شاطيء الذكريات

منى يعقوب ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٠

شاطيء الذكريات

 

شيخٌ يجلسُ على صخرةٍ ناتئةٍ على رمالِ الشاطيءِ، يَخُطُ بعصاهُ بعضَ الرسوماتِ غير المفهومة، ثم يرفعُ رأسَهُ ويتأملُ أمواجَ البحرِ التي تداعبُ الشاطيءَ من آنٍ لآخر.  وإذ فجأةً تغرورقُ عيناهُ بالدموعِ ويبتسمُ إبتسامةً خفيفةً ثم يتنهدُ تنهدَ المحبِ عندما يتذكرُ مَحبوبَهُ، يراقبُ الشمسَ بقرصِها الأحمرِ الدامي وهي في طريقِها الى المغيب ثم يتنهدُ مرةً أخري وينظرُ الى الأفقِ البعيد ويغوصُ في بحرِ الذكريات.  ذكريات يوم لاينسى، يوم شاق حافل بالأحداث، بدأ بجموع غفيرة تجتمع قرب الشاطىء لكي يروا، ويسمعوا، ويستمتعوا بما لم يروه أو يسمعوه من قبل، وانتهي نهاية عجيبة تقشعر لها الأبدان عند سماعها. فبعد أن غادر الجمعُ لم يبقَ لنا سوى أن نركبَ السفينة إذ طلب يسوعُ أن نجتازَ الى العبرِ. كان دائمًا مهمومًا بتلبية إحتياجاتِ شعبه. كنت أراه نبيًا، إنسانًا متميزًا يحملُ في قلبِهِ كلَ ماتحملُ الإنسانيةُ من معان. وما أن دخلنا السفينة بدأ الظلامُ يرخي سدولَهُ على المكان. وبعد أن قطعنا شوطا لابأس به وصرنا في عرض البحر حدث ما لم يكن في الحسبان أو سبق أن شاهدته في حياتي، رياح عاصفة ذكرتني بما كنا نسمعه عن غضب الآلهة والأشباح والشياطين في الثقافات المحيطة بنا. واعتراني خوف وفزع لم أختبرهما في حياتي من قبل. ماعسى أن يكون هذا؟ هل هذه هي النهاية؟ وكدت أصرخ حتى سمعت صيحات وصراخ سائر التلاميذ "نجنا ياسيد إننا نهلك". فقد إستحوذ علي الخوف وتملكتني الدهشة حتى أنني نسيت أن يسوع كان معنا. ولم يفقني ويفلتني من شباك الفزع سوى صرخات أصدقائي الذين لم يجدوا ملاذا سواه. يالهي! تسري الرعدة في أوصالي حينما أتذكر ماحدث. في سلطان عجيب وقف يسوع ونظر الى تلاميذه نظرة عتاب "كيف أكون معكم، ويتملك منكم الخوف الى هذه الدرجة؟  لماذا ياقليلي الإيمان؟ أما رأيتم عجائبي وإختبرتم حبي لكم!؟ أتظنون أنه من الممكن أن أدعكم تهلكون؟" ثم رفع يده وأمر العاصفة أن تهدأ. وفي لمحِ البصر هدَأَتْ الأمواجُ الغاضبة وتحولت الريحُ العاتية الى نسمةِ هواء خفيفة تداعب شراعنا. تملكتني الدهشةُ حتى أنني ظللتُ لوهلةٍ فاغرَ فمي أنظرُ إليه في ذهول. من عساكَ أن تكون؟  نظر اليَّ وابتسم، فقد أدرك ماكان يدور بخاطري، وتساءلت عيناه: أحقا لاتعرف من أكون؟ ويتمتم الشيخُ: نعم، كم كنت أحمقًا وساذجًا، أعمي لاأبصر، وأصمًا لاأسمع!  أطلب عفوك ياسيدي. كيف شككت فيك يومًا وأنت ربي وإلهي!؟ ومثلما هدَّأتَ العاصفةَ والأمواجَ، هدَّأتَ سمعانَ بأعاصيرِهِ وغضبهِ وتهورهِ، وحولتَهُ الى بطرسَ. غيرت فيَّ الكثيرَ ياربي، وأرَيتَني حبَ الإلهِ كم يكون. قبلتنى كما أنا، سمعان الصياد الفقير، بكل ضعفاته ونقائصه، وغيرتني، أنعمتَ علي بحبِكَ ومنحتني ثِقتَكَ أن أرعى غنمك. لا أَملِكُ سيدي سوى أن أشكرك، فقد أوليتني شرفًا لاأستحقُهُ. ويهز الشيخ رأسه، ويبتسم ابتسامةً هادئة تعبر عن سلام القلب وهدوء النفس، ثم يتأهبُ لمغادرةِ الشاطيء متكئًا على عصاه، وقبل أن ينصرفَ يجولُ بنظرهِ مودعًا المكان الذى يحملُ أجملَ الذكريات، فهو يفتقد يسوع بشدة ولكن عزاءه أنه سوف يلقاه عن قريب.

 

منى يعقوب