التصالح مع الضعف وقبول ما لا نستطيع تغييره

د. بول تورنييه ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

(ملحوظة للمتصفح: هذه الفكرة طويلة بعض الشيء، ونظراً لأهميتها لم نستطع اختصار أي جزء منها.
أيضاً ينبغي التنويه عن الاحتياج لقراءة الكتاب المقتبس منه ككل للتعرف على المعنى السيكولوجي، الذي يقصده الكاتب عند استخدامه لكلمتي "القوي" و "الضعيف"، وهو ليس معنى روحي، وإلا فقد يُساء فهم الفكرة كلها.
يمكنك نسخ هذه الفكرة ولصقها بملف خاص على جهازك لقراءتها في وقت لاحق)

 


نتذكر اختبار القديس بولس،الذي تضرع لله ثلاث مرات أن يفارقه مرض ما لكنه تلقى الإجابة: "تكفيك نعمتي" (2كو9:12). نعم، وأحيانا ما تكون القوة النابعة من الله -نعمته- تشفي؛ وأحيانا ما ترفعنا فوق ضعفنا؛ لكنها أحياناً أيضاً ما تترك ضعفنا معنا وتمنحنا قوة مختلفة تماماً- قوة قبول الضعف.

إن الإيمان لا يخلصنا من جميع أمراضنا. ولا يحررنا في هذا العالم من طباعنا الطبيعية (السيكولوجية).
الخطوة الأولى نحو تغلب المرء على ضعفه هي قبوله. في الفصل الرابع (من هذا الكتاب) وصفت الميكانيزم التراجيدي الذي كثيراً جداً ما يفاقم حالة من يعانون من شكاوى نفسية: أن الحماس الشديد الذي يجاهدون به لإخفاء ضعفهم هو الذي يدفعهم إليه بالأكثر. وهذه هي الحلقة المفرغة التي تدمر الإيمان. ومع ذلك، فلا شئ سوى خيبة الأمل، وأخيراً التمرد و الشك، هو الذي ينتظر محاولة أن نجد في الإيمان ما لا يمكن أن يقدمه، أي الخلاص من طبيعتنا البشرية، من الضعف المتأصل الذي يبقي قرعتنا في هذه الحياة، أو من الضعف الذي يكون خاصاً بالفرد لأنه قد ولد به.
الإيمان لا يخلَص تماماً شخصاً مفرط المشاعر من ميله الأساسي للعاطفة. لكنه يحرر من الخوف من عاطفته التي تجعله أكثر عاطفية. الإيمان لا يخلص شخصاً حساساً من حساسيته الأساسية؛ لكنه يحرره من خوفه من المعاناة، التي تجعله أكثر حساسية.
الإيمان يساعدنا أن نقبل طبيعتنا، أن نحمل أثقالها كصليب، أن نقدمها لله لاستخدامها في خدمته، وان نخرج منها ببعض الخير وليس مجرد المعاناة.
بهذه الكيفية فإن الشخص العاطفي، بدلاً من أن يتمرد ضد عاطفيته، فإنه – وفقا لتعبير بيرجسون - قد يحولها من صورتها الضارة من "الاهتياج السطحي" إلى صورتها الخلاقة من "الحساسية العميقة".

