الزمن ومعرفة الله

الأب هنري بولاد ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

نحن نحتاج إلى وقت لنعرفه ونكتشفه. وهذا ما يفترض أننّا نعطي أنفسنا وقتاً للصلاة. فالله لا يكشف عن ذاته للشخص المتعجل. ولكي ندخل إلى سره نحتاج إلى الوقت، كل الوقت. تذكروا سلم يعقوب: نام يعقوب وفي حلمه رأى سلماً يصل السماء والملائكة تصعد وتنزل عليه. استيقظ وهتف: "كان الله هنا ولم أكن أعرف" (تك 28: 16)
أفكان على يعقوب أن يتوقف ويستريح وينام ويحلم لكي يدرك فجأة أن الله كان هنا! وهذا شأننا. فنحن نشعر بأن الله غائب عناً: "أين أنت يا رب. اكشف عن نفسك". ونتمنى أن يكشف لنا تعالى عن ذاته كما يشتغل النور حين نضغط على المفتاح. فنحن نعيش في عالم الميكنة، كل شيء فيه يسير بالتشغيل، وفى عصر التكنولوجيا والإلكترونيات والمفاتيح. ولذلك نريد صلاة سريعة وفعالة وآلية: "يا رب، قل لي ما تريده وبسرعة دون إبطاء". كما لو قال الخطيب لخطيبته: "قولي لي بسرعة هل تحبينني أم لا؟". ونحن نريد تأملات داخل حبوب في ثلاث دقائق، أو نصف تأملات. ومادام كل شيء في عصرنا مركزاً، فلماذا لا تصنع الكنيسة والعلماء كبسولات صلاة نبتلعها عند الصباح؟
إن هذا لأمر مستحيل لأن الصلاة كالحبَ، في حاجة إلى الزمن. فبيننا هنا، شباب جامعَيون يحاولون بصعوبة وعناء أن يخّصصوا نصف ساعة يومياً للصلاة. ويجتمعون أسبوعياً ويتساءلون: "هل استطعنا تحقيق ذلك؟ وكيف عشنا هذه الصلاة؟" إنه لأمر صعب جداً. فنحن مشغولون في الدرس والجامعة والامتحانات، ومع ذلك نحاول الالتزام والصمود" وإنني أحاول مع الشباب والأقل شباباً أن أدخل فيهم فن التأمل الذي ينمي معنى المجانيَة. لأن الأساس في حياتنا هو المجَانيَة: فاللعب مجانيَ، والحبَ مَجانَي، والفَن مَجانَي، والشعر مَجانيَ، والصلاة مجانية أيضاً. والمجاني يصنع الإنسان ويبنيه ويغَذيه.
وطالما لم نعرف كيف نأخذ من يومنا وقتاً مجانياً للصلاة والتأمَل والمشاهدة والحلم والحَب، فإننا رجال آليون، وآلات وكائنات جافة. ففي هذه الأوقات يعود الإنسان إلى ينبوعه فيسقى كَل كيانه. وحينئذ، يصبح عمله أكثر إنتاجية، وأعصابه أكثر صدقاً، وحبَه أكثر حرارة. لماذا؟ لأنه قضى نصف ساعة في الصباح مع الله، ينبوع الإنسان. فالوصول إلى النبع يحتاج إلى وقت، وهذا لا يتم في خمس دقائق. لأنَه في الدقائق الخمس الأولى من الصلاة، يكون المرء متوتَرَا ومشدود الأعصاب. فالدخول إلى قلب الصلاة يتطلب وقتاَ.
حين يكون لديك سائل عكر تريد له الشفافيَة، وحركته بالمعلقة لتتعَجل العملَية، فإنك تريده عكراً. وكلما تدخًلت، تأخرت عملية صفائه. عليك إذاً أن تترك السائل وحده بعض الوقت، فترسب الأوساخ في قاع الكأس ويصبح السائل صافياً شفاقاً.

