حجرة الذكريات الدفينة والهروب

شيرين أبو النجا ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

فقدان الحب يعني أن نقبل فكرة أننا فقدنا شخصاً وفقدنا معه جزءاً من الروح، جزءاً لن يعود كما كان حتى لو حاولنا مع آخرين، فقدان الحب لا يختلف عن الموت، بل هو متطابق معه. كل محاولة ليست إلا أملاً لاستعادة ما فقدناه. القاهرة (الحياة) تكوينا بنار فقدان الحب لتوشمنا علي جبيننا بعلامة تؤهلنا لدخول عالم الكبار الراشدين الذين يتحكمون في عواطفهم، العاقلين الذين يحسنون الاختيار دائما، الحكماء الذين لا يندفعون مثلنا أو هكذا نعتقد علي الأقل. الحقيقة أن كل ما في الأمر أننا نتعلم كيف نبتلع الألم ونضعه في قاع الروح في مكان مظلم مهمل، مكان الكراكيب، الحجرة المائة التي لا نفتحها أبداً إلا عندما تبدأ بعض التجاعيد في احتلال أركان العين.

كنت أعرف أن الحجرة لابد أن تـُفتح يوماً ما، لكنني كنت دائما أؤجل، فأتعلل أن العمل كثير وأن الأمر يتطلب الكثير من الوقت الذي لا أملكه وأن غبار الحجرة سيقتلني أن فتحتها وأنني لا يمكن أن أقوم بهذا الجرد بمفردي. انتهي بي الأمر في برلين الألمانية بمفردي مع مفردي. فتح الحجرة المائة عمل فردى تماماً، مهما كانت المتاعب والجروح من الأدوات الحادة التي غالباً ما سنتعثر فيها، ومهما كانت شراسة عناكب الذاكرة التي ستنقض علينا ومهما كان عدد عفاريت الظلمة الذين استوطنوا الحجرة. الآن أنا أمام أنا. كيف السبيل والقاهرة علمتنا أن نكون معاً جميعاً دائماً؟ حتى مهارات فتح الحجرة لم أتعلمها. ظننت أنها انتهت وذهبت إلي النسيان بكل ما فيها. لم تذهب، بقيت هي ومحتوياتها تنظر إلي شذراً لتفرض قوتها وليتآكل عنادي وكبريائي ويظهر ضعفي.
كيف السبيل إلي تلك المواجهة التي نهرب منها دائماً؟ في البداية كنت أظن أنها أشياء بسيطة، موجعة مؤقتاً، سخيفة في حينها وستمر، تعللت بكل الحجج المستهلكة أقنعت نفسي أن درجة الحساسية تزداد كلما تقدمت السنون، وأنني أراقب نفسي وأقف أمامها لأخرج لها لساني وأقول بنبرة الأطفال عندما يحصلون علي شيء رغماً عنا "شايفاااكيييي". أزحت كل القصص جانباً وكأن شيئاً لم يحدث.

إلحاح الحجرة المائة يزداد، إلحاح جعلني لا أفكر في السفر مرتين، مرة واحدة، ثم قرار، ثم مطار، ثم طائرة، ثم بلد آخر. مكان مجهول، جديد، بكل ما فيه، وجوه ولغة وممرات ومناظر ومأكولات ومشروبات وعملات ورقية. مكان جديد لابد أن نخوض فيه ممرات الألم لنصل.

لكي أبدأ لابد أن أقع تحت طائلة الذاكرة التي لا ترحم، ذاكرة لا تشبه شيئا لأنها تبدأ في العمل و لا تتوقف مهما كانت التمائم والأحجبة، ذاكرة تهرس كل خلية في القلب والعقل ولا أعرف النتيجة بعد كل هذا الهرس والعجن، كل ما أعرفه الآن هو شلالات الدموع التي تنهمر مني لا إرادياً، دموع حارقة أشعر معها بوخزة ألم في منتصف صدري، دموع ألم وتأنيب ضمير وشعور بالضآلة والشفقة علي الذات والندم، وكما تقول أمي دائماً "لولا عدة "أم مكي" لكان الحال يبكي"، وفي برلين لم أجد عدة أم مكي فكان الحال يبكي.
من برلين أرسلت رسالة لـ "سمر" صديقتي بالبريد الالكتروني عنوانها "مساعدة عاجلة"، سألتها ما العمل في تلك الدموع وكل ذاك الرثاء وأنا هنا بمفردي وحيدة تماماً، وفوراً أجابت:
"لن أقول لك لا بأس، ولن أطلب منك التوقف عن البكاء، بل سأقول ابكي وابكي حتى تتخلصي من كل الآهات، بل علقي ورقة في الغرفة تقول أنك مجروحة حتى الثمالة. ابكي وابكي وعندما تذرفين دمعك بأكمله سيجيء وقت الفهم. لكن تذكري أنك لن تفهمي كل شيء، وعندما تحاولين الفهم لا تعفي نفسك من المسئولية. عندئذ ستطهرين الجرح من الدم والصديد الذي تراكم في القاهرة. وعندما يصبح الجرح نظيفاً سيترك مكانه علامة عجوز(لا تقلقي، يمكن أن نعالجها فيما بعد بجراحة تجميل). ابكي وأعلمي أنني أحبك وأؤمن بك. ابكي حتى تجدي الطريق الذي بدايته شوك ودموع وأخره سلام وأمان".

كم جراحة تجميل أحتاجها؟ ومازلت أبكي ذاكرة ماكرة لئيمة، ذاكرة بشعة تحتفظ بكل همسة ولمسة، ذاكرة لا تخون إلا في الأشياء التافهة، ذاكرة تنهش فينا لتؤكد أن كل ما حدث قد حدث بالفعل، ذاكرة تعيد لنا كل الوجوه التي كرهناها، وكل الألسنة التي ظننا أننا قطعناها، وكل المشاعر التي كنا قد نسيناها، وكل الأحداث التي كان لابد أن نصرخ فيها ولم نفعل، واللحظات التي كان لابد أن نـُقبل فيها فرُفضنا، والأماكن التي ما كان يجب أن ندخلها فدخلناها بثقة ولا مبالاة، والنساء ذوات الأرواح القبيحة اللواتي كان لابد أن نمنعهن من مجال رؤيتنا فدخلن قسراً وغصباً ليبقرن بطوننا، والرجال الذين أسلمنا لهم القياد أحياناً فكانت حوادث مروعة... كل تلك الروائح الكريهة، كيف سمحنا لأنوفنا أن تلتقطها؟

لن أعفي ذاتي من المسئولية، ولن أبحث عن شماعة، لدى مئات الشماعات في القاهرة.

د. شيرين أبو النجا
من رواية"خيانة القاهرة"