النبع

عماد ميشيل ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٠

النبع

سرت في صحراء قاحلة, لساني يحترق من فرط العطش, جبهتي تدميها شمساً محرقةً لا يثنها عني ظل, شعري ملتصق برأسي من تبخر مياه عرقي وبقاء ملح العرق, تشققت شفتاي من غياب المياه, ورأيتها..

واحة, ركضت صوبها, وركضت وركضت, وطال الركض, حتى وجدتني أطارد سراباً.

عدت أرمق الرمال الصفراء الذهبية, وغامت رؤيتي, رفعت عيني لقرص الشمس الأصفر الذهبي, وغامت رؤيتي, وتلفت حولي بكل اتجاه.. فلم أجد أحداً, اختفى الجميع, الكل في مكان ما, في زمان ما, في بعد ما, لكن لا أحد هنا الآن حقيقة.

قد تكون الحرارة الشديدة للشمس تموجات تشبه أشخاص, وقد تكون الرمال عواصف هوجاء في شكل آدمي, لكن أياً منهما ليس حقيقياً, الحقيقي مثلي ليس موجوداً.

ورأيته على مقربة, نبع مياه فياض, تتلألأ أشعة الشمس على مياهه الجارية كألف شمس. لكن لا.. اقترابي من هذا النبع ينهي مغامرتي الجبارة, سيكون عليّ أن أخبر زملائي أنني عشت في كنف النبع, لا من عرقي, يجب أن أشق طريقي بنفسي في الصخر, هنا هبت الرياح وسمعت همسها:

-النبع هو الطريق, النبع هو الحياة, لقد خلقت لتشرب منه, وتجاهلك له يعني ببساطة الموت.

ثم أعمت الرياح عيني, وهي تهب بقوة لتجبرني على غلقهما والاحتماء بلا شيء, من قوة هبوبها الشديدة في قلب العراء, وهي تصيح:

-ولا شيء حقيقي من حولك, حاول كما تحاول ولن تجد ما هو حقيقي.

انحنيت أمام الرياح, وأمام نفسي, وصرخت:

-أنا ابن الأرض, وسأجد حلاً بعقلي, وسأستمع لصوت قلبي, وسأجد المخرج من هذا المأزق.

وغمست يداي للمرفقين في الرمال, وشعرت بسخونتها, وخدرتني لذة الاحتكاك, وانستني لوقت طعم الارتواء, وأخرجت يداي بحفنتي من الرمال, وركضت بهما وحبات الرمال تنساب من بين أناملي كالمياه, وصوت الأرض يصرخ تحت الرمال:

-أيها الأحمق, لن تأخذ شيئاً مني, لقد خلقت لتتسلط عليّ وبسبب غباءك تسلطت أنا عليك..

وتوالت ضحكات الأرض, وأنا أرمق يداي الفارغتين.. عقلي خبراتي طريقي حكمتي رؤيتي عظمتي, سأخصص كل مهاراتي الخارقة للوصول لطريق فريد لم يسبقني أحد إليه.

ثمة بئر مالح قريب من هنا, هكذا سمعت من أحدهم, ركضت صوبه, وغمست فمي في مياهه الضحلة, وشعرت بارتواء للحظة وازداد عطشي لأضعاف بعد استقرار المياه المالحة في جوفي.

ثمة بئر مسموم في ذاك الاتجاه, هكذا قرأت اللافتة, سرت الهويني تجاهه, وانجرحت قدمي الحافية من وعورة الصخور, زحفت صوبه, وتشققت ركبتيّ وراحتيّ من صعوبة الزحف, وأخيراً وصلت, وأخيراً شربت, وعندها سعلت, وسعلت, وأخرجت ما في جوفي من ألم, وما في معدتي من مرض, وساءت حالتي عما قبل.

هنا أدركت حقيقة الأمر, ليس ثمة شيء جاهز, يجب أن أحفر بنفسي, وأكملت زحفي صوب الصخور, ونشبت فيها أظافري, أحفر في الصخر بمخالبي كقط أجرب, كأسد جائع, كوحش مشوه, ككائن مضطرب, ككيان غير موجود..