يقول لي بعض الناس: "أرنا الله، أثبت لنا وجود الله". فأجيبهم: "صبراً، إن الله اختبار علينا القيام به". – "أي اختبار؟" - "اهدأ" ـ "ولماذا عليَ أن أهدأ؟" ـ "سترى" ـ "أرى ماذا؟" ـ "سترى الله ينكشف لك". فأنا لا أستطيع أن أقدمه لك على طبق. إن لم يتدفق من عمق ذاتك، لن يكون هذا الإله حقيّقاً، بل هو كلمة أو فكرة أو صنم. فالله حقيقة تخرج من عمق الكائن وتملأ الإنسان.
وهذا لا يمكن شرحه لأنه أمر يُعاش. إنها تجربة علينا القيام بها يومياً، لأن الله لا يُعطى مرة واحدة، ولا يكفي أن يُثبت وجوده مّرة واحدة، وإن لم يكن الله جديداً في كّل يوم فهو ليس الله، بل شيء آخر. لأن الله جديد دائماً، ويولد دائماً.
والصلاة أيضاً يجب إعادتها، والحبّ أيّضا يجب تجديده. "ما من شيء يستطيع الإنسان أن يتمّلكه للأبد". هذا ما كان يقوله لويس أرغوان.

مشكلة الإنسان مع الزمن
وختاماً، أريد أن أذكر لكم نصاً لأنطوان بلوم الذي صار راهباً ناسكاً.
"لا يمكننا الصلاة إلاّ إذا وُجدنا في حضرة الله في حالة هدوء وسلام داخليّ يحّرراننا من فكرة الزمن. ولا أقصد هنا الزمن الموضوعيً الذي يقاس، بل الانطباع الشخصيّ بأن الوقت يمرّ وأنّه ليس لدينا وقت"
فإذا دخلت في جّو الصلاة أو الحّب أو اللعب وأنت تنظر إلى ساعتك، كف عن القيام بهذا. لا تصلّي ولا تحبّ ولا تلعب لأنّه لا داعي لفعل ذلك، فأنت تضيع وقتك. وحين تبدأ الصلاة اضبط المنبه على الوقت الذي تريد تخصيصه للتأمّل، وانس كل شيء. إن هذا يشبه النوم، إن قلت إنّك تريد أن تنام جيّدا. والنوم كالصلاة: استسلام علينا أن نفقد فيه مفهوم الوقت. وجميع النشاطات الحيوية تفترض نسيان الوقت ونسيان الساعة.
أعود إلى نصّ أنطوان بلوم:
"نعلم جميعاً ما يحدث حين نكون في عطلة. ففي العطلة لا عمل لدينا. وإن مشينا بسرعة بخطى بطيئة أو ركضنا فلإننا لا نشعر بأننا مستعجلون، لأن المهم في ذلك الحين هو النزهة لا الهدف الذي نصبو إليه".
في العطلة يمكننا أن نمشي بسرعة، وأن نجري وأن نقفز. ونقوم بكلّ هذا في غاية الانفراج لأنّناً لسنا على عجلة من أمرنا. لماذا؟ لأنّنا لا نسعى إلى بلوغ مكان محّدد. فلنتعّلم إذاً كيف نعيش دائماً وكأننا في عطلة. ستقولون لي: "هذا مستحيل". هل أنتم متيقنون من أن هذا غير ممكن؟ هل حاولتم ذلك؟ أمّا أنا فأقول لكم: إن هذا ممكن. فأنا دائماً في عطلة، أي أنّ كل ما أعمله أقوم به كما لو كنت في عطلة. فهناك طريقة في السير أثناء العطلة لا تعني بالضرورة السير البطيء، لأنّني أستطيع أن أسير بسرعة ولكن بدون عصبيّة أو استعجال. فهناك فرق بين السرعة والاستعجال.
فالاستعجال هو سبب التوتر والاكتئاب. أمّا السرعة فيمكننا القيام بها في هدوء وارتخاء أعصاب وبدون توتر. ففي حياتي اليومّية، أقوم بكلّ ما علّي عمله دون أن أشعر بأن الوقت يستعجلني. وربما تقولون لي: "لكنّ الوقت يستعجلنا". أقول لكم: "هذا سبب إضافي لكي تقوموا بما عليكم فعله في هدوء وسكينة وتأن".
حاولوا أن تلبسوا ثيابكم وأنتم في عجلة من أمركم. فماذا يحدث؟ تسقط الزرار ويمّزق الثوب والقميص، وبدل أن تربحوا الوقت تخسرونه. حاول أن تلبس بنطالك أو رداءك الصوفيّ على عجل. ماذا سيحدث؟ سيصعب عليك إدخال ساقك فيه أو ستخطئ في اتجاه اللبس، وستلبس رداءك الصوفي مقلوباً، وستستهلك خمس دقائق إضافيّة. وهذا ما يثبت أنّ هناك إيقاعاً في الوجود علينا اكتشافه، وهو نمط إيقاع العطلة. هذه هي حكمة الزمن.
في الزمن حكمة كبيرة. ولأننا لم نجدها فأّننا نعيش في اكتئاب وتوتر وعصبية واضطراب وانفعال وخصال هجومّية تميل إلى النزاع. ولو عشنا على نمط غير هذا الذي نعيشه، لأنجزنا أعمالنا بسرعة أكبر وبوجه أفضل. فلو حصلتم على هذا النمط الداخليّ المرتاح، نمط العطلة، ستقومون بكلّ عمل وكأنكم تلعبون. فيصبح عملي لعبة، ومطبخي لعبة، وذهابي إلى السوق لعبة، ومحاضرتي لعبة، ولقائي لعبة. كل شيء يصبح لعبة لأنني في عطلة دائمة. فأتذوّق ما أقوم به، فيفرحني ويريحني، ويتم كل شيء على ما يرام.

