التعليم والمرأة والمجتمع

دكتور أحمد عكاشة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

قبل أن نتطرق إلى الرسالة التي تبثها العملية التعليمية في مصر لبناتنا، يجب أن نتفق ولو بشكل عام على أن الموقف الاجتماعي من المرأة في مصر يختلف عن الموقف من الرجل، وأن هذا الاختلاف لا يبدأ في سن المراهقة مثلاً أو عند بلوغ سن الرشد، وإنما يبدأ من لحظة الميلاد. فالطفل الولد يأخذ مكانته الاجتماعية كرجل المستقبل، وله أن يتوقع حقوقاً معينة بمجرد كونه ذكراً، والمولودة البنت لها أن تتوقع سلسلة من القيود والممارسات والأدوار المرتبطة فقط بكونها بنتاً، وذلك منذ اللحظة الأولى من ميلادها دونما فرصة لها من إثبات ما إذا كانت تستحق المزيد. هذه التركيبة الفكرية هي الخطاب الاجتماعي المحدد للرجل والمرأة في مجتمعنا. ولن نختلف حول أنه لا مساواة بين الاثنين وأنها لصالح الرجل. ولن نختلف حول أن تبعية المرأة للرجل وأولوية الرجل على المرأة هي من القيم المبجلة في هذا المجتمع.. ولن نختلف حول أن الحرام قد يكون حراماً للمرأة ولكنه حلال للرجل. وأن هناك الكثير من التسويغات والتفسيرات التي تسوغ هذا التباين وتكرسه وهي في إجمالها ما تسير إليه بقيم المجتمع الذكوري.

فما هو الطريق الذي يرسمه النظام التعليمي في مصر؟ من هي الفتاة المصرية التي تصوغها مقرراتنا، وما المثل والقيم  التي تبثها المؤسسة التعليمية في بناتنا للقيام بأي دور في المستقبل؟


كانت هذه المقدمة ضرورية لتقديم ما هو تال في هذه المداخلة القصيرة والتي تستند إلى فرضيتين:

أولاهما تتعلق بديناميات العلاقة بين المدرس والتلاميذ. إن أسلوب التعليم في مصر يقدم دعماً للقهر الاجتماعي الواقع على الفتاة ثم المرأة. فنظام التعليم في مدارسنا يعتمد على قيادة من المدرس أو المدرسة تقوم بتلقين معلومات يقينية إلى التلاميذ، فلا يترك للتلاميذ مجال للوصول إلى الاستخلاصات من تلقاء أنفسهم ولا يجوز التساؤل عن صحة هذه المعلومات أو مناقشتها، وهو تقريباً ما يحدث في إطار التربية الأسرية للفتاة. فالصواب والخطأ منزلان لا يناقشان، والمسموح والممنوع مقدسان لا جدال فيهما، وكل منهما يقول إن هناك ما يجوز للولد ولا يجوز للبنت، وإن عقاب البنت أشد من عقاب الولد لنفس الفعل، وإن البنت حين تكبر تصبح مسئولة عن أخطائها ولكنها أيضاً مسئولة عن أخطاء الولد معها...الخ. الرسائل التربوية التي لا نتصور أن أحدنا غائب عنها، والإشكالية في هذه المسائل أنها غير قابلة للنقاش أو التفسير أو المراجعة، وبالتالي فإن البنت تتعرض في المدرسة والأسرة لنمط من التعامل يؤكد لديها ضرورة الانصياع للسلطة، ولأي سلطة، وأن مجابهة هذه السلطة أمر لا يجوز، فتتعلم مبكراً أن إعمال عقلها في الأشياء والقيم المحددة سابقاً ليس من أدوارها المقبولة اجتماعياً. فتشكل بذلك أجيالاً من النساء تقبل بالخضوع حتى وإن تعارض ذلك مع وجدانها واعتقادها، لأن في كسر هذا الخنوع خروجاً عن المجتمع وبالتالي لفظ منه. أما الولد فإن كان يتعرض في داخل المدرسة إلى نفس النمط التلقيني القمعي إلا أنه خارج أسوار المدرسة يجد خطاباً مختلفاً يقول له إنه قوام على الفتاة، قادر على التجربة والخطأ، مصرح له بالتجاوز، فيجد بديلاً عن الخطاب القمعي المدرسي. ولأن الإنسان بطبيعته يسعى إلى كسر القيود، نجد أن الصبي ينحاز إلى الخطاب الاجتماعي والأسري، فيلفظ العلاقة المدرسية القمعية ويعدها خاصة بالمدرسة، في حين يسمح له المجتمع خارج أسوارها بمساحة أكبر من الحرية واتخاذ القرار وممارسة السلطة.

