الروحانية الحقة

جيرالد ماكديرمت ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

إن الروحانية الحقة تتميز بالجوع القوي والشوق الشديد لمعرفة الله أكثر وأكثر، أما الروحانية الزائفة فهي تقنع بما لديها حتى الآن ولا تطمع في المزيد. إنها تتصور أنها عرفت الكفاية عن الله، وليس لديها أية رغبة في أن تتعمق أكثر في معرفة الله.
ولكن القديس الحقيقي يشتاق إلي المزيد، وكلما أحب الله أكثر أراد أن يحبه أكثر، وهو متضايق لأنه أكتشف أنه لم يحبه بدرجة كافية حتى الآن، والقديس الحقيقي يكره الخطية ويحزن لأنه ضيع سنيناً في الخطية، أما الآن فهو يشتاق أكثر وأكثر لأن يرتبط بالرب أكثر وأكثر.
ولهذا فإن القديس الحقيقي يسعى مجاهداً إلي الأمام غير مكتف بالروحانية التافهة الزهيدة التي له الآن.
أيضاً مما يعمل علي ازدياد شوق المؤمن علي التمتع أكثر بجمال وقداسة المسيح. نمو إدراكه لعمق خطيته، ولهذا يلح في طلب النعمة التي تعمل علي غفران خطيته والتغلب عليها، وتكون صلاته مثل صلاة الأب الذي كان بابنه روح نجس. صرخ أبو الولد بدموع وقال: "أؤمن يا سيدي، فأعن عدم إيماني" (مر9: 24).
إن هؤلاء الذين حصلوا علي النعمة لا يريدون أي نوع آخر من الراحة (القناعة). فبعد أن تذوقوا مباهج النعمة التي تشبع النفس، يدركون أن لا شئ يقارب السلام العميق والفرح العظيم اللذين يأتيان بالنعمة. إن النعمة وحدها هي التي تحقق توقعات وآمال الإنسان. إن أمور هذا العالم لا يمكن أبداً أن تحقق تماماً كل آمالنا وطموحاتنا. لقد أدركت هذه الحقيقة عندما كنت في التاسعة من عمري، إذ ظللت لعدة أشهر أحلم بالحصول علي طائرة نفاثة مقاتلة (لعبة تقليد). توسلت إلي والدي أن أحصل علي هذه اللعبة عند حلول عيد الميلاد. عندما جاء عيد الميلاد أخيراً ووجدتني وأنا ألهث مبهوراً، أمزق الغلاف الورقي من حول علبة كبيرة. امتلأت طرباً عندما اكتشفت أنني حصلت علي ما كنت أريد امتلاكه، ولكن بعد عدة ساعات بدأ الحزن يزحف إلي نفسي، لقد اختفت النشوة وذهبت الإثارة. الآن وبعد أن استخدمت الطيارة اللعبة، وأديت كل العمليات التي يمكن للطيارة أن تقوم بها، لم تعد بعد ذلك تمثل لي أية متعة أو تسلية، ولا يمكن أبداً بعد ذلك أن أختبر فرحة الإثارة التي لم تدم أكثر من ساعة أو ساعتين. واتضح لي أن الأشهر السابقة لحصولي علي اللعبة، تلك الأشهر التي كانت مشبعة بالأمل والتوقع، كانت أفضل بكثير من الوقت الحاضر الذي أمارس فيه اللعب، وهكذا بكيفية طفولية، ولكنها حقيقة وواقعية أدركت أن المسرات الأرضية لن تكون بمثل هذه العظمة التي كنت أتخيلها.
فإن سعادة النعمة دائمة وثابتة، أما المسرات العالمية فهي ليست دائمة، إنها تشبع شبعاً زائفاً ولفترة محدودة، وبعد ذلك يشعر الإنسان بالفراغ تماماً مثل الماء المالح لا تعطي إنعاشاً حقيقياً، أما فرح المباهج الروحية فعلي العكس من المسرات العالمية، فهو فرح باق وثابت حتى لو تذوق المؤمن كسرة صغيرة جداً من غني النعمة المقدمة له في المسيح يسوع فإن هذا الجزء الضئيل تبقي آثاره ولا تزول. أستطيع أن أشبه هذا كما لو كنت قد عثرت علي عمل من الأعمال الأدبية الرائعة، فبعد أن تكون قد قرأته فإنك سوف تظل تستمتع بذاكرة هذا العمل الأدبي وربما بالرؤية الجديدة التي يقدمها لك بقية أيام حياتك.
أقول مرة أخرى وأؤكد أن الأمور العالمية لا يمكن أن تقنعنا أو ترضينا، فالجنس أو المال أو السلطان ولا حتى الطعام يمكن أن ترضينا بصفة دائمة أو نهائية، بسبب طبيعتها التي تنتمي إلي هذا العالم. إنها أشياء لا يمكن في ذاتها أن تطفئ عطشنا الروحي، فلا شئ في هذا العالم له القدرة علي إرضاء ذلك الجزء منا والذي لا ينتمي إلي هذا العالم. فإذا حاولنا أن نجعل هذه الأشياء العالمية ترضينا أو تقنعنا فكأننا نحاول أن نثبت وتداً مستديراً داخل ثقب مربع بالطبع هذا لا يصلح.
والآن يمكننا أن نفهم أن النعمة وحدها هي التي ترضينا وتقنعنا قناعة كاملة ونهائية، ومع ذلك فالقديس دائماً يرغب في المزيد، لا لأن النعمة لم تكن كافية أو مرضية، ولكن لأن المؤمن وجد النعمة مشبعة تماماً. أقول بلغة أوضح إن المؤمن تذوق حلاوة النعمة لذلك هو يريد المزيد منها، فالفرح في الرب يجعلنا نشتاق أن نتعرف علي الرب أكثر وأكثر، ولا يختبر هذه الاختبار المجيد إلا المؤمن الذي ارتبط بالرب كلياً وجزئياً، واستمتع بحلاوة وجمال الرب يسوع المطلق، وكثير من القديسين المتعمقين لم يحصلوا علي هذا الاختبار إلا بعد عقد أو عقدين وهم في حياة الإيمان.

