الإنسان المسيحي

سورين كيركجارد ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

إن المؤمن الحقيقي والشاهد للحق يعيش فى وسط ملايين وملايين من البشر كلُُ يهتم وينشغل بعمله، السياسي في السياسة، الفنان في فنه، التاجر في تجارته، الغشاش في غشه، العاطل في كَسَلِه، وهكذا... كلُُ منشغل بعمله وانشغالاته فى هذا الزحام البشري المتكدس، وهذا هو واقع الحياة التى نعيشها.

في ذات الوقت، هناك يجلس وحده فى غرفته، رجل مثل لوثر (وهكذا ينبغى أن يكون كل إنسان مسيحي يريد أن يعيش الحياة المسيحية). يجلس وحده، كفرد وحده يجلس في "خوف ورعدة" (فيلبي 2 : 22)  وفي تجارب عدة. إنسان فرد وحده (solitary man)! هنا نجد حقاً الحق.. لأنه للأسف فى أيامنا هذه يعتقد البعض أن الإصلاح (المسيحية الحقيقية) سيأتي من الأعداد (الجموع)، من الجماهير، أو من سلطة عالية يحترمها الجمهور. في الأمور الإجتماعية تختلف القواعد - ففي شئون الحياة؛ مثل إنارة الطرق أو وسائل المواصلات، فالإصلاحات عادة ما تأتي من سلطة عليا أو من تجمعات الجماهير. لكن إذا إعتقدنا انه في الأمور الروحية سوف يأتي الإصلاح من الجموع فإن هذا يعتبر تزييفاً وتحريضاً على الخداع (خداع الإنسان المسيحي في الكنيسة).

نعود مرة أخرى لهذا الإنسان الفرد وحده يجلس.. أو إذا شئت القول فإنه يسير فى غرفته ذهاباً وإياباً وكأنه كالحيوان سجين القفص. ولكن هدف سجنه رائع حقاً.. في سجنه، إنه سجين الله وسجين بأمر الله.. إنه سجين نفسه (هكذا يريد الله). إنه يقف الآن أمام اختبار إيمانه (والذى يريده الله). أتعتقد أنه يشتاق لهذه التجربة؟ بالطبع لا – إذا اشتاق أحد لأن يُختبر ايمانه فعليك أن تتأكد أنه ليس من "المدعوين" من الله (ليس من تلاميذ المسيح الأصيلين). لا يوجد أحد من المدعوين لا يفضل أن يُعفى من هذا الإختبار (اختبار الايمان)، لا يتضرع ويستعطف الله ليرحمه من الإجتياز فى الإختبار. ولكنه لابد أن يجوز في الاختبار (مثل إبراهيم). وفى اللحظة التى يبدأ فيها بأخذ أول خطوة فى إمتحان الإيمان يجد الخوف والرعدة ينتصباً أمامه. الإنسان غير المدعو، عندما تنتصب الرعدة أمامه يهرب، ولكن المدعو.. آه يا عزيزي القارئ، ولو أنه يود أن يهرب، مرتجفاً أمام الخوف والرعدة، وعندما يدير وجهه مفكراً في الهروب، ينظر خلفه فيجد رعدة الاختبار تنتظره. ماذا يفعل؟ نراه يدير وجهه مرة أخرى للاختبار (اختبار الإيمان) ليسير فيه... وهكذا يسير.. وبعد أن يبدأ السير.. نجده الآن هادئاً (كيف ذلك؟).. آه، إن رعدة اختبار الإيمان تضفي هدوءاً وسكينة لمن يسير فيه! كل ظروف الحياة ربما تتحالف لتخيف ذلك الانسان الفرد المدعو من الله، ولكنه صامد لا يخاف لأنه.. ببساطة شديدة.. يعيش فى خوف ومخافة الله! الجماهير والمحيطون به يهاجمونه، يبغضونه، يلعنونه. وحتى القليلين المؤيدين له يصرخون "خلص نفسك، لماذا تعذب نفسك، لماذا تأتى بالمزيد من الرعب لنفسك، تراجع عما قلته وتؤمن به." أقول لك

 

عزيزي القارئ أن "الإيمان مُقلق". هكذا أنا أدعو كل قارئ إلى هذا النوع من الإيمان.