الخلاصة إذن أن المدرسة تتعامل مع أولادها وبناتها بنفس الأسلوب الأبوي المتسلط ، ومع ذلك فإن الأولاد يجدون خارج أسوار المدرسة خطاباً آخر، وفي الأسرة والأفلام وبين الأصدقاء يؤكد على قوامتهم وقوتهم وسيادتهم على الجنس الآخر. أما البنات فإن الخطاب ينسجم داخل وخارج المدرسة ويكرس بذلك دوراً ثانوياً أو تابعاً مهمشاً لهن كفتيات ثم كنساء في المستقبل.

ثانيتهما تتعلق بمضمون المقررات التعليمية التي تعكس في عدد من المواقع نمطية الأدوار الموكلة للنساء والرجال في المجتمع. "فأمي تطبخ وأبي يعمل في الحقل" هو النمط السائد في الوظائف الاجتماعية. ففي هذا الصدد تظهر المناهج خطابا برجوازيا محافظا يحدد أدوار المرأة في أدوار منزلية في إطار الأسرة الحضرية أو الريفية النووية السعيدة، حيث يعمل الرجل ويكافح خارج المنزل، وتعمل زوجته داخل المنزل على راحة ورفاهية أفراد الأسرة في روح تضحية سامية. تضحية المرأة إذن من أجل أسرتها، أما تضحية الرجل فمن أجل الوطن. فلو أخذنا مناهج التاريخ مثلاً لوجدناه تاريخاً من الحروب والفتوح والانتصارات بطلها الرجل في حين أن المرأة غائبة تماماً عن أي إنجازات تاريخية. حتى الملكة حتشبسوت يقتصر دورها في كتب التاريخ على بناء معبد الدير البحري. وتـُختصر إيزيس الإلهة إلى زوجة تبحث عن رفات زوجها. وفي مكان آخر يصف كتاب التاريخ للمرحلة الإعدادية المرأة الفرعونية فيقول: "وقد حرصت المرأة المصرية على الاهتمام بزينتها فاستخدمت أدوات الزينة مثل الكحل وأدوات الزينة مثل الأساور والعقود والخواتم والقلائد.. الخ. وكانت المرآة من أهم حاجات المرأة التي لا غنى عنها". ولا يتصور أحد أن هذا ما كانت المرأة الفرعونية تتميز به في حضارة هي بشهادة الجميع من أعرق الحضارات أدت فيها المرأة أدواراً وصلت إلى حد الألوهية، ولم يجد المقرر التعليمي ما هو جدير بالتدريس للأجيال الجديدة سوى أدوارها كزوجة وتضحي من أجل زوجها.