الإيمان يقودنا لقبول أنفسنا، وقبول الآخرين، تماماً كما يقبلنا الله جميعا كما نحن.
علاوة على ذلك، هناك أمراض بدنية ونفسية لا يمكن أن يحررنا منها أي علاج طبي أو نفسي. فبدلاً من أن نسمح لها بأن تصير هواجس لنا، يمكننا في منظور الإيمان أن نستمد منها المنافع. أحد زملائي يعاني من قصور جنسي يمنعه عن الزواج. ربما يتولى محلل نفسي محاولة علاجه، رغم أني أشك في ذلك، حيث أن معظم الأطباء النفسيين المميزين لديهم حكمة كافية لإدراك حدود طرقهم العلاجية في حالات معينة. وبعدها لا يكون لديهم ما يمكنهم عمله لأنه ليست لديهم إجابة أخرى يمكنهم تقديمها. أما حل هذه الحالة المحددة فليس نفسياً بل روحياً، وقد وجده زميلي بالفعل. وهو أن هدف هذه الحياة ليس هو الصحة بل حمل الثمر. فرغم حرمانه من الاتزان الطبيعي الذي يقدمه إشباع الغريزة الجنسية في الزواج، نال بالإيمان اتزانا مختلفا – إعلاء غريزته بزواجه بالعلم، وهو يعتبر عزوبته تلائم قصد الله من أجله لدرجة أنه قد يكرس نفسه للأبحاث العلمية بصورة لم تكن لتتاح له إن كان قد تزوج.
وهذا أيضاً هو الحل المناسب للفتيات غير المتزوجات. فأن يقترح أحدهم أن يتورطن في "علاقات متحررة"فهو يغرقهن – بغض النظر عن أية اعتبارات أخلاقية – في مشكلات نفسية فيها الفتاة هي المتألمة الأساسية. وأن يقترح آخر أن يقبلن قرعتهن دون شكوى هو أن يحكم عليهن بالتوتر الأخلاقي والنفسي الملازم لاتجاه عدم الشكوى – وهذا رد فعل قوي شامل. أما أن تنصحهن بالتسليم للقضاء والقدر من الناحية الأخرى فهو أن تفتح الباب أمام ردود الأفعال الضعيفة. و لكن منذ اللحظة التي يتمكنَّ فيها من اعتبار عزوبتهن لا كمصير محزن كئيب بل كدعوة من الله، يدعوهن فيها لحياة الخدمة، خدمة كتلك التي يصفها القديس بولس في حالته الشخصية، فسوف يتغير شكل حياتهن. ولا شك أن قليلات جداً ينجحن في هذا. ولا شك أيضاً، بالمعنى الذي تكلمت به في هذا الكتاب عن حالتنا البشرية، لن يمكننا أبداً من التأكد من حل المشكلة بصورة مستمرة. ومع ذلك، فهذا هو الحل الوحيد الذي يأتي بالنصرة الحقيقية.

إلا أن هناك صلباناً أثقل حتى من حملها: صلبان الحب غير المتبادل، صلبان دعوة إلهية مفقودة، صلبان سرَّ عائلي تراجيدي، أو صلبان خطأ يتعذر إصلاحه. كثيراً ما قال لي أكثر من شخص عقب اعتراف مؤلم: "أنت تفهم الآن لماذا أنطوي على نفسي. فأنا لا يمكنني أبداً أن أقيم صداقة حميمة مع أي أحد: فماذا لو عرف ما فعلت!" ومع ذلك، قد يصادف المرء بعض القادرين على التغلب على هذا الشعور، ويحقق إحساساً عميقاً بدرجة كافية بغفران الله يمكّنه من جديد على التواصل الحر مع أصدقائه.
في هذه الصراعات الأخلاقية الرهيبة، لا تكون القوة النفسية هي الضعيفة فقط، بل أيضاً "قوة التدين" كما يطلق عليها أحياناً. فالمطلوب هو القوة الحية النابعة من العلاقة الشخصية مع يسوع المسيح. وسوف يستوعب القارئ دون شك المقارنة التي أعملها هنا. "فالتدين" ما زال به شئ عقلاني، أو عاطفي، أو مجرد عنه؛ حتى إن كان أحياناً شيئاً مُعيقاً بسبب كل ما قيل أو كتب عنه. فلإشباع العطش الشديد لدى النفوس المعذبة ليس أمامك إلا أن تأخذهم إلى بئر المياه الحية، إلى الشركة الحقيقية مع المسيح.
وهذا ما تقصده امرأة تنتابها صور قلق خطيرة عندما تكتب لي في رسالة: "ليست المسيحية عموماً هي التي أشتاق أن أملكها، بل الله نفسه، بطريقة شخصية تماماً." والله الشخصي – الله معنا – هو يسوع المسيح. وهذا تحديداً هو معنى الإنجيل: تجسد الله نفسه في صورة إنسان، بكل صور القلق ، والأتعاب، والدموع التي يكون الجسد البشري وارثاً لها. كما أن الله القوي هو الذي نجرؤ أن نقترب إليه حتى ونحن في غاية الضعف.

افتح الكتاب المقدس، وهذا ما تراه: فقد كان قاسياً عنيداً مع أقوياء، ومقتدري، وأفاضل، وأغنياء، وعظماء هذا العالم. وهذا بالطبع لم يكن بأي روح عداء، بل كي يسحق تلك الثقة بأنفسهم التي كانت تغلق أمامهم طريق الاتضاع. أمّا مع الضعفاء، الذين كان المجتمع يدينهم ويسحقهم، ومع الفقراء، الذين كان يطرحهم مرضهم أو خطيتهم إلى اليأس، فقد كان يحمل لهم فقط كلمات الرقة، وإشارات التشجيع، وكان ينظر إليهم بطريقة تطرد كل ضيقهم.
من المستحيل أن أكتب عن الأقوياء والضعفاء دون أن أؤكد بكل توضيح على الطريقة التي يقلب بها يسوع المسيح مقياس القيم البشرية رأساً على عقب. فمهما كانت شركتنا معه قوية، فلن ننجح أبداً في أن نكون أحراراً كما كان هو من التحيزات الاجتماعية التي تجعلنا نوقر الأقوياء ونحتقر الضعفاء. كثيراً في تأملي اليومي ما يكشف لي الله أن أحد اتجاهات شعوري بالتفوق قد تسلل إلى كلماتي المشجعة لأحد منبوذي الحياة، رغم صدقها وأمانتها.

