الرجاء

سي. إس. لويس ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

الرجاء واحدةً من الفضائل اللاهوتية. وهذا يعني أن التطلع الدائم إلى العالم الأبدي ليس شكلاً من أشكال الهروب أو التفكير الذي تُمليه الرغبات (على  حد ما يتصوره بعض المعاصرين)، بل هو أمر من الأمور التي يُقصد للمسيحي المؤمن أن يقوم بها. ولا يعني هذا أن علينا أن نترك العالم الحالي على ماهو عليه. فإذا قرأت التاريخ يتبين لك أن المسيحيين الذين أفادوا العالم الحالي أكثر من سواهم بما فعلوه هم فعلاً أولئك الذين كان معظم تفكيرهم في العالم الآتي. ذلك أن الرسل أنفسهم، إذ أطلقوا شرارة هداية الإمبراطورية الرومانية، والرجال العظماء الذين بنوا حضارة العصور الوسطى، والإنجيليون الإنكليز الذين أبطلوا تجارة العبيد، جميعهم خلفوا سمتهم على الأرض تماماً لأن عقولهم كانت تشغلها السماء.

فلأن المسيحيين كفوا إلى حد بعيد عن التفكير في العالم الآخر، صاروا عديمي الفعالية للغاية في هذا العالم. فصوب سهامك نحو السماء تصب الأرض أيضاً، وصوبها نحو الأرض فلا تُصيب كلتيهما. قاعدة تبدو غريبة، ولكن شيئاً مثلها يمكن أن نراه ساري المفعول في شئون أخرى. فالصحة مثلاً بركة عظيمة، ولكنك حين تجعل الصحة واحداً من أهدافك الرئيسية المباشرة تبدأ في أن تصير مهووساً ومتوهماً بأن بك علة ما. فأنت لن تكسب الصحة على الأرجح إلا إذا طلبت بالأحرى أموراً أخرى، كالطعام والرياضة والعمل والترفيه والهواء الطلق. وعلى غرار هذا، فلن تُنقذ المدنية أبداً مادامت المدنية هي هدفنا الرئيسي. فيجب علينا أن نتعلم طلب شيئٍ آخر طلباً أشد.

يستصعب معظمنا كثيراً أن يطلبوا "السماء" أساساً، إلا بمقدار ما تعني "السماء" اجتماع شملنا بأحبائنا الذين رقدوا. ومن أسباب هذه الصعوبة أننا لم نُدرب التدريب الصحيح: فتربيتنا بكاملها تميل إلى تثبيت أذهاننا على هذا العالم. ومن أسبابها أيضاً أنه حين يوجد فينا طلب السماء حقاً لا ندركه فعلاً. وأغلب الناس، إذا تعلموا النظر إلى داخل قلوبهم، فمن شأنهم أن يعرفوا أنهم يطلبون أشياء من كل صنف تَعِد بإعطائك ذلك الشيء، غير أنها لا تفي بوعدها أبداً. أول مرة، أو حين نتناول أول مرة موضوعاً نتحمس له، لهي أشواق لا يمكن أن يُشبعها أي زواج أو سفر أو تعلم. لست الآن في معرض الكلام عما يُدعى في العادة زيجات ناجحة أو عطلاتٍ ممتعة أو تحصيلاً علمياً مفيداً، بل أتكلم عن أفضل ما يمكن في هذه المساعي كلها. فقد كان في اللحظات الأولى أن تلك الأشواق شيء تَطلعنا إليه وما لبث أن تلاشى في الواقع تماماً. وأعتقد أن الجميع يعلمون ما أعنيه. فربما كانت الزوجة صالحة، والفنادق والمناظر رائعة، والكيمياء تخصصاً علمياً مفيداً على الصعيد المهني، ولكن شيئاً ما يكون قد فاتنا فعلاً. والآن، ثمة طريقتان خاطئتان للتعامل مع هذا الواقع، وطريقة صحيحة واحدة:

1.     طريقة الساذج المغفل: إذ يُلقي اللوم على الأشياء ذاتها. فهو يقضي حياته كلها حاسباً أنه فقط لو جرب امرأة أخرى، أو قضى عطلة أغلى نفقة، أو مهما كان سوى ذلك، لأتيح له تلك المرة فعلاً أن يظفر بذلك الشيء الغامض الذي نطلبه كلنا. ومعظم الأغنياء الذين يعانون الضجر وعدم الرضى في هذا العالم هم من هذا النوع. فهم يقضون حياتهم بكاملها متنقلين من امرأة إلى أخرى (بمحاكم الطلاق)، ومن قارة إلى أخرى، ومن هواية إلى هواية، متصورين دائماً أن الأحدث في ذلك كله هو الضالة المنشودة أخيراً، إلا أنهم دائماً يخيبون.