أما في كتب القراءة، فتـُبرز لنا هند واصف في بحثها عن "صورة المرأة في مناهج التعليم في مرحلتي الإعدادي والثانوي" رسالتين في مقدمة كتاب الصف الثالث الإعدادي: إحداهما موجهة من أب إلى ابنته، والأخرى موجهة من أب إلى ابنه، نسوقهما من باب المقارنة التي لا تستدعي تعليقاً: "يا بنتي إذا أردت جمالاً يتحلى به الجسم ويزدان به العقل، فابتعدي عن التزين المعيب لأن جمال النفوس أشرف من كل جمال. وإنه ليزين الوجه أن تبدو عليه دلائل الشرف والعزة، وإن الحياء لخير ما تتحصن به الفتاة لأنه أحق بها ولن تسعد فتاة تخلت عن الحياء. ولا يتحجر قلبك أمام مناظر البؤس والفقر، بل يجب أن يرى منك البائسون دموع الرثاء لحالهم فهي أجمل من اللآلئ لما تدل عليه من رحمة ورقة. ذلك ما أطلبه منك. وأنت يا بنتي لن تردي للأب مطلباً.." وعلى العكس من ذلك تكون الرسالة الموجهة إلى الابن: "الابن للأب هو المصباح المنير الذي يؤنسه في حياته، لذا فهو يفيض عليه من حنانه ما لا تستطيع الكلمات أن تعبر عنه. الشاعر يحاول لا يكتم عن الناس بلسانه ما يشعر به من حبه العظيم لابنه، ولكن دموعه وقسمات وجهه تعلن ما يكتمه وهو لا يرى عيباً في ذلك لأن ابنه كان أقصى ما يتمناه، حتى إنه لا يريد من الحياة مزيداً على سعادته بابنه، وكل ما عداه ليس إلا زيادة تافهة يمكنه الاستغناء عنها. وإذا مرض أو شكا من شيء فإن الدنيا تصبح كالصحراء الجافة الموحشة". إذا كان هذا ما يدرس في المدارس، فكيف للبنت أن تناقش أباها أو أمها في التمييز في المعاملة بينها وبين أخيها؟ وفي مكان آخر تقتبس لنا هند واصف: "مهمة الرجل أن يكد ويكدح، ثم يضع كسبه رهن إشارة الأسرة التي بناها راضياً مختاراً، ومهمة المرأة أن توفق بين رزق زوجها ومطالب مملكتها، فتضيق من دائرة ما تنفق بما يلائم الدخل. وأهم من هذا وذاك أن تنزل إلى معترك الحياة عاملة مجدة ما دامت حالة الأسرة معسرة، وبيدها أن تيسرها، فنحن نعيش في زمن يقوم على تبادل النفع والانتفاع. وعلى كل من الزوجين أن يسهم بنصيبه من الجهاد في معركة الرزق". هذا الاقتباس يعكس موقفاً واضحاً من حق المرأة في العمل. فعمل المرأة هنا ليس حقاً طبيعياً وإنما هو استجابة لحاجة اقتصادية مترتبة على عدم قدرة الزوج.

في فقرة أخرى من موضوع قراءة بعنوان "وطنيات" يشار فيها إلى المرأة العربية بما يلي: "كان تاريخ المرأة هو تاريخ الرجل. وكان جهادها هو جهاده. وكان مجدها هو مجده. أعظم أم وأكرم زوجة، وأصدق زميلة وصاحبة للرجل، كانت صانعة التاريخ الحقيقي، حيث إنها حملت وحضنت وأرشدت طفولة أعظم وأصدق وأبقى الرجال..". المرأة دائماً مضاف إليه. عظمتها ليست فيما تنجزه، وإنما في أنها تنجب وتربي العظماء..

الحديث قد يطول بنا إلى ما لا نهاية في تعديد الفقرات والكلمات التي تبث رسالة مباشرة يمكن الاشتباك معها، وإنما تبث الرسالة مجتزئة وتدريجية بحيث لا تكتمل الصورة إلا في وجدان الصبية والصبي. فأي رجل هذا الذي سوف يتنازل عن الحقوق المطلقة الموكلة له مدرسياً وأسرياً واجتماعياً من أجل فكرة رومانسية تقول بالمساواة بين كل البشر رجالاً ونساءاً؟! وأي امرأة هذه التي سوف تدفع ثمناً أسرياً واجتماعياً باهظاً لكسر نمطية الأدوار والفكر من اجل وجود إنساني أرقى؟! إن القيم التي نبثها في أبنائنا منذ الصغر تخلق مشروعات لرجال مسيطرين ونساء منسحقات، مجتمع نصفه شعور بالعظمة غير المسوّغة، ونصفه الآخر يعاني شعوراً بالذنب غير مسوّغ. فهل هذا ما نُعد أنفسنا به لدخول القرن الواحد والعشرين؟!

 

دكتور أحمد عكاشة


من كتاب: "تشريح الشخصية المصرية"