نعم مؤكدة

الأب هنري نووين ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

والآن أنا أنظر إلى رجل الأوجاع، مختبر الحزن، المعلق على الصليب بذراعيه الممدودتين. إنه يسوع المسيح. محكوم عليه من بيلاطس البنطي، مصلوب بواسطة جنود رومانيين، يسخر منه اليهود والأمميين على السواء. ولكن رجل الأوجاع هو أيضاً نحن، الجنس البشري بأكمله، أناس كل العصور وكل البلاد، مخلوعين من الأرض كمشهد من العذاب يشاهده كل الكون. يقول المسيح "إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع" (يو12: 32). يسوع، مختبر الحزن، ونحن مختبري الحزن، معلقين هناك بين السماء والأرض، نصرخ: "إلهي إلهي، لماذا تركتني؟"

"أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا؟" لقد سأل يسوع صديقيه هذا السؤال، وهما أجابا بنعم مؤكدَة، ولكنهما لم يكن لديهما أدنى فكرة عما كان يتحدث المسيح عنه. إن كأس المسيح كانت كأس الحزن، ليس فقط حزنه ووجعه الخاص، بل حزن وأوجاع الجنس البشري كله. إنها كأس ممتلئة بالألم الجسدي والنفسي والروحي العميق. هي كأس الجوع والتعذيب والوحدة والرفض والترك والكرب والألم الهائل والعميق. إنه كأس مملوء بالمرارة. من يريد أن يشرب مثل هذا الكأس؟ إنه الكأس الذي يدعوه أشعياء "كأس غضب الله، كأس الترنح الذي شربته حتى الثفل (التفل)" (أش15: 17). وهو الكأس الذي يدعوه الملاك الثاني في سفر الرؤيا "خمر الغضب" (رؤ14: 8) الذي سقته بابل لجميع الأمم.

حين أتت للمسيح لحظة تجرع هذه الكأس قال: "نفسي حزينة جداً حتى الموت" (مت26: 38). لقد كان ألمه شديد جداً حتى أن "صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض" (لو22: 44). وقد كان صديقاه يعقوب ويوحنا، اللذان سألهما عما إذا كانا يستطيعا أن يشربا الكأس المزمع أن يشربه هو، كانا هناك ولكن نائمين، غير قادرين أن يستمرا مستيقظين معه في لحظات حزنه. في وحدته الهائلة سقط المسيح على وجهه صارخاً: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت26: 39). لم يستطيع يسوع مواجهة هذه الكأس. كان الألم أكثر من الاحتمال، والمعاناة تفوق القدرة على القبول، والعذاب أصعب من أن يُعاش. لم يكن يشعر بالقدرة على تجرع هذا الكأس الذي يطفح بالألم.

لماذا استطاع إذاً أن يقول نعم؟ لا أستطيع تماماً أن أجيب عن هذا السؤال سوى بالقول أنه خلف كل خبرة الترك التي اختبرها يسوع في جسده وعقله كان لا يزال هناك رباط روحي مع الشخص الذي يدعوه "أبا". لقد امتلك المسيح ثقة تربو على الإحساس بالخيانة، وتسليم يفوق الشعور باليأس، ومحبة تعلو على كل المخاوف. هذه الحميمية التي تتعدى كل حميمية البشر سمحت لطِلبة المسيح يسوع بأن تعبر عنه هذه الكأس أن تصير صلاة مباشرة إلى الشخص الذي قد دعاه "ابني الحبيب" من قبل. وبالرغم من ألمه العميق، لم ينكسر رباط الحب هذا الذي لم يكن من الممكن أن يُحس في الجسد أو أن يفكر به العقل، ولكنه مع ذلك كان موجوداً هناك خلف كل المشاعر والأفكار ليجعله يحتفظ بهذه العلاقة قائمة خلف التمزق الحادث في كيانه. لقد كان هذا الوتر الروحي والعلاقة الحميمة مع أباه هما ما قد مكناه من أن يمسك بالكأس ويصلي للأب قائلاً: "ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (مت26: 39).

لم يلق المسيح بالكأس بعيداً في يأس. كلا، بل أحتفظ به في يديه مستعداً لأن يشربه حتى القطرة الأخيرة. لم يكن ذلك استعراض لقوة الإرادة ولا لصمود الإصرار ولا لبطولة عظيمة. لقد كان ذلك "نعم" روحية عميقة منه للأب الذي كان المسيح بقلبه المجروح يحبه كثيراً.

حين أتأمل وأمعن التفكير في حالة قلبي المليئة بالحزن والأسى، وحين أفكر في جماعتنا الصغيرة من المعاقين عقلياً ومساعديهم، حين أرى الفقراء في تورونتو والألم الهائل والرهيب لرجال ونساء كوكبنا بطوله وعرضه، حينئذ أتسأل من أين يجب أن تأتي تلك النعم الأكيدة لهذه الاحتياجات. هناك بقلبي وبقلب رفقائي من البشر أسمع الصرخة التي تعلو قائلة: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني كأس الحزن هذه". أسمعها في صوت الشاب المصاب بالإيدز وهو يتسول بعض الخبز بشارع يونجي، أسمعها في أنات أطفال المجاعات، وفي صرخات السجناء الذين يتم تعذيبهم، في هتافات الغضب للمتظاهرين ضد التصعيد النووي … أسمعها في التوسلات غير المتناهية من أجل العدل والسلام حول العالم. إنها صلاة صاعدة إلى الله رأساً، ليس كبخور خافت بل كلهيب متقد.

من أين إذاً سوف تأتي تلك النعم المؤكدة؟ "ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت". من يستطيع أن يقول "نعم" حيث لم يسمع صوت الحب! من يقدر أن يقول "نعم" حيث لا يوجد أب يمكن التحدث إليه؟ من يستطيع أن يقول "نعم" حين لا تكون هناك لحظة تعزية واحدة؟ في وسط صلاة المسيح المملوءة بالألم وهو يسأل أباه أن يأخذ عنه كأس الحزن كانت هناك لحظة تعزية، يذكرها البشير لوقا وحده، حين يقول: "وظهر له ملاك من السماء يقويه" (لو22: 43).

في وسط الألم يوجد تعزية، في وسط الظلمة يوجد نور، في وسط اليأس يوجد أمل، في وسط بابل يوجد بصيص من أوروشليم، وفي وسط جحافل الشياطين يوجد ملاك معزي. أن كأس الألم، الذي لا يمكن تصوره كما يبدو، هو نفسه كأس الفرح. فقط حينما نكتشف ذلك في حياتنا الخاصة يمكننا أن نضع في الاعتبار إمكانية شرب ذلك الكأس.

من كتاب: "هل تقدر أن تشرب الكأس؟"

(الأب: هنري نووين)

من الفصل الثاني: "كأس الحزن"

صفحات 34 – 38

ترجمة: مشير سمير
يُسمح بإعادة نشر المحتوى بشرط ذكر المصدر واسم الكاتب والمترجم