ربما يكون بعض قرائي قد شعروا الآن بخيبة الأمل حين ذكرت أن الإيمان لا يخلصنا من طباعنا الطبيعية. ولا شك أن بعضاً آخر قد احتجَّ في قلوبهم. فكيف يتماشى هذا التأكيد مع شهادة عدد هائل من المسيحيين الذيّن أعلنوا أن حياتهم قد تغيرت تماما منذ كرسوها ليسوع المسيح؟
الواقع أن قوة الله لا تلمس فحسب حالتنا الذهنية؛ لكنها متجسدة فينا، مغيرة الكثير من سلوكنا الفعلي. والمرة الأولى التي انكشف لي هذا كانت حين قابلت أحد زملاء دراستي القدامى. وقد كان لا يلعب أي دور مهم في أنشطة الطلاب لأنه كان خجولاً انسحابياً وغير محدد الهدف. وكان قد سافر للخارج ولم أسمع أي شئ عنه سوى إشاعة تتحدث عن تجديده. ولكن عندما رأيته من جديد تحيرت للغاية. فقد كان يتألق بسلطة جريئة لدرجة أنني تعرفت عليه بالكاد. وقد همس أحد أصدقائي في أذني: "الآن أومن بالروح القدس!"
منذ ذلك الحين رأيت حياة كثيرين تتغير جذريا ،وأحيانا بسرعة شديدة. ومع ذلك لابدّ أن أضيف هنا ما أؤمن بحقيقته أيضاً: مهما كان التغير الذي يعمله ذلك الإيمان في حياتنا تغيرا حاسماً، فإن كلاً منا يعيش حياته الجديدة بأسلوبه الطبيعي. وشيئاً فشيئاً فإن ملامح طباعنا السائدة تؤكد على نفسها من جديد بشكل أو بآخر. وباستثناء حالة الارتداد الروحي، فإن حياتنا تبقى حقاً مختلفة عما كانت عليه قبل أن يحدث التغير، لكنها تحتفظ بطابع شخصي معين. وفي أية لحظة قد يقترب إلهام ما من ردود أفعالنا الطبيعية، ولكن ليس بغرض أن يكبتها تماماً. فالشخص الخجول يكون قد تغلب على خجله، ويكون قد وقف وتحدث بسلطان أمام جماهير غفيرة. وفي غمرة فرحه بتحرره ربما يكون قد اشترك بحماس في الحياة العامة. لكننا سنجده يوماً ما مشتركاً من جديد في أحد أشكال الخدمة المسيحية المتضعة. وهذا ليس خجلاً بعد: فقد كان يمكنه بسهولة أن يعود لدائرة الضوء مرة أخرى. لكن طبعه لم يتغير، وما زال يضفي على عمله طابعه المميز. ومع ذلك، لم يعد هذا يشكّل إعاقة، بل موهبة طبيعية ترشحه لخدمة الله بطريقته الخاصة.

بنفس الكيفية يمر رجل قوي باختبار روحي عميق، ونتيجة ذلك يقلع عن النشاط المفرط المتباهي الذي كان مشتركا فيه. فهو يدرك إلى أي مدى كان ينخرط في دوامة هذا النشاط المحموم حتى لا يضطر لمواجهة مشكلاته؛ والآن يشعر أن ما يحتاجه هو أن ينسحب و يهدأ كي يبحث عن حلها. لكن تركيبة ذهنه لن تسمح له بالبقاء في حالة التأمل لفترة طويلة. فمن الاقتناعات الجديدة التي تتكون من خلال تأملاته تنبثق خطط جديدة، وسرعان ما يلقي بنفسه مرة أخرى كي يحققها.
لن يكون نشاطه مثلما كان من قبل. فسوف يكون أكثر استرخاء، وأكثر هدوءاً، وأكثر إثماراً، ومع ذلك يكون قد عاد إلى السيادة الطبيعية لطبعه. يوجد هنا شئ ما أكثر من التفاعل بين حياته الطبيعية والحياة الملهمة الجديدة. فما حدث هو أن مواهبه الطبيعية قد وضعت في خدمة حياته الجديدة، وقد "توجهت" لهذا الغرض. وهكذا يكون طبعه قد تقدس إلى حد ما.
ومع ذلك، لن يكون من الحق بالنسبة لي أن أقدم هذه العملية فقط بهذه الصورة الإيجابية. فما قاله باسكال مازال حقيقياً: "إن طردت ما هو طبيعي، سيلحق بك." هناك ثبات معين في ميولنا الفطرية رغم كل التقلبات التي يأتي بها الإيمان.

