القداسة: التدريب على القداسة يبدأ بكلمة الله

٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

نقرأ في الكتاب المقدس: "عُلِمتّم... أن تخلعوا... الإنسان العتيق...وتتجدوا بروح ذهنكم وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق" (أفسس 4: 22-24). أين عُلِمنا هذه الأمور؟ في كلمة الله فقط. إذاً فالتدرب للقداسة ينطلق من الكتاب المقدس – بخطة منتظمة للتزود الدائم من الكلمة وخطة ثابتة لتطبيقها في حياتنا اليومية.

نرى إذاً من واجبنا أن ندرب حياتنا على الاغتذاء المنتظم بكلمة الله. فنحن نحتاج لأن نخصص وقتاً في كل يوم لقراءة الكتاب المقدس أو دراسته. وكل مؤمن مسيحي أحرز تقدماً في طريق القداسة هو شخص نظم حياته بحيث يمضي فترة دورية وهو عاكف على منهل الكتاب المقدس. فبكل بساطة، ليس من سبيل غير هذا إلى اتباع القداسة.

إن إبليس يحاربنا دوماً ليثنينا عن هذه الخطوة. فلسوف يسعى إلى إقناعنا بأننا نشكو النعاس في الصباح، وكثرة الأشغال خلال النهار، والإرهاق في الليل. فيظهر أنه ليس من وقت مناسب لكلمة الله. وهذا يعني أنه ينبغي أن ندرب نفوسنا لنخصص وقتاً لذلك من برامجنا اليومية. وقد تبين لي أن ساعة الصباح الباكرة قبل الفطور أنفع وقت أمضيه في قراءة الكلمة والصلاة. ولكن هذه الساعة من النهار هي أيضاً الوقت الوحيد الذي فيه أستطيع أن أمارس بانتظام رياضتي المفضلة، وهي العدو الخفيف. وحتى أنجز كل هذا قبل الفطور يجب أن أستيقظ في الساعة الخامسة. وبما إني أحتاج لسبع ساعات من النوم ليلياً، فهذا معناه أن أخلد إلى النوم في العاشرة مساء. وهذا الأمر صعب ولا أقوى على إنجازه إلا عندما أدرب نفسي على تنظيم وقت المساء.

 

والتزود المنتظم من كلمة الله يستلزم علاوة على الوقت المنظم منهاجاً منتظماً. وعادة نظن أن طرق التزود من كلمة الله إنما هي أربع: سماع الكلمة تُفصل (تُشرح) من قبل الخدام والمعلمين (أرميا 3: 15)، قراءتنا الفردية للكلمة (تثنية 17: 19)، دراسة الكلمة بجد ومثابرة (أمثال 2: 1-5)، واستظهار (حفظ) مقاطع مهمة منها (مزمور 119: 8). هذه الطرق كلها ضرورية للتزود المتوازن من الكلمة.

فالرعاة حاصلون على الموهبة من لدن الرب وقد تدربوا على التعليم "بكل مشورة الله". وقراءة الكلمة تؤتينا نظرة إجمالية في الحقائق الإلهية، فيما نتمكن بدراسة مقطع أو موضوع خاص من الغوص في أعماق حقيقة معينة. أما استظهار الكلمة فيساعدنا على تذكر الحقائق المهمة بحيث يمكننا أن نعمل في سلوكنا.

 

ولكن إذا أردنا السعي وراء القداسة بانضباط ذاتي، ينبغي لنا ألا نكتفي بسماع الكلمة أو قراءتها أو دراستها أو استظهارها. إذ يجب أن نتأمل فيها. وقد قال الرب ليشوع عندما كان يستعد لتولي قيادة شعب إسرائيل: "لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك بل تلهج فيه نهاراً وليلاً لكي تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه" (يشوع 1: 8). والتأمل في كلمة الله هو أن ننعم النظر فيها ونقلبها في أفكارنا ونطبقها في مواقف حياتنا. فقليل منا من يمارس هذا التأمل. قد تبدو فكرة التأمل أشبه بما كان يفعله نساك الأديرة في القرون الوسطى. على أن يشوع، القائد الأعلى لجيش إسرائيل، أمر رغم مهماته الجسام بأن يتأمل ملياً بشريعة الله، نهاراً وليلاً.

إن عادة التأمل في كلمة الله، وهي بكل بساطة أن يشغلنا التفكير بالكلمة وتطبيقها في الحياة العملية، هي عادة نكتسبها بالتدرب. وفيما يظن معظمنا أنه يعوزنا الوقت لهذه الأمور، نجد أن في النهار أوقاتاً يمكن استخدامها للتأمل إذا تكونت لدينا هذه العادة.

 

أما الغرض من تأملنا فهو تطبيق كلمة الله عملياً، أي إطاعتها. وهذا أيضاً يقتضي انضباطاً وتدرباً. إذ غالباً ما تفرض علينا كلمة الله أن نجري تغييراً في مناهج حياتنا فلأننا خطاة بالطبيعة، تكونت لدينا مناهج شريرة ندعوها عادات. ولا غنى عن الانضباط للإقلاع عن أية عادة. فإذا كان فتى قد اعتاد استعمال مضرب البيسبول بأسلوب خاطئ فلا يعود بإمكانه أن يغير أسلوب بسهولة. فقد نمت لديه عادة معينة حتى بات يحتاج إلى تدريب مكثف ينطوي على الكثير من التصويب والترويض لإبطال تلك العادة القديمة واكتساب أخرى جديدة.

وبالطريقة عينها، فإن مناهجنا في عصيان الله قد ترسخت عبر سنين عديدة ولا يمكن إبطالها بسهولة أو بلا ترويض وتدريب. ولا يعني أن نصر بأسناننا ونصرح: "لن أكرر ذلك أبداً". بل أن التدرب يعني بالأحرى تمرناً مبرمجاً ونظامياً. فكما تحتاج إلى خطة لقراءة الكتاب المقدس أو دراسته بانتظام، كذلك تحتاج إلى خطة لتطبيق كلمة الله في حياتك العملية.