 

التماس وجه الرب (باجتهاد):

 

الأمر يختلف بالنسبة لغير المتجدد (غير المولود ثانية)، فعندما تستولي عليه مجرد مشاعر دينية عنيفة، فإن جوعه إلي الله يموت. كثيرون من أصحاب الديانات الأخرى في العالم تملأهم مشاعر دينية حادة فتقودهم إلي الخراب بدلاً من أن تقودهم إلي التماس وجه الله.

 

بولس، قبل أن يتجدد، كان مملوءاً مشاعر دينية حادة جعلته يقود كثيرين من أتباع المسيح إلي الحبس وإلي الموت، وكان شاهداً علي رجم الشهيد اسطفانوس.

 

 

 

طالب جامعي يدعي "إدى" كان يرعبه التفكير في موضوع الذهاب إلي جهنم. أقنعه زميله في حجرة السكن بأن يذهب إلي الكنيسة يوم الأحد، وعظ الخادم خدمة تبشيرية من الإنجيل، وتأثر "إدى" عاطفياً، وجعلته العظة يقبل المسيح، وبسبب هذا الاختبار العاطفي شعر "إدى" أنه قد حصل علي الخلاص.

 

لم يعد لدي "إدى" أي شوق أو رغبة للنعمة والقداسة، لأنه أصبح يعتقد الآن أنه في مأمن من خطر الذهاب إلي جهنم. لم يعد يخطر في باله أنه مفلس روحياً. بل ظن أنه ناجح روحياً. ولأنه صار يظن الآن أنه إنسان روحي، لم يعد يهتم بقراءة الإنجيل أو بالذهاب إلي الكنيسة. كان يصلي بين الحين والآخر، ثم انقطع. بعد ذلك لم يعد يهمه كثيراً إغفال وسائط النعمة من قراءة الإنجيل أو الذهاب إلي الكنيسة، لأنه اقتنع أن اختباره العاطفي جعله إنساناً روحياً متجهاً للسماء. وهنا مكمن الخطر، فإن حالة "إدى" تنطبق تماماً علي الكثيرين من غير المولودين من فوق، الذين حصلوا علي اختبارات عاطفية روحية، ولكنهم لو ينالوا الولادة الجديدة الحقيقية. إنهم يثقون في اختباراتهم الروحية العاطفية ظانين أن هذا هو نهاية المطاف. إنهم يظنون أن أمر القداسة هو شئ قاموا به في الماضي، وأنه لم تعد هناك حاجة للقيام بأي أمر أخر.

