ما هي الحرية

رولو ماي ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

الحرية هي قدرة الإنسان على الانخراط في نموه الذاتي الخاص. إنها قدرتنا على تشكيل أنفسنا. الحرية هي الوجه الآخر للوعي بالذات: إن لم نكن نستطيع أن ندرك أنفسنا، فستدفعنا غرائزنا أو مسيرة التاريخ القدرية كما لو كنا نحل أو ماموث (أسلاف الأفيال) أو ديناصورات. لكن من خلال إدراكنا لذاتنا نستطيع أن نستحضر في ذهننا ما فعلناه بالأمس أو منذ شهر خلى، وعبر التعلم من أفعالنا تلك يمكننا أن نؤثر، حتى لو كان التأثير جد ضئيل، فيما نفعله اليوم. فالوعي بالذات يمنحنا القوة للوقوف خارج نطاق جمود دائرة المنبه أو المثير والاستجابة أو رد الفعل. فنحن نستطيع التوقف، وعبر هذا التوقف نستطيع أن نميز ونقف بثبات خلف أحد الاختيارات ونقرر ماذا سيكون رد الفعل. ومع اكتساب الشخص المزيد من الوعي بالذات يتزايد مدى اختياراته وتزداد حريته. فالحرية أمر تراكمي، فأي اختيار يقدم عليه المرء في حرية يتيح حرية أكبر عند الاختيار القادم. وكل ممارسة للحرية توسع نطاق دائرة ذات المرء.
نحن لا نريد أن ننفي وجود عدد غير محدود من المؤثرات المحتِمة في حياة الفرد. فإن أراد القارئ أن يقول أننا محددون بأجسادنا ووضعنا الاقتصادي والمكان الذي ولدنا فيه، فأنا أتفق معه بل وأضيف عليه المزيد من الطرق التي تحددنا نفسياً، خاصة النزعات اللاشعورية بداخلنا. لكن مهما دافع المرء عن وجهة النظر التحتيمية فعليه أن يعترف بأن ثمة مساحة من الحرية تجعل الإنسان الحي قادراً على إدراك العناصر المحتِمة في حياته، وأن يعبر عن رأيه في الكيفية التي سيتجاوب بها مع تلك العناصر. ومن ثم تعبر الحرية عن نفسها في الطريقة التي نتعامل بها مع الوقائع المحتِمة في الحياة. فلو بدأت، مثلاً، تكتب سوناتة (قصيدة موسيقية) فسوف تجد نفسك مُلزم بكل الحقائق الصغيرة الخاصة بقوانين الإيقاع والنغم، وبضرورة السجع وتوائم الكلمات معاً. ولو بدأت في بناء منزلاً فسوف تجد كل أنواع العناصر التحتيمية من طوب وخشب ومواد بناء، فمن الضروري أن تعرف المادة التي تتعامل معها وتتقبل حدودها. لكن ما ستقوله في السوناتة سيظل دائماً أمراً فريداً خاصاً بك. وسوف يعبر نسق وأسلوب بناءك للمنزل عن الكيفية التي استخدمت بها حريتك في التعامل مع حقائق العناصر البنائية المعطاة لك.