عندما أتأمل حياتي الشخصية، وحياة المسيحيين الذين أعرفهم، فدائماً ما أجد نفس الاتزان والتفاعل بين العوامل الروحية والطبيعية التي تتحكم معاً في أفكارنا، ومشاعرنا، وأفعالنا. هل يفضل القارئ قصة خيالية يصير فيها الأقوياء ضعفاء والضعفاء أقوياء؟ أو قصة يصير فيها كل واحد قوياً في النهاية؟ وبصورة خاصة، هل سأحبط الضعفاء بأن أخبرهم أنه رغم الانتصارات المتكررة الحقيقية على ضعفهم، فسوف يكون عليهم دائماً أن يعملوا حسابه في هذه الحياة؛ وأنه سيكون لديهم دائماً الميل الفطري الذي كنا نناقشه في بداية هذا الكتاب؟ إن الأوهام يمكنها أن تكون أكثر إحباطاً من أي شئ آخر.
إن كانت حياتنا موجهة بالروح، فقد نعتمد على الانتصارات المحددة الحقيقية على طبيعتنا، ولكن لا يمكننا أن نتوقع أبداً انتصاراً كلياً نهائياً. فمن الخطأ أن ننكر الانتصارات الجزئية مثلما يكون من الخطأ أن نبالغ في أهميتها. فطبيعتنا يمكنها أن تتغير جزئياً؛ ولكن يبقى جزءُُ منها لابدّ أن نقبله ببساطة كما هو. فأن نفضل القصة الخيالية هو في الواقع أن نتمرد على حالتنا البشرية، وأن نرفض أن نحمل صليبنا، وأن نسعى لنعرف في هذه الحياة التحرير الكامل الذي سيكون لنا فقط في الحياة الأخرى.
أوضحتُ بالمثل، في كتاب آخر، أن الإيمان الأكثر أصالة ليس هو الإيمان الذي يدّعي أنه مستثنى من الشك، بل هو الإيمان الذي يتلمس طريقه من خلال الكثير من حالات التردد، والأخطاء، وخيبات الأمل، والبدايات الخاطئة.

هذه هي حياتنا حقاً، مزيج عجيب من انتصارات غير مرجوّة وهزائم غير متوقعة. فنحن لا نعرف أبداً أمان الالتزام الروحي دون الارتداد. كما أن الإلهام عابر، لكنه دائماً ما يتدفق من جديد. فنادراً ما ضللنا طريقنا دون أن يردّنا الله. كما أنه بفقد الطريق والعثور عليه من جديد بصورة مستمرة فإننا نتذكر باستمرار ضعفنا ونتذكر قوة الإيمان.
وهذا هو الموقف الغريب الذي يجد المسيحي نفسه فيه، والذي تصفه روجر ميل Roger Mehl بتعبيرات فلسفية؛ موقف المسيحي المولود في حياة جديدة تكون واقعية بالفعل في هذه الحياة، لكنها ستكون كاملة وبلا عيب فقط بعد موته وقيامته. تعلّق ميل Mehl أنه في الكتاب المقدس "بعض الفقرات التي تتحدث عن هذه الحياة الجديدة التي تتعلق بالحياة الآخرة، بينما بعضها الآخر تتعلق بالوقت الحاضر. فالأسفار الكتابية تتحدث عن عظمة الإنسان الجديد من الناحيتين: كشئ سوف يحدث وكشئ تم تحقيقه بالفعل." وهنا يكمن "سر الإنسان الجديد، الحقيقي والمخفي، الحقيقي ولكن ليس المستعلن بعد... فالإنسان الجديد حقيقة موضوعية يدركها الإيمان... وسوف تستعلن جدته فقط في اليوم الأخير. ولكن رغم أنه مخفي، فإنه يعمل بالفعل في البشر: فهو يأتي بثمره دون أن نكون قادرين أبداً أن نضفي على إظهاراته التجريبية قيمة معيارية أو إختيارية."

