من كتاب "الاقتداء بالمسيح" (النسخة العربية) - (4)

القديس توما الكمبيسي ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

(في الطبيعة البشرية والنعمة)

الرب: بني، انك تبلغ إلىَّ بقدر ما تتملص من ذاتك. إن غلبت نفسك تمام الغلبة، سهُلَ عليك الانتصار على غيرك. الظفر كل الظفر في تغلب الإنسان على ذاته. من أخضع ذاته إخضاعاً يجعل الحواس تحت حكم العقل والعقل تحت حكمي المطلق، فهذا قد ظفر حقاً وهو رب الكون.
ولن تبلغ أوج الكمال هذا ما لم تبدأ وتضع – بما فيك من بأس الرجال – الفأس على أصل الشجرة. لتقلع وتهدم ما فيك من ميل خفي إلى ذاتك وإلى كل صالح ذاتي مادي. وعن هذه الرذيلة، أي حب الذات المفرط، تنشأ كل الرذائل التي يجب على الإنسان قلعها من أصلها.
بني، تنبه جهدك إلى نزعات الطبيعة والنعمة، فهي دقيقة متناقضة قد لا يميزها غير الرجل الروحاني المستنير القلب.
الطبيعة داهية تستغوي الكثيرين وتوقعهم في حبائلها وتضللهم، وهي لا ترضى إلا بذاتها غاية.
الطبيعة لا ترضى أن تموت إلا مرغمة، ولا ترضى أن تـُغصب أو تـُغلب أو تـُقهر أو تخضع أو تطيع إلا قسراً. الطبيعة تسعى إلى مصلحتها، وتنظر إلى ما ينفعها به الغير. الطبيعة تقبل التكريم والإجلال راضية، أما النعمة فتنسب كل كرامة ومجد إلى الله.
الطبيعة تسعى إلى ما كان طريفاً ظريفاً وتنفر من كل ما كان وضيعاً خشناً. الطبيعة تلتفت إلى أمور الزمن وتفرح بأرباح الأرض وتحزن لكل خسارة وتغتاظ لأدنى إهانة. الطبيعة تميل إلى الخلائق وإلى الجسد وإلى الأباطيل وإلى السفسفات. الطبيعة تقبل راضية كل تعزية من الناس وتستطيب ما فيها من لذة محسوسة. أما النعمة فلا تلتمس التعزية إلا من الله ولا تنعم بالخير الأسمى دون خيرات الأرض.
الطبيعة تعمل كل ما تعمل لمنفعتها وصالحها ولا يسعها أن تعمل مجاناً وتأمل أن تـُجزى على ما تعمله من خير خيراً يوازيه أو يعلوه، وإن لم يكن خيراً فمديحاً أو حظوة، وترغب في أن يُقدَّر أحسن تقدير ما تأتيه من الأعمال والهبات. الطبيعة تفرح بكثرة الأصحاب والأقارب وتفتخر بالمنصب الرفيع والنسب الكريم، تلاطف المقتدرين وتتملق الأغنياء وتصفق لأمثالها. الطبيعة تأبى إلا أن تكون هي غاية كل شئ، وتجاهد في سبيل مصالحها وتناضل عنها. أما النعمة فترى أن الله غاية كل شئ كما انه مصدر كل شئ، ولا تدّعي خيراً أو تتباهى به تصلفاً.
الطبيعة تشتهي الاطلاع على الخفايا واستماع الجديد، وتريد أن تظهر على عيون الناس وأن تخبر بحواسها ما استطاعت من أمر، وتحب أن تشهَر وأن تعمل ما يؤتيها مديح الناس وإعجابهم. أما النعمة فلا تهتم للوقوف على كل حدث طريف. فهذا من بقايا الفساد العتيق، لأنه لا أمر جديد ولا أمر يدوم على وجه الأرض.
فالنعمة تعلّم قمع الحواس، وتجنب العجب والمباهاة، وكتمان ما يستحق المدح والإعجاب بروح التواضع والسعي في كل أمر وكل علم إلى الثمرة المفيدة ومجد الله وإكرامه، ولا ترضى بأن تـُمدح هي وما لها بل تود أن يُبارك الله في مواهبه، لأن كل الخيرات هبات منه عن محبة خالصة.

التلميذ: أيها الرب إلهي، لابد من نعمة منك عظيمة لقهر الطبيعة، هذه الطبيعة الميالة إلى الشر منذ صباها (تك8: 21). لأن هذه الطبيعة من يوم زلّت وفسدت بخطية آدم الإنسان الأول وسرى عقاب وصمتها إلى كل البشر، أصبحت، بعد أن خلقتها صالحة ومستقيمة، رهن الرذيلة والفساد، تميل بصاحبها، إذا لم تنشلها، إلى الشر والانحطاط. وما تبقى لها من قوة هو كشرارة مطمورة تحت الرماد. هذه الشرارة إن هي إلا العقل البشري الذي يكتنفه ظلام كثيف؛ أجل إن هذا العقل لا يزال يميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، لكنه أصبح عاجزاً عن إتمام ما يستحسن وقد فقد بهاء نور الحق وسلامة الشعور.
فتراني يا رب، وإن ارتضيت ناموسك بحسب الإنسان الباطن (رو7: 22)، وعلمت أن وصيتك مقدسة عادلة صالحة، وقضيت على ذاتي بوجوب تجنب الشر والخطيئة، عبداً لناموس الخطيئة (رو7: 25)، أطيع الشهوة أكثر مما أطيع العقل. وتراني، وإن كانت الإرادة حاضرة لي، لا أجد فعل الخير (رو7: 18). وتراني، وإن عزمت على أن أعمل كثيرا من الأعمال الصالحة, انثنى وأفشل لدى أدنى مقاومة، إذا لم تقوِّ نعمتك ضعفى. وتراني أعرف سبيل الكمال وأدرك بكل وضوح ما يفرضه على واجبي، ولا أتقدم في هذا السبيل لثقل طبعي الفاسد.
فما أشد حاجتي إلى نعمتك، يا رب، لأباشر عمل الخير وأمضى فيه وأتممه!.
"إذ الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح." (في2: 21)

(السفر الثالث 53 - 56)

(القديس توما الكمبيسي)

 

هولندا 1380 – 1471

"ولكن الفساد الذي في الإنسان الذي به تـُرتكب الخطية صار ثابتاً في طبيعتنا البشرية وهو نبع دائم لتصرفاتنا الخاطئة."
(القديس أغسطينوس – من كتابه: "النعمة والطبيعة البشرية")
"والطبيعة البشرية رديئة حتى في الناس الذين في دواخلهم روح الله، حتى أنهم لا يعجزون فقط عن عمل ما هو صالح ولكنهم يناضلون ضده أيضاً".
(مارتن لوثر في كتابه "عبودية الإرادة")