إن التناقض بين الحرية والحتمية هو تناقض كاذب شأنه شأن من يظن وكأنما أن الحرية هي مفتاح كهربائي منفصل وقائم بذاته. فالحرية جزء من كيان الشخص كله، وتظهر عبر تناغم حياة المرء مع الوقائع، البسيطة منها مثل الحاجة للأكل والراحة والمطلقة منها مثل الموت. فالحرية تأتي من قبولنا الاختياري وليس الإجباري للوقائع. هذا يعني بوضوح أنه لا يجب أن نتقبل الحدود في استسلام بل يجب أن يكون قبولنا لها فعلاً حراً بناءاً، وقد يكون هذا الفعل طريقاً لنتائج أكثر إبداعية مما لو لم يكن عليه أن يكافح ضد أي حدود من أي نوع. فالإنسان الحر الذي كرس نفسه للحرية لا يبدد وقته في مخاصمة الواقع، ولكنه مثلما قال كيركجارد "يبني الواقع". دعونا نأخذ موقفاً لمثال توضيحي، حيث لا يمتلك الإنسان الكثير من السيطرة على حالته، مثلما عند المرض بالسل. ففي كل أفعالهم نجد ثمة شرط أساسي وهو وجودهم في مصحة تحت مظلة علاج صارم وعليهم أن يرتاحوا بين كذا وكذا، ويمكنهم المشي لمدة 15 دقيقة يومياً فقط، وهكذا. لكننا سوف نجد كل أنواع الاستجابات في ردود أفعال المرضى حيال واقع مرضهم هذا. البعض منهم سوف يستسلم ويطلب الموت حرفياً، والبعض الآخر سيفعل ما عليه أن يفعله ولكن في تأفف دائم وهو يواجه حقيقة أن الحياة أو الله قد رزقهم بهذا المرض، وبالرغم من طاعته الظاهرية للقواعد اللازمة فهو في الباطن يتمرد عليها ويرفضها. بيد أن ثمة نوع ثالث من المرضى يواجه في صراعه حقيقة أنه مريض بمرض جد خطير، ويتشبع في وعيه بهذه الحقيقة المأساوية عبر ساعات من التأمل بينما يرقد على الفراش في غرفته بالمصحة، ويبحث في وعيه بذاته عما اقترفه من أخطاء في محاولة لفهم كيف سقط صريع المرض. فهو يستغل الواقعة المحتومة المؤلمة، ألا وهي مرضه، كطريق ينفتح به على نفسه ويعي من خلالها ذاته. مثل أولئك المرضى هم الذين يسعهم حقاً الاختيار وتأكيد منهجهم ونمطهم الشخصي الذي لا يمكن قط تحويله إلى قواعد جامدة، بل يتغير كل يوم، مما يجعلهم يعبرون محنة المرض ويخرجون منتصرين. إنهم ليسوا فقط يحققون الصحة البدنية وإنما أيضاً ينمون ويتسعون ويثرون ويقوون عبر خبرة المرض التي مروا بها. إنهم يؤكدون حريتهم ويشكلون بها تلك الأحداث المحتومة. إنهم يواجهون واقعة جد حتمية في حرية وشجاعة. فمن المشكوك فيه حقاً أن يستطيع أي فرد أن يحصل على الصحة لو لم يكن يريد هذا بشكل مسئول، ومن يفعل هذا يزداد تكامله كشخص من خلال مرضه.
إن الإنسان، عبر قدرته على مسح حياته ومعرفته، يمكنه أن يتسامى بالوقائع المباشرة التي تـُفرض عليه، سواء كان مريضاً بالسل، أو كان عبداً مثل الفيلسوف ابكتيتوس، أو مسجوناً محكوم عليه بالإعدام، فهو يستطيع أن يختار عبر حريته الكيفية التي سوف يتعامل بها مع هذه المواقف. ويمكن أن تصير الكيفية التي يتعامل بها مع واقعة حقيقية لا رحمة فيها، كالموت مثلاً، أكثر أهمية بالنسبة له من الواقعة ذاتها، أي الموت ذاته. ونحن نجد أوضح أمثلة على هذه الحرية في الأفعال البطولية مثل قرار سقراط بشرب السم (قبول حكم الموت بالسم على النفي خارج أثينا) وليس المواءمة والمهادنة والتوفيق، لكن ألهم حقاً هو ممارسة الحرية اليومية في الأفعال العادية المعتادة في حياة أي شخص يتطور نحو التكامل النفسي والروحي في مجتمع ناضب مثل مجتمعنا. من ثم فالحرية ليست مجرد قرار "نعم" أو "لا"، إنها القدرة على تشكيل وإبداع أنفسنا. الحرية هي القدرة – كما قال نيتشه على أن نكون ما نحن حقاً نكونه.

رولو ماي
من كتاب: "بحث الإنسان عن نفسه"