرية (ملاحظة: إنني أذكر المسيح، الإله المتجسد، بين المعلمين البشريين لكي أؤكد على حقيقة أن الاختلاف الأساسي بينه وبينهم لا يكمن في التعليم الأخلاقي (الذي يعنيني هنا) بل في الشخص والمكانة).

ثالثًا: إننا نجد في أنفسنا حتى في هذه اللحظة تأييد نظري لهذا السلوك الذي لا يمارسه أحد. فحتى داخل القطاع الضيق لا نقول أن العدل، والرحمة، والشجاعة والجَلَد، والاعتدال، هي أمور ليست ذات قيمة، بل نقول فقط أن النظام المحلي هو بالمثل عادل وشجاع ومعتدل ورحيم كما يمكن أن يُتوقع بشكل معقول. وهكذا يبدو الأمر وكأن القواعد المدرسية التي يتم تجاهلها حتى داخل هذه المدرسة الفاسدة كانت مرتبطة بعالم أوسع –وأنه عندما ينتهي الفصل الدراسي قد نجد أنفسنا نواجه الرأي العام لذلك العالم الأوسع. لكن أسوأ ما في الأمر و هذا: أنه لا يسعنا إلا أن نرى أن الدرجة الوحيدة للفضيلة التي ننظر إليها الآن باعتبارها غير عملية يمكنها أن تنقذ جنسنا من كارثة حقيقية على هذا الكوكب. فالمقياس الذي يبدو أنه قد جاء من الخارج إلى "القطاع الضيق"، يتضح أنه مرتبط بصورة رهيبة بالظروف الموجودة داخل القطاع الضيق –بل أنه شديد الارتباط بها حتى أن الممارسة المستمرة للفضيلة بواسطة الجنس البشري حتى ولو لمدة عشر سنوات، يمكن أن تملأ الأرض من القطب إلى القطب بالأمن والسلام، والوفرة، والصحة، والسعادة، والسلام الفكري، حيث لا يوجد شيء آخر يمكنه أن يفعل ذلك. قد تكون العادة، ههنا، هي أن نُعامل القواعد الأخلاقية المنضبطة كأمور حرفية ميتة أو كنصح بالكمال: لكن حتى في هذه الحالة، فإن أي إنسان يتوقف لكي يفكر يستطيع أن يرى أننا عندما نلتقي مع العدو فإن تجاهلنا لهذه القواعد سوف يُكلف كل إنسان منّا حياته. عندها سوف نحسد ذلك الشخص "الكئيب"، أو "المدقق" أو "المتحمس" الذي علّم بالحقيقة رفاقه أن ينمو ويتجذروا ويدخروا قوارير مياههم.

 

سي. إس. لويس

من كتاب "الله – الإنسان، والألم"