مددت يدي للمياه التي وجدتها فهربت من بين يدي, إنها بعيدة, ولا تطالها يدي, إنها ملوثة, ولا يلذ لها فمي, إنها تتسرب لو مسكتها وفي الطريق إلى حنكي تنتهي, فلا يطالها فمي..

سأحفر من جديد, سأستعين بأدوات متطورة للحفر, وسأجرب ترباً أخرى, وهكذا أفنيت السنوات في البحث, وفي النهاية بعد أن جرحتني الصخور, وأعمتني الرياح, وأوسختني الأرض, ركضت صوب النبع في ندم, واستمعت في صمت:

-يا حبيبي أنا سريان ومصدر ومياه, لست في حاجة لعمل علاقة معك, أنا في اكتفاء, أنت من تحتاجني, ولا غنى لك عني, أنا صنعتك بعطشك إليّ, بحاجتك للشرب التي سأشبعها لك, وأعطيتك حرية الإرادة, وقديماً كان أبيك مقيماً معي, في علاقة وثيقة معي, لكنه كسر تلك العلاقة, كسر طبيعة الطاعة بيني وبينه, وعانى من تلك القطيعة ومن استقلاله بحياته بعيداً عن إرادتي, لهذا خلق أبيك وخلقت, ولهذا أتيت وأتى, للعلاقة معي وللتأثر بي, لأرويك, ولتروي آخرين, لتتمتع بي, وليتمتع آخرون.

دمعت عيناي في تأثر, وهو يكمل:

-اشرب قدر حاجتك اليوم, وستشرب في الغد, وفي الغد, حتى يأتي اليوم الذي لن تعطش فيه. ادع من تشاء, واخبر كقدرتك من يسكنون أودية السراب, وآبار العطش, وحطام اليأس.

يا ربي, طويلاً بنيت لنفسي أفكاراً, نصبت نفسي إلهاً على قلبي أتعبد لنفسي داخل نفسي أصنع أخلاقاً تناسبني وأتبعها, أصنع نفسي عظيماً بصورة قدسية وأتبعها, وأحياناً تخنقني مشاعر الذنب وأرى نفسي زنديقاً فاسداً, وأرى الحقيقة في داخلي, وأداريها عمن حولي ليستمروا في احترامي وتقديري, وينشأ داخلي الضدان ويصطرع في قلبي ماردان, وأبكي دون دموع إذ خنقها قناع كل شيء على ما يرام, وأستمر في مهزلة التنفس من شهيق لزفير لشهيق, دون أن أعرف أنني رفضتك يوم تعارضت وصاياك مع إرادتي, وفي رغبة صامتة من الاستقلال لذاتي ابتعدت عنك, وتجاهلت أحكامك, وأغضيت وجهي عن صليبك, كيلا تمزقني المزيد من مشاعر الذنب, وأكلتني الوصايا التي سننتها لنفسي وعارضتها, وأكلتني وصاياك البعيدة عن الفحص التي تجاهلتها, وأكلتني مشاعر الذنب عن خطاياي, وعن صورتي المزيفة التي أسير بها وسط الناس, وعندما ألقيت الصورة المزيفة, شعرت بذاتي تأكلني, وبالناس تخوفني, وبك بعيداً, وفي كل هذا ورغم كل ذاك الألم مازلت أخشى التسليم لك, مازلت أحتفظ بسيطرتي الفاشلة على حياتي السقيمة, مازلت أرغب في امتلاك أموري بنفسي دونك. والآن يا ربي الحبيب أرى الحقيقة بحقيقتها بكليتها.

أنت هو الحياة, الطريق, الحق, النبع الحي, الهروب من أفكارك لأفكاري, الهروب من الوجود بصحبتك للنهل بلذة عالمية وقتية, الهروب من صحبتك لصحبة آدمي سطحي, الهروب من التفتيش عنك داخل نفسي للذة فيلم أو لعبة, الهروب من كتابك لكتاب مشقق لا يضبط ماء, الهروب من طريقك لطريق الهلاك.. كل هذا الهروب هو الموت بعينه.. الحياة هي الشرب من نبعك.

 

عماد ميشيل

22 مايو 2010