أنت يا عزيزى تدعو نفسك مسيحياً (مؤمناً). حسناً إذاً .. أنت تعرف أن الموت (الجسدى) هو الشئ الأكيد الحدوث لكل إنسان فى هذه الحياة، وفى نفس الوقت يبدو غير أكيد لأنه لا يُعرف يوم مجيئه لكل إنسان.

إذن أنت تعرف أن الموت آتياً لك فى يوم ما وهذا الموت هو موتك أنت (وليس آخر). أنت تقول أنك مسيحي ترجو وتؤمن أنك مباركُ (من الله). تماماً مثل الإنسان المسيحي "الشاهد للحق[1]witness to the truth" أو بطل من أبطال الإيمان. أنت ترجو وتؤمن أنك مباركاً تماماً مثله برغم حقيقة أنه أُضطر لشراء لقب "الإنسان المسيحي" بثمنِ غالٍ جداً (وهو التضحية بحياته في سبيل المسيح). ربما إذا استمعنا لكلمات هذا "الشاهد للحق" والذي يمتلك فعلاً سلطة وعظك ومخاطبتك، فسوف نجد كلماته حقاً مخيفة لك إذ تقول لك أنك مخدوع في اعتقادك أنك مسيحي (مؤمن) وأنك فى حقيقة الأمر في طريقك للجحيم!! بالنسبة لى أنا (كيركجارد)، فأنا لا أجرؤ على مخاطبتك أيها الإنسان كما يخاطبك "الشاهد الحق" لأننى أفهم جيداً ما هو المطلوب من الإنسان المسيحى ليكون مؤهلاً ومستحقاً أن يخاطب الآخر بهذه السلطة والجرأة والمطلقية (الدينونة). ولكنى أنا (كيركجارد) سوف أخاطبك كإنسان فاهم لحقيقة الحياة المسيحية ولكنه لايمتلك سلطة "الشاهد للحق"، سلطة أبطال الإيمان. في ضوء هذا دعني أخاطبك وأقول لك: أنت حقاً تريد أن تكون مباركاً مثل "الشاهد للحق" وبطل الإيمان. حسناً.. فكر معي لحظات الآن في حياتك أنت بالمقارنة بحياة ذاك. فكر فيما ضحى به من ضحى بكل شئ.. هذا الذي وجد صعوبة بالغة فى بدء طريق التضحية والذي استمرت مرارة التضحية معه كل حياته. فكر معى في تضحيته وفي ألمها وفي طولها. آه يا عزيزى.. فكر في حياتك أنت يا من تعيش سعيداً هانئاً فى بيتك، حيث زوجتك تحبك متفانية لك بكل قلبها وكل قوتها، وحيث تهنأً بأولادك من هم في حضنك. فكر كم هو جميل أن تعيش يوماً بعد يومٍ في هدوء وسلام (الهدوء والسلام والسكينة اللازمين لنفس وروح الإنسان).. ثم فكر معي الآن في "الشاهد للحق"! وإذا كنت تعيش (ليس كعاطل عن العمل) ولكن في عمل مناسب لك، عمل يأخذ وقتك ومجهودك وطاقاتك، ولكنه يستهلك كل ذلك بدون إرهاق شديد لك وبحيث يترك لك في النهاية وقتاً كافياً للراحة من هذا العمل. ليس هذا فقط، ولكن إن هذا العمل في إشباعه لك يكون مجدداً للطاقة. وإذا كنت تعيش، ربما ليس في غنى مادي، ولكن في وفرة مالية كافية وتمتلك الوقت لبعض الرفاهية والاستمتاع بالحياة وبذلك تجد الحيوية الكافية للاستمرار في الحياة – باختصار فإن حياتك اليومية إستمتاعاً هادئاً – آه.. فكر معي في حياة "الشاهد للحق".. إن حياته تضحية وآلام – ثم..، ثم تتوقع أن كليكما يموت وتحصلا على بركة متساوية فى السماء؟!

