مكسورون

الأب هنري نووين ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢
حان الوقت كي نتحدث عن كسرنا. فأنت إنسان مكسور، وأنا إنسان كسير. وكل من نعرفهم أو نسمع عنهم، مكسورون. فكسرنا واضح جداً ومحدد وقوي وملموس حتى أنه يصعب علينا أن نفكر بأن هناك ما يمكن الكتابة عنه أو التحدث بشأنه بخلاف كسرنا.
أروع المؤلفات الموسيقية وأعظم اللوحات والمنحوتات الفنية وأفضل الكتب التي كُتبت غالباً ما تكون تعبير مباشر عن الوعي بالانكسار الإنساني.

إن كسرنا إنما نحياه ونختبره بطريقة شخصية خاصة جداً وفريدة. فأنا مقتنع بشدة بأن كل إنسان إنما يعاني بطريقة خاصة جداً لا يعاني بها إنسان آخر. بلا شك يمكننا أن نعقد بعض المقارنات، وأن نتحدث عن ألم أكثر من آخر وألم أقل من آخر، ولكن في النهاية يبقى ألمك شخصي جداً وألمي كذلك شخصي جداً، حتى أن المقارنة لا تجلب أي راحة أو عزاء. في الحقيقة أني أكون أكثر امتناناً للشخص الذي يدرك تفرد آلامي من الشخص الذي يحاول أن يخبرني بأن هناك كثيرون يتألمون مثلي وربما أكثر. فكسرنا يخصنا وحدنا وليس شخص آخر.

كيف ترانا نتجاوب مع هذا الكسر؟

أول تجاوب لنا يكمن في مواجهة ومحاصرة هذا الكسر ومصادقته. قد يبدو هذا أمر غير اعتيادي، حيث أن أكثر استجاباتنا التلقائية للألم هي في تجاهله أو إنكاره أو تجنبه وإبعاده عنا و الزوغان منه. فنحن غالباً ما نرى الألم، سواء كان جسدي أو نفسي، كدخيل غير مرحب به متطفل ومقتحم لحياتنا ، كأمر لا يجب تواجده. من الصعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً، أن نرى في الألم شيئاً إيجابياً. فهو يجب أن يتم استبعاده بأي ثمن.
إن كان هذا بالفعل هو اتجاهنا التلقائي نحو كسرنا فلا عجب من أن مصادقته تبدو للوهلة الأولى نوع من الماسوشية واستعذاب الألم. إلا أن ألمي في الحياة قد علمني أن أول خطوات الشفاء ليست ابتعاداً عن الألم بل بالأحرى نحو الألم. حين يكون كسرنا، حقيقة، جزء لصيق وجوهري من كياننا، تماماً كالجزء الخاص باختيار الله لنا ومباركته إيانا، علينا أن نجرؤ على مغالبة مخاوفنا ونتصادق معه. نعم، يجب أن نجد الشجاعة لنعانق كسرنا وأن نحول أكثر عدو مخيف لنا إلى صديق، ونعلنه رفيق حميم لنا. إني مقتنع بأن الشفاء عادة ما يكون صعباً لأننا لا نريد أن نعرف الألم. وهذا ينطبق على كل أنواع الألم، إلا أنه ينطبق بالأكثر على ألم الانكسار الإنساني. إن الضيق والعذاب والألم الشديد الذي ينتج عن الرفض والانفصال والإساءة والإهمال والاستغلال العاطفي لا يؤديوا إلا العجز والشلل لنا متى أخفقنا في مواجهتهم واستمررنا في الجري والهرب منهم. إن أردنا إرشاداً في وسط معاناتنا، فلابد أولاً أن يكون إرشاداً يقودنا نحو ألمنا ويجعلنا على إدراك بأننا لا يجب أن نتجنبه بل أن نصادقه.

ثاني تجاوب لنا مع كسرنا هو أن نضعه تحت البركة. غالباً ما يكون من المخيف مواجهة كسرنا لأننا نحياه تحت اللعنة والشقاء (أن نعيشه كبلاء). وأن نعيش كسرنا كشقاء وبلاء فهذا يعني أن نختبره كتأكيد لمشاعرنا السلبية تجاه أنفسنا. كأننا نقول لأنفسنا "طول عمري أقول لنفسي إن مافيش فائدة مني وإني ماليش لازمة، ودلوقت إتأكدت بعد كل إللي بيحصل لي ده؟" هناك دائما شئ في داخلنا يبحث عن تفسير لما يجري في حياتنا، وإن انصعنا لرفضنا لذاتنا فإن كل سوء حظ سوف يقابلنا سيقوم بتعميق هذا الإحساس برفض الذات. وهكذا إن بلينا أنفسنا أو سمحنا لآخرين بذلك فسوف يكون من السهل جداً أن نفسر ما نختبره من كسر كتعبير أو تأكيد على هذه الشقاء. وقبل أن ندرك نكون قد قلنا لأنفسنا "مش قلت لك مافيش فائدة، كنت عارف وأدي الأيام أثبتت لي."
إن الدعوة الروحية الكبيرة لأبناء الله المحبوبين هي أن يسحبوا كسرهم من تحت ظل هذه اللعنة وأن يأتوا به إلى نور البركة. وهذا الأمر ليس بسهولة التحدث عنه. فقوى الظلمة حولنا عاتية، وعالمنا يجد من السهل مناورة واستغلال الأشخاص الذين يرفضون ذاتهم أكثر من هؤلاء الذين يقبلون ذاتهم. ولكن متى استمررنا نسمع بعناية الصوت الذي يدعونا أحباء صار من الممكن أن نحيا كسرنا، ليس كتأكيد على مخاوفنا من أننا بلا قيمة بل كفرصة لتنقية وتعميق البركة المستقرة فينا. إن الآلام النفسية والجسدية التي نحياها تحت البركة يختلف مذاقها جذرياً عن الآلام النفسية والجسدية التي نحياها تحت البلاء. فإن حِمل صغير نراه كعلامة على أننا أشخاص بلا قيمة يمكنه أن يأتي بنا إلى الاكتئاب وحتى الإقدام على الانتحار. بينما أحمال كبيرة وثقيلة تصير سهلة وخفيفة حين تـُعاش في ضوء البركة. ما كان غير محتمل يصبح تحدي مشجع. ما كان سبباً للاكتئاب يصبح مصدراً للتنقية. ما كان يبدو عقاباً يصبح تشذيباً رقيقاً. ما كان يبدو رفضاً يصبح تشارك عميق.
وهكذا تصبح المهمة الكبرى هي أن نسمح للبركة بأن تلمسنا في انكسارنا، فيصير كسرنا تدريجياً انفتاحاً نحو قبول أنفسنا كمحبوبين. وهو ما يفسر لماذا يُختبر الفرح في وسط المعاناة. إنه فرح التلمذة والتنقية والتشذيب. حيث يختبر المحبوب المعاناة كطريق للتشارك العميق الذي يرنو إليه، تماماً كما الرياضي الذي يختبر الألم وهو في حلبة السباق، وفي ذات الوقت يتذوق فرح الاقتراب من الهدف. هنا فقط لا يصير الفرح والألم ضدان بل وجهان للرغبة الواحدة في النمو إلى ملء حياة المحبوب.

الأب هنري نووين

من كتاب " حياة المحبوب"

 

ترجمة: مشير سمير
يُسمح بإعادة نشر المحتوى بشرط ذكر المصدر واسم الكاتب والمترجم