اكتئاب الأطفال وانتحار الزهور

د. خالد منتصر ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢
يمكنك تقييم هذا الموضوع بالسطر السابق: ضع تقديرك له من 1 - 5 درجات ثم اضغط على Rate . أيضاً يسرنا تلقي تعليقاتك الخاصة بنهاية الصفحة

 

أخبرني د. هاشم بحري، أستاذ الطب النفسي، بكارثة اجتماعية مرعبة، فقد صرح لي بأن معدل انتحار الأطفال، خاصة البنات، في مصر قد زاد، وأن اكتئاب الأطفال قد أصبح ظاهرة تثير الفزع والحزن على مستقبل مصر، وحكى لي قصة آخر مريضاته من الأطفال التي تبلغ السابعة من العمر، والتي حاولت الانتحار بالقفز من البلكونة ثم بإلقاء نفسها أمام سيارة مسرعة.... إلخ، والسبب هو الأهل الذين يصرون على تحجيبها في هذه السن وإلباسها الخمار، ويعزلونها ويكبتونها و«يكبروها قبل الأوان» ويقتلون تفتحها وانطلاقها ويلوثون براءتها، وأعتقد أن معظمكم سيستنكر قائلاً: معقول الأطفال تكتئب؟!
ماذا لو ذهبت إلى الطبيب بطفلك يشكو من متاعب صحية وأخبرك الطبيب بأن طفلك مكتئب؟!، من المؤكد أنك ستبتسم راثياً لحال الطبيب الذي حتماً ستتهمه بالجنون، أو على الأقل ستطالب باسترداد قيمة الكشف لاعناً اليوم الذي ذهبت فيه إلى هذا الطبيب!،  فنحن نؤمن بأن الاكتئاب يقتحم حياتنا نتيجة كثرة التفكير، لدرجة أن العامة يصفون المهموم «بأن عنده فكر»، والتفكير نفهمه على أنه لمن تخطوا حاجز سن المراهقة وجلسوا و"رحرحوا" على شاطئ النضج أو بر الشيخوخة، ونعتقد أن الطفل كائن هلامي أو عروسة باربى ليست له رغبات أو ردود أفعال ولا يعرف ما هو الحزن، فالطفل عندنا ضحكة بريئة، أو على الأصح ضحكة بلهاء، ولم يفلح الأطفال المصريون الذين قرأنا عن حوادث انتحارهم في إنقاذنا من هذا التصور.
للأسف هذا الإيمان وذلك الاعتقاد خاطئ، بل أقول إنه خطيئة لأنه يعمى عيوننا عن رؤية الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، وهى أن الأطفال مثلهم مثل الكبار يكتئبون، ولكن المأساة أنهم لا يعبرون ولا يشكون، ولذلك يتضخم حزنهم، ويتعملق اكتئابهم حتى يسد كل مسام البهجة والحياة، ويغلق كل نوافذ الأمل، والمأساة الأكبر أن التنفيس غير مسموح به لهؤلاء الصغار فهو شقاوة ورذالة وزن ودلع ماسخ.. إلى آخر هذا القاموس الذي نتداوله لكي نعكس عقدنا وكلاكيعنا على أطفالنا.
في بداية القرن العشرين كان العلماء يشاركوننا هذا الاعتقاد، ويجزمون بأنه لا اكتئاب عند الأطفال، وظل الحال على ما هو عليه حتى بداية السبعينيات التي وضع فيها الباحث وينبرج صفات الاكتئاب عند الأطفال وتفرقته عن المزاج غير المعتدل، أو الحزن غير المرضى الذي لا يدوم إلا لفترة زمنية بسيطة وينتهى ويزول مع زوال السبب، ولكن ما هي علامات الاكتئاب عند الأطفال التي تدق للأم والأب جرس الإنذار لتنبههم إلى أن هناك خطراً محدقاً؟
قبل أن نشرح أعراض اكتئاب الأطفال نتمنى أن يسأل كل أب وكل أم نفسه هذه الأسئلة:
هل يصرخ طفلك بصورة مزعجة عما قبل؟، هل يشعر طفلك باليأس والفراغ؟، عندما يحدث ما لا يتمناه هل يحس بأن حياته بلا جدوى؟، هل يعانى طفلك من اضطرابات في النوم؟، هل فقد طفلك اهتماماته وأنشطته السابقة؟، هل يفضل أن يقضى وقته وحيداً منعزلاً عن أصدقائه وعائلته؟، هل اكتسب أو فقد وزناً كبيراً في الأسابيع الماضية؟، هل يتعب طفلك ويفقد حماسه سريعاً؟، هل حاول طفلك إيذاء نفسه متعمداً؟