 

وفيما أنت تقرأ كلمة الله أو تدرسها ثم تتأمل فيها خلال النهار، اسأل نفسك الأسئلة التالية:

1-    ماذا يعملني هذا المقطع بشأن مشيئة الله بخصوص حياة مقدسة؟

2-    أين حياتي من مستوى هذا المقطع؟ وفيم أقصر خصوصاً دون بلوغ الهدف، وكيف؟ (لا تتكلم بشكل عام بل حدد).

3-    أيه خطوات عملية أحتاج لأن أخطوها في سبيل الطاعة؟

4-    والجزء الأهم في هذه العملية المتكاملة هو التطبيق المحدد لكلمة الله في مختلف مواقف حياتنا. فعند هذه النقطة نميل إلى الإبهام لأن التزام خطوات معينة يزعجنا. ولكن علينا أن نبتعد عن الوعود العامة بالطاعة ونهدف عوضاً عن ذلك إلى الطاعة المحددة في حالات معينة. ونحن نخدع نفوسنا عندما ننمو في معرفة الحق دون الاستجابة له على نحو محدد (يعقوب 1: 22)، مما قد يفضي إلى الانتفاخ الروحي (1 كورنثوس 8: 1).

لنفترض أنك كنت تتأمل في الإصحاح الثالث عشر من رسالة كورنثوس الأولى، إصحاح المحبة العظيم. وبينما أنت تفكر في هذا الفصل، تدرك أهمية المحبة والتعبيرات العملية عنها: "المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد". وتسأل نفسك: "هل أنا غير صبور وغير مترفق تجاه أحد، أو هل احسد أحداً؟" وفيما أنت تفكر بهذا، تدرك أنك تحسد يوسف زميلك في العمل الذي على ما يبدو يحظى بالفرص السعيدة كلها. فتعترف بهذه الخطية للرب بالتحديد وتسمي يوسف باسمه وردة فعلك الخاطئة إزاء حظوته. وتسأل الله أن يُغدق عليه بركاته وأن يعطيك أنت روح الرضا والقناعة لتقلع عن حسدك له وتكن له المحبة. ولك أن تستظهر 1 كورنثوس 13: 4 وتفكر بها عندما تلتقي يوسف في العمل، بل تبحث أيضاً عن طرق لمساعدته. ثم تكرر هذا في اليوم التالي وما بعده إلى أن يضع الله في قلبك روح المحبة تجاه يوسف.

هذا هو التدرب في سبيل القداسة. فلن يتأتى لك البتة أن تميت روح الحسد تجاه يوسف دون خطة منهجية محددة. هذه الخطة هي من قبيل ما نسميه انضباطاً وتدرباً.

وقد يتبين لك سريعاً أن هذه الخطة المنهجية للسلوك في القداسة هي عملية تستمر مدى الحياة. ذلك أن المواظبة من أكثر مقومات التدرب أهمية. وكل تدرب، سواء كان جسدياً أو فكرياً أو روحياً، يتميز في مراحله الأولى بالفشل. ويكون الفشل في الأغلب أكثر من النجاح. لكن إذا واظبنا، نلاحظ التقدم تدريجياً حتى نبدأ بالنجاح فيخف الإخفاق. ويصح هذا عندما نحاول أن نميت خطية معينة. فيبدو لنا أول الأمر أننا لم نحرز أي تقدم، فتهن عزيمتنا، ونقول: ما المنفعة؟ لن استطيع أن أتغلب على هذه الخطية. وهذا بالضبط ما يرد إبليس أن نفكر فيه.

عند هذا الحد بالذات يجب أن نمارس المواظبة. فنحن ما نزال نرغب في النجاح الفوري، ولكن القداسة لا تتحقق على هذا النحو، لأن عاداتنا الخاطئة لا تبطل بين ليلة وضحاها. فالمتابعة هنا أمر ضروري لإحداث أي تغيير في حياتنا، ولابد من المثابرة على المتابعة حتى الإنجاز.

في كلمة الله آية استخدمها دائماً لمواجهة فشلي في محاربتي للخطية وهي واردة في سفر الأمثال 24: 16 "لأن الصديق يسقط سبع مرات ويقوم. أما الأشرار فيعثرون بالشر." فالإنسان الذي يدرب نفسه في مسيرته نحو القداسة يسقط عدة مرات، لكنه لا يتراجع. فبعد كل سقطة ينهض ويوالي الجهاد. لكن الأمر مختلف بالنسبة إلى الأشرار. الشرير يعثر بخطيته ويستسلم. فهو لا يملك قوة للتغلب عليها، لأن ليس له روح الله القدوس يعمل في داخله.

كان أشعياء نبياً لله يسلك في بر وصاياه. لكنه لما رأى الرب الإله في قداسته، اضطر أن يصرخ: "ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود" (أشعياء 6: 5).

فبينما ننمو في معرفة قداسة الله، ولو كنا ننمو أيضاً في ممارسة القداسة، يبدو لنا أن الثغرة بين معرفتنا وممارستنا آخذة في الاتساع. وهذا هو أسلوب الروح القدس في اقتيادنا إلى المزيد من القداسة.

كلما تقدمنا في القداسة أبغضنا الخطية (مزمور 119: 104)، وأيقنا أن وصاياه ليست ثقيلة علينا (1يوحنا 5: 3). فإذا أردنا النجاح في حياة القداسة ينبغي علينا أن نواظب رغم المفشلات والسقطات.

 

 

جيري بريدجز

من كتاب "نهج القداسة"