كيف تكون سيد الزمان
أتابع نص أنطوان بلوم:
"ماذا نستطيع أن نفعل في هذا الشأن؟ هوذا تمرين أوّل: اجلس وقل: "أنا جالس، لا أفعل شيئاً، وأنا مصّمم على ألا أفعل شيئاً مّدة خمس دقائق". أرخ أعصابك في هذا الوقت وقل: "أنا في حضرة الله وحضرة نفسي وحضرة كل الأثاث الذي يحيط بي. أنا هادئ وبدون حركة.."
لقد قمت هذا الصباح بالتمرين التالي: لم يكن لديّ الكثير من الوقت للصلاة في الصباح. وفي الساعة العاشرة، حين وصلت إلى مكتبي، وجدت عملاً كثيراً جداً: نصّ عليّ أن أنقحه، وهذا ما يتطلب أياماً بكاملها، ومحاضرة عليّ تحضيرها، ورسائل كثيرة عليّ أن أكتبها. فقلت في نفسي: "سأصلي أولاً، ولن أقوم بأيّ عمل خلال ربع ساعة". كان يمكنني أن أعيش ربع الساعة هذه مثل أسد في قفصه: متوتراً وعصبياً ومرهقاً! ولكنّني، على العكس، قلت في نفسي: "إنّك تملك ربع ساعة عطلة، ربع ساعة بدون عمل، ربع ساعة لله، ربع ساعة لك، ربع ساعة للأحلام، ربع ساعة للحبّ".
بذّرت إذاً خمس عشرة دقيقة،من الساعة العاشرة حتى العاشرة والربع. ومن الصعب أن أقول لكم كم ربحت خلال ربع الساعة هذا. إنّه لأمر رائع! في العاشرة والربع، بدأت عملي بهدوء، وتم كل شيء على ما يرام. حاولوا أن تجّربوا هذا، حاولوا في ذروة توتركم وقلقكم وانشغالكم أن تقولوا: "لأعط نفسي خمس دقائق عطلة". ستقولون لي: "إنّ هذا لجنون"... كلاً، إنها الحكمة. أمضوا الدقائق الخمس هذه وأنتم تطلّون من النافذة. افتحوا الشباك وقولوا: "ها هي فراشة صغيرة تطير... ما أجمل طقس اليوم! مع هذه الغيمة الصغيرة في السماء الزرقاء، سأستنشق الهواء المنعش وأتأمّل جمال الطبيعة. وبعد خمس دقائق، سأجد أنّ العالم جميل، وأكون مستعداً لمتابعة عملي! وسيتم عملي بوجه أفضل بكثير ممّا لو بدأته مباشرة.