 

ولكن الإنجيل يعطينا صورة واضحة تبين لنا أن المتجدد الحقيقي هو الشخص الذي يستمر في التماس وجه الله. "هذا هو الجيل الطالبه الملتمسون وجهك (يا إله يعقوب)" (مز6:24)؛ "لا يخز بي منتظروك يا سيد رب الجنود. لا يخجل بي ملتمسوك يا إله إسرائيل" (مز6:69)؛ "… وتحيا قلوبكم يا طالبي الله" (مز32:69)؛ أيضاً "لتفرح قلوب الذين يلتمسون الرب" (مز3:105). والرب يسوع نفسه يقول: "طوبى للجياع والعطاش إلي البر لأنهم يشبعون" (مت6:5).

 

وطبقاً لما جاء في الكتاب المقدس، فإن المؤمن يبدأ بالتماس وجه الرب بعد التجديد وليس قبله، أي أن التجديد هو علامة بدء عمل المؤمن في طلب وجه الرب، والكفاح والنضال في حقل الخدمة بل هو إشارة بدء الانطلاقة. إن كُتاب الإنجيل يتحدثون ويؤكدون علي السباق الموضوع أمام القديسين. متشاركين في تحمل الآلام وفي النضال والجهاد وفي المصارعة والحرب والمقاومة ضد الأرواح الشريرة لابسين درع الله وصامدين أيضاً بعد أن يكونوا قد فعلوا كل شئ ساعين نحو الغرض ممتدين إلي قدام مناضلين في الصلوات صارخين إلي الله ليلاً ونهاراً.

 

إذا استمر غير المتجدد يلتمس وجه الله، فإنه يفعل ذلك لمنفعة ما يظن أنه سيتحصل عليها، ذلك لأن الآخرين يفتكرون فيه أنه إنسان "روحي" مؤمن، أو لأنه هو نفسه يرغب في الشعور بأنه إنسان متدين، أو لأن هذه المحاولة ربما تهدئ من ضميره عندما يشك في أنه لم يتجدد بعد،  وربما في الحقيقة هو ليس لديه شئ من الروحانية الحقيقية.

 

أما بالنسبة للقديس الحقيقي، فإن جوعه وعطشه إلي الله وإلي القداسة يأتي إليه بكيفية طبيعية ففي داخله رغبة مشتعلة وتنفس مقدس يجعله يتلهف علي سكني الروح القدس في داخله، يشتاق إلي الحصول علي المزيد من القداسة، فالطبيعة المقدسة بالنسبة لي تشبه التنفس بالنسبة للكائن الحي، وكما أن الجسم الحي لا يستطيع أن يعيش بدون التنفس الطبيعي، فالقديس الحقيقي لا يمكن أن يعيش بدون القداسة.

 

إن إنسان الله أكثر اهتماماً بالقداسة نفسها من اهتمامه بالمنافع التي تأتي من ورائها، لأن القداسة تبلغ قيمتها وأهميتها كأهمية الشراب والطعام، بل هي شهيته الروحية تماماً. وكما ذكر الرب يسوع نفسه: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" (يو34:4).


إن القديس الحقيقي يرغب في كلام الرب وليس مجرد أن يكتشف إلي أي درجة يحبه الرب، ولكن لكي ينمو في القداسة. إن القداسة التي يريد أن يمتلكها المؤمن تتمثل في النعمة، نعمة ربنا يسوع المسيح. إن النعمة هي أعظم كنز يريد أن يمتلكه المؤمن. يقول الوحي: "مخافة الرب هي كنزه" (إشعياء 6:33). ويقول بولس: "وأما التقوى مع القناعة فهي تجارة عظيمة" (1تيمو6:6). ولهذا فإن ما يميز القديس عن بقية العالم ليس الرؤى التي تأتيه من الرب، أو اختبارات محبته، أو حتى رغبته في ضمان مكان في السماء، بقدر شوقه الشديد إلي الحصول علي القداسة، (القداسة التي بدونها لن يري أحد الله). وبخلاف بقية العالم فإن القديس يجوع ويعطش إلي الحصول علي قلب أكثر قداسة وأن يعيش حياة أكثر قداسة. لأن القديس يرفض أن يكتفي أو يقتنع بمنزلته الروحية الرفيعة لأنه يريد المزيد من القداسة في المسيح يسوع.



---------------------
من كتاب: "الروحانية الصادقة"
لجيرالد ماكديرمت
(الفصل الرابع عشر)