أعراض اكتئاب الأطفال منها ما يشتركون فيه مع الكبار، ومنها ما ينفردون به، فالمزاج حزين ويائس، ورأيهم في ذواتهم سيئ ويحمل قدراً كبيراً من لوم الذات، ويتصفون بالتهيج والتوتر وأحياناً العدوانية، نومهم مضطرب ومسيرتهم الدراسية غير مستقرة، أما علاقاتهم الاجتماعية في محيط الأسرة والمدرسة فهى مفككة وفقيرة، وفى أحيان كثيرة يعانون من اضطرابات جسمانية وفقدان لطاقتهم المعهودة، وتغيرات غير طبيعية في الشهية والوزن.
تغيرات المزاج عند الطفل المكتئب لابد لها من أن تثير الانتباه، فهو دائماً حزين ووحيد، لا يسعد بأي هدية أو تقدير أو نجاح، فاقد الأمل والثقة، ومن السهل استثارته وبكاؤه بل وصراخه، في منتهى الحساسية ومتقلب المزاج إلى حد مزعج، ومن الصعب بل والمستحيل إرضاؤه، وهو متضخم الإحساس بالذنب، وكأن ضميره فوق جلده، والمدهش والخطير في الأمر أن ٣٥% من هؤلاء الأطفال يتمنون الموت، و١٥% منهم يخططون للانتحار، وينجح ٥% منهم في تنفيذ خطتهم اللعينة والتخلص من حياتهم!
تمثل اضطرابات النوم علامة سهلة وبسيطة في إمكانية القبض على شبح الاكتئاب متلبساً، وهى تظهر في صور متعددة فمنها اضطراب الدخول في النوم بصعوبة وهو مايطلقون عليه INITIAL INSOMNIA، أو النوم المضطرب المتقطع INTERVAL INSOMNIA، أو النوع الأخير وهو الذي يستيقظ فيه الطفل مبكراً جداً ويعده الأطباء أخطر الأنواع.
تأتى الشهادة المدرسية ومتابعة الطفل أثناء الدراسة كجرس إنذار مبكر يجذب انتباه الأهل بأن الاكتئاب يدق على الأبواب بقوة وبعنف، وأنه سيتمكن من عنق وروح الطفل إذا لم نسارع بحمايته ودعمه ضد هذا اللعين، فعلينا أن نستمع جيداً لشكاوى المدرسين مثل أحلام اليقظة وعدم التركيز في الفصل، وعدم الاكتراث بالواجب اليومي، وهبوط المنحنى الدراسي بشكل مضطرد، وفقدان الاهتمام بالنشاطات المدرسية داخل وخارج الفصل، وأخيراً يحاط كل هذا بسياج من الوحدة وعدم التفاعل مع الأصدقاء، وتفضيل العزلة، والتفنن في بناء أبراجه العاجية الخاصة، وحصونه وقلاعه غير القابلة للاقتحام.
أما الشكاوى الجسدية والتي في معظم الأحيان يخطئ في تشخيصها الأطباء، ويلبسونها ثياب أمراض الأطفال العادية ويحاولون علاجها بمخفضات الحرارة ومسكنات الألم ومحاليل الجفاف، مع أن الألم نفسي والجفاف عاطفي والروح هي التي تحتاج إلى مسكنات، هذه الأعراض تغطى مساحة كبيرة من أجهزة الجسم، بداية من الرأس حتى أخمص القدم، وكلها تنتمي إلى ما يُسمى الأمراض النفسجسمية مثل الصداع وتقلصات المعدة وآلام المفاصل واضطرابات النظر والتي لا يمكن إرجاعها إلى سبب جسمي واضح.
بداية العلاج هي الاقتناع أولاً بأنه يوجد ما يُسمى باكتئاب الطفل، وثانياً بأهمية علاجه، ومازالت أدوية الاكتئاب مثار جدل، هل نعطى الطفل مضادات الاكتئاب؟ ومتى؟ وبأي جرعة ؟وحتى أي سن؟؟...إلخ، وكل مدرسة علمية تضع محاذير وتقدم مبررات، ولكن الجميع في النهاية يتفق على أن الأطفال ملائكة، ولكن أجنحتهم أحياناً لا تقوى على الطيران والتحليق، ونورانيتهم كثيراً ما تجعلهم بؤرة اهتمام مكثف نتفنن في قتله وإظلامه، أما براءتهم فهي كثيراً ما تفضح زيفنا نحن الكبار، ولذلك فنحن ننقل لهم عدوى الاكتئاب حتى نطمئن على أنهم أصبحوا مثلنا، زحفت عليهم تجاعيد شيخوخة الروح والقلب، وترهلات العجز عن العطاء والبهجة والفرح.

بقلم   خالد منتصر

من جريدة المصري اليوم

بتاريخ   9 و 11/ ١٢/ ٢٠٠٩