أعود إلى نصّ أنطوان بلوم:
"وحين تحصلون على هذا الهدوء والسكون، عليكم أن تتعلموا كيف توقفون الزمن، لا حين يبطؤ أو يقترب من التوّقف لوحده، بل حين يسرع ويًلحّ. وهذه هي الطريقة: أنت في عمل تظنه نافعاً، ومقتنع بأنك، إن توّقفت، ستتوقّف الأرض أيضاً عن الدوران. فإذا قّررت في لحظة ما أن تتوقّف، ستكتشف أموراً مثيرة!
ستكتشف أولاً أن الأرض لا تتوقّف عن الدوران، وأنّ العالم يستطيع أن ينتظر خمس دقائق، تشغل فيها انتباهك بشيء آخر...
فأول شيء عليك فعله هو أن تقول: "سأتوقّف عند الموضوع الفلانيّ، مهما حصل". وكما قلت لكم في بداية حديثي، لن يتوقّف العمل أبداً، ولن تنتهوا من عملكم أبداً. فإن لم تقولوا في أنفسكم: "سأتوّقف في الساعة الفلانّية مهما حدث"، لن تتوقّفوا البتة. لأن العمل لا نهاية له، وليس من سبب لإيقافه، اللهمّ إلاّ بفعل إرادي. فما ينقصنا هو الإرادة.

حسن استغلال الوقت
أعود إلى نصّ أنطوان بلوم:
"هذا الوقت يخصّ الله، وأنتم تجلسون في وقت الله هذا بصمت وهدوء وسكينة. سترون في بداية الأمر كم هذا صعبً. وتكتشفون فجأة أنّه من أوّل الضروريّات أن تنهوا كتابة الرسالة الفلانيّة، أو قراءة المقطع الفلانيّ. وفي الواقع، ستلاحظون بسرعة أنّه يمكنكم أن تأجلوا هذا العمل مّدة ثلاث دقائق، أو خمس دقائق أو حتى عشر دقائق، دون أن تحدث كارثة".
ثم يروي أنطوان بلوم كيف أنّه في بدء ممارسته مهنّة الطب، وبينما هو يعالج المريض، كان يفكر في الخمسة عشر مريضاً الذين في صالة الانتظار. ولم يكن يعير إلى ما يقوله المريض أذناً صاغية. ولاحظ في آخر الأمر أنّه كان يضيع بهذا وقتاً أكثر ممّا لو كان يركز انتباهه بهدوء على كل حالة مرضيّة أمامه. لنسمع ما يقوله: "في بداية ممارستي للطّب، كنت أظن أنّني أظلم المرضى الذين ينتظرون دورهم، حين يستغرق فحص المريض أمامي زمناً طويلاً. فحاولت في اليوم الأوّل أن أختصر فترة فحص المريض. ولاحظت في آخر النهار أننّي لا أذكر أيّ مريض فحصته، لأن فكري في عدد المرضى الذين ليسوا معي. وكانت النتيجة أننّي كنت أضطرّ إلى تكرار الأسئلة نفسها، وأعيد الفحص مّرتين أو ثلاث مّرات. وفي ختام الكشف على المريض لم أكن أدري إلى أين وصلت معه.
حينئذ اتضح لي أننّي أفتقر إلى الضمير المهنّي، قررت أن أتصرّف في العيادة كما لو أنّ المريض الذي أفحصه وحيد في العالم. وإن فاجأتني فكرة ضرورة الاستعجال، أجلس خلف مكتبي، وأتحدّث لمّدة بضع دقائق مع المريض عن الطقس والأمطار، لكي أمنع نفسي فقط من الاستعجال. وبعد يومين لاحظت أنّني لا أحتاج إلى استعمال هذا الأسلوب. فقد أصبح سهلاً عليّ أن أكون حاضراّ بكليتي للمريض الذي أمامي. ولاحظت أنّني، بهذا، أقضي مع المريض وقتاً أقل من ذي قبل. وقد سمعت ورأيت كلّ ما أريده".
فحين تتعلمون كيف تهدأون، يمكنكم أن تقوموا بأيّ شيء، وبأيّ نمط ، مع السرعة والاهتمام اللذين تتمنّونهما دون أن تشعروا بأن الوقت يضيع، أو يسبقكم بسرعته".

الأب هنري بولاد اليسوعي
من كتاب "الإنسان وسر الزمن"