 

 

من ليس وحده وبمفرده مع كلمة الله هو لا يقرأ كلمة الله.

وحدي مع كلمة الله! عزيزى القارئ، دعنى أقدم اعترافاً عن نفسي: أنني لا أملك الشجاعة الكافية لكي أكون تماماً وحدي وبمفردي أمام كلمة الله دون اقتحام خيالات خادعة عنوة لي. واسمح لي أن أقول شيئاً آخر: أننى لم أعرف أي إنسان آخر أجرؤ أن أؤمن أنه يمتلك جدية وشجاعة كافيين للتواجد الكامل والتام وحده وبمفرده مع كلمة الله دون اقتحام الخيالات الخادعة له عنوة.

يا للغرابة حقاً، في أيامنا هذه عندما يأتى انسان مدفوعاً بحقائق الكتاب المقدس ويقدم لنا ثمن تبعية المسيح، وهذا الثمن هو مجرد خُمس الثمن الذى يحدده الكتاب المقدس، تصرخ الجماهير عندئذ قائلة "احذروا من هذا الانسان. لا تقرأوا كتاباته ولا تتحدثوا معه على انفراد.. إنه رجل خطير."[2] ولكن كل انسان يمتلك فى يديه الكتاب المقدس ذاته وهو لا يدرك أن بين يديه الحق الالهى الذى يحدد ثمن تبعية المسيح خمس مرات ضعف ما أقدمه أنا، ومع ذلك لا تتهم الجماهير الكتاب المقدس بالصرامة والقسوة!

آه.. أن أكون وحدي وبمفردى أمام الكلمة... لا أجرؤ! عندما أقلب أى صفحة من صفحات الكتاب المقدس أجد كلماته تحاصرني مباشرة، تستجوبني (وكأن الله حقيقة هو الذى يستجوبني) قائلة: "هل نفذت ما تقرأه هنا؟" ثم... ثم... نعم لقد حُوصِرت. بعدها المطلوب هو الطاعة الفورية، وإلا فلا يتبقى لي سوى الاعتراف المنكسر (بعجزي وفشلي). آه.. أن يكون الإنسان وحده وبمفرده مع الكلمة – وإن لم يكن كذلك، فهو لا يقرأ الكلمة.

إن التواجد أمام الكلمة لهو حقاً أمر مخيف. قد نقابل رجلاً يقول (مع أننا لا نستطيع الإتفاق على ما يقوله): "إننى لست معتاداً على أنصاف الحلول أو القيام بنصف الأمور فقط. الكتاب المقدس هذا كتاب مخيف بالنسبة لي وكتاب مسيطر، تقدم له إصبعاً واحداً فيريد كل اليد، تقدم له اليد فيريد كل الجسد، وسرعان ما يطلب تغيير كل الحياة بمجملها. وأنا لا أجرؤ على إنتقاد الكتاب المقدس أو التقليل منه، فلذلك سوف أزيحه بعيداً عني فى مكان لا أراه لأننى لا أريد أن أكون وحدي وبمفردي معه." حقاً نحن لا نوافق هذا الانسان فيما يقوله، لكننا ينبغى أن نوافق على شئ واحد هام.. ألا وهو صِدْقه وأمانته مع نفسه. وهناك أيضاً أُسلوب آخر يحمي الإنسان به نفسه من (اختراق) كلمة الله. فى هذا الإسلوب نجد الإنسان يفتخر بإنه يقرأ الكلمة ويستطيع أن يتواجد معها كثيراً. ماذا يفعل؟ يأخذ الكتاب المقدس ويدخل غرفته ويغلق بابه آخذاً معه عشرة قواميس، عشرون تفسيراً، ثم نجده يقرأ هادئاً ساكناً (وغير مبالٍ) كأنه يقرأ جريدة الصباح.. هذا الانسان لا يتعرض لنفس المواجهة التى أَََتعرض لها أمام الكلمة؛ إمّا الطاعة الفورية أو الإعتراف المنكسر (بعجزي وفشلي). لا.. اننا نجد هذا الانسان فى هدوء يقول: لا يوجد عائق يمنعني من الطاعة الفورية. سوف أُطيع مباشرة متى وصلتُ إلى المعنى الحقيقى للنص والذي يتفق معه المفسرون. آه.. سوف يمر وقت طويل جداً قبل أن يحدث ذلك ويأتى وقت الطاعة، هذا الرجل إذن قد نجح فى إخفاء حقيقة أن الخطأ موجود فيه هو، وأنه ليس عنده النية لإطاعة الكلمة. يالسوء استخدام العلم والمعرفة! يا للحسرة والأسف، كم هو سهل أن يخدع البشر أنفسهم! لولا النسيج الفكرى الكاذب للإنسان وخداع النفس لأعترف كل إنسان كما أعترف أنا بأنني لا أملك الشجاعة للتواجد وحدي وبمفردي أمام كلمة الله.