2.     طريقة "العاقل" الخائب: فهذا سرعان ما يُقرر أن الأمر كله كان مجرد سراب، ويقول: "طبعاً، ذلك الشعور الحماسي يُداخل المرء وهو شاب. ولكن عندما تبلغ مثل سني، تتخلى عن مطاردة الوهم." ومن ثم يضع قراره ويتعلم ألا يتوقع الكثير، ويقمع من نفسه ذلك الجزء الذي كان من عادته أن "يطلب المستحيل" على حد قوله. وهذه بالطبع طريقة أفضل من الأولى بكثير، وهي تجعل الإنسان أسعد بكثير وأقل أذى للمجتمع. ولئن مالت إلى جعل الإنسان متزمتاً (إذ يكون ميالاً بالحري إلى الاستعلاء على أولئك الذين يعدوهم "مراهقين")، فهو عموماً يشق طريقه في الحياة بكثير من الراحة. ومن شأن هذه الطريقة أن تكون أفضل سبيل نسلكه لو كان الإنسان لا يحيا إلى الأبد. ولكن ماذا لو أن السعادة القصوى كانت بالحقيقة هناك في انتظارنا؟ ماذا لو كان في وسع المرء حقاً أن يبلغ الضالة المنشودة؟ في هذه الحالة يكون مدعاةً للرثاء أن يتبين لنا بعد فوات الألوان (بعد الموت بلحظةٍ واحدة) أننا "بفطرتنا السليمة" المفترضة قد خنقنا في نفوسنا إمكانية التمتع بها.

3.     الطريقة المسيحية: حيث يقول المسيحي المؤمن: "ليس الخلائق بمولودين ولديهم رغبات معينة إلا لأن إشباع هذه الرغبات ممكن فعلاً. فإذا شعر الطفل بالجوع، فهناك الطعام. إذا رغب فرخ البط في السباحة، فهناك الماء. وإذا تحركت رغبة الرجل الجنسية، فهناك الجنس. وحين أجد في نفسي شوقاً لا يمكن أن يلبيه أي اختبار في هذا العالم، يكون التفسير الأكثر احتمالاً أننني قد صنعت لأجل عالم آخر. وإذا كان لا يشبعه أي نوع من مسراتي الدنيوية ، فلا يبرهن ذلك أبداً أن الكون كله سراب بسراب. فلعل المسرات الدنيوية لم يكن قط مقصوداً لها أن تُشبِع هذا الشوق، بل أن تثيره فحسب، كي تنبهنا إلى الضالة المنشودة الحقيقية. ومادامت الحال على هذا المنوال، فعلي أن أحرص، من ناحية، على ألا أحتقر أبداً هذه البركات الدنيوية، أو ألا أكون شكوراً عليها، ومن ناحية أخرى على ألا أخلط أبداً بينها وبين ذلك الشيء الآخر الذي ليس سوى صورة له، أو صدى، أو سراب. فعليّ أن أُحيي في نفسي الشوق إلى وطني الحقيقي الذي لن أبلغه ألا بعد رحيلي من هنا، وعليّ ألا أدعه أبداً يغيب عن بالي أو يُنحي جانباً، بل يجب أن أجعل هدف حياتي الأساسي أن أمضي قدماً نحو ذلك الوطن وأساعد الآخرين على أن يحذوا حذوي."

ولا داعي لأن يُقلقنا المازحون الذين يحاولون تسفيه الرجاء المسيحي المتعلق "بالسماء" بقولهم إنهم لا يرغبون "أن يقضوا الأبدية عازفين القيثارات". فالرد على أُناس كهؤلاء أنه إن كانوا لا يقدرون أن يفهموا كُتباً مكتوبة للراشدين فعليهم ألا يتحدثواعنها. ذلك أن كل ما ورد في الكتاب المقدس من صور بيانية أو استعارات (كالقيثارات والأكاليل والذهب إلخ...) هو بالطبع مجرد أسلوب رمزي للتعبير عما يفوق التعبير. فالآلات الموسيقية مذكورة لأن الموسيقى في نظر الكثيرين (وليس الجميع) هي ذلك الأمر المعروف في الحياة الحاضرة الذي يوحي على أقوى ما يكون بالبهجة واللامحدودية الفائقيتن. والأكاليل أو التيجان مذكورة لتوحي بحقيقة كون أولئك الذين سيتحدون بالله في الأبدية سيكون لهم نصيب من بهائه وسلطانه وفرحه. والذهب مذكور ليوحي بسرمدية السماء (لأن الذهب لا يصدأ) وكرامتها الثمينة جداً. فيحسن بأولئك الذين يأخذون هذه الرموز على محمل حرفي أن يحسبوا كذلك أن المسيح لما طلب منا أن نكون كالحمام عني أن علينا أن نبيض!

 

سي. إس. لويس

من كتاب "المسيحية المجردة"