هذه مهمتنا، أن نحارب، أن نتماسك ضد ميولنا الفطرية لردود أفعالنا القوية أو الضعيفة، تلك التي مُنحنا إياها عندما وُهبت لنا الحياة نفسها، والتي ستبقى معنا طوال حياتنا. لكن المعركة لن تكون نفس المعركة كما كانت من قبل. فالإيمان المولود فينا نتيجة أحد الاختبارات الروحية الملموسة إنما يبقى حتى إن ارتددنا للوراء. أما ما يتغير جذرياً فهو مناخ حياتنا. فرغم أن ميولنا الفطرية ستبقى معنا، فسوف نجد من الناحية الأخرى أنه من الممكن أن نتخلص من الدوائر المفرغة التي وصفتها من قبل، والتي تفاقم تلك الميول باستمرار. بعد ذلك، إن كنا مرتعبين من أننا لا نزال نكتشف في أنفسنا ردود أفعال طبيعية قوية أو ضعيفة، فبغضّ النظر عن شعورنا بخيبة الأمل، سوف نراها كفرص لصور جديدة من التحرر.
بهذه الملاحظة أودّ أن أختم كتابي. الحياة المسيحية ليست اختباراً جذرياً حاسماً يتم مرة واحدة إلى الأبد.لكنه سلسلة متصلة من الاختبارات تتحول فيها بنعمة الله حتى الهزيمة والارتداد إلى انتصارات جديدة.

الكتاب المقدس في واقعيته لا يقدم لنا صورة مثالية عن صفوة من البشر خالية من كل الضعف الطبيعي؛ لكنه يكشف لنا أشخاصاً مثلك ومثلي يحملون كل أثقال طباعهم الفطرية. فهناك الأقوياء كإيليا، وهو يتعقب أنبياء البعل بحماس. وهناك الضعفاء كإرميا الذي تحاصره تجربة أن يبقى صامتاً. وهناك الشخصيات المليئة بالتناقضات كيعقوب، أو داود، أو القديس بطرس، الذين يتأرجحون بين الدوافع السامية والخيانة.
وإن كنا نعاني من عبوديتنا المستمرة لطبيعتنا، فإن الكتاب المقدس يكشف لنا أنه ليس علينا بالضرورة أن نتحرر منها كي نختبر قوة الله. فالله يستخدم هؤلاء الأشخاص كما هم. فهو يعزي إيليا حين يكون يائساً من فشل معجزاته. ويشدد إرميا ويخرجه من صمته. ويكشف للقديس بطرس إنكاره له ويدعوه ليكون قائداً للكنيسة.

يسوع المسيح وحده، الله الظاهر في الجسد، هو من يظهر كإنسان بالتمام، ومستثنى تماماً من الانعكاسات التي وصفناها تحت مسمى ردود الأفعال القوية أو الضعيفة. فهو حرّ دائماً، لأنه دائماً ما ينقاد بالروح. ومع ذلك فإنه يتشارك مواطن ضعفنا و مواطن قوتنا: تعبنا، وخيبات أملنا، ويأسنا؛ حماسنا، وفرحنا، وغيرتنا. لقد ظلّ صامتاً أمام بيلاطس، لكنه رفع سوطاً في ساحة الهيكل. كان يتحنن على الضعفاء. لكنه كان يهاجم الأقوياء بعنف. صرخ في عذاب على الصليب، لكنه أعلن ألوهيته بسلطان. ومع ذلك فإن كلماته وأفعاله لم تكن لها قط السمة الآلية لردود الأفعال النفسية. فهو ليس قوياً وليس ضعيفاً، بالمعنى البشري والطبيعي لهاتين الكلمتين.
إنه حي. فإن فتحنا قلوبنا له سيملأها بحضوره. وما دام يحيا فينا هكذا، نكون محررين من ردود أفعالنا الضعيفة، بينما نكون في نفس الوقت أكثر إدراكاً لضعفنا عن أي وقت مضى. كما نكون محررين من ردود أفعالنا القوية، بينما ننال منه في نفس الوقت قوة تتخطى المقارنة.
لأنه وحده يستجيب للعذاب المتأصل فينا الذي نخفيه وراء ردود أفعالنا الظاهرة. فمن خلاله يمكننا أن نقبل ضعفنا وأن نتغلب عليه. ومن خلال وجودنا في المجتمع يمكننا أن نساعد على كسر الدوائر المفرغة التي تطرحه في الفوضى وتدفعه للحرب، والمعاناة، والظلم. ويمكننا أن نشير له بالعلاج الحقيقي لجميع أمراضه: الإيمان بيسوع المسيح.

د. بول تورنييه
من كتاب "الأقوياء والضعفاء"