وحده وبمفرده مع الكلمة. هكذا ينبغي أن يكون الانسان تماماً مثل المُحب الذى أراد أن يكون وحده مع خطاب الحبيب وإلا فلن يكون قارئ حقيقي لكلمة الله ورؤية نفسه فى مرآة الكلمة. هذا حقاً ما ينبغى فعله، وما ينبغى فعله أول كل شئ. فلا ينبغى أن ننظر المرآة بل أن ننظر أنفسنا فى المرآة. وأنت أيها الانسان "المتعلم" الضليع فى المعرفة، تَذَكر جيداًً أنك لو لم تقرأ الكلمة بطريقة مختلفة عما تفعله الآن، فقد يُقال عنك إنه بعد تكريسك ساعات طويلة مجيدة كل يوم كل حياتك في قراءة الكلمة، إلا أنك أبداً.. أبداً لم تقرأ الكلمة!

أسألك (أيها الإنسان المتعلم الضليع المعرفة) أن تميز بين قراءة المعرفة وقراءة الكلمة، وأن تأتى فعلاً إلى النقطة التي فيها تقرأ الكلمة – أو على الأقل (إن لم تقدر على فعل ذلك) أن تقرُّ وتعترف لنفسك أنه وبالرغم من التكريس اليومي المتعلم في قراءة الكلمة أنك فعلاً لم تقرأ الكلمة وأنك حتى لست مستعداً للتواجه مع الكلمة.

 

سورين كيركجارد

من كتاب: "دينونة المحبة، والمحبة التي لم تُحَب"

ترجمة د. سامي فوزي

 

 

 


[1] "الشاهد للحق" مصطلح هام جداً لكيركجارد. يشير فيه أولاً ودائماً إلى تلاميذ المسيح ورسله، ثم لأتباعهم الأمناء وبالأخص شهداء المسيحية الذين ضحوا بحياتهم في سبيل المسيح وفي سبيل الإيمان.

يعتقد كيركجارد أن هناك القليلون عبر تاريخ المسيحية والكنيسة من يعبروا عن هذه الفئة. بالتالى ينبغى أن نكون مدققين جداً قبل أن ندعو أنفسنا أو أي مسيحي آخر"شاهد للحق witness for the truth".

في هذه الفقرة، يشير كيركجارد إلى أحد أوجه التضحية (وهو الشهرة) والثمن الذى يدفعه "الشاهد للحق" نتيجه لذلك، مثل تلاميذ المسيح والأنبياء والمعلمين الذين يخرجوا إلى الشعب برسالة المسيح. والذي يعرف تاريخ حياة الكاتب يعرف أنه هو نفسه قد دفع هذا الثمن فى عصره وبين شعبه. (المترجم)

[2]يتحدث الكاتب هنا عن نفسه وعن بعض ردود الأفعال لمبادئه وكتاباته التي يصفها البعض بأنها صارمة وقاسية على الإنسان. (المترجم)