الألم.. إلتزام ومصداقية

أجيث فرناندو ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

كثيراً ما تحدث الرسول بولس بشأن آلامه لأجل الإنجيل كدليل على مصداقيته. وقد قام بولس بذلك عدة مرات في رسالته الثانية إلى مؤمني كورنثوس للدفاع عن رسوليته التي كانت موضع شك عند البعض. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك ما ورد في الأصحاح 6، والأعداد 4-10، والتي تبدأ بالكلمات التالية: "بل في كل شيء نُظهر أنفسنا كخدام الله" (العدد 4). ثم يُدرج بولس الأسباب التي تجعله يتصرف كخادم للرب. وتتألف قائمة الأسباب التي يذكرها بولس من ثلاثة أجزاء: ففي الجزء الأول، يستعرض عشرة عناصر لألمه ومعاناته: "في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات، في ضربات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام" (4-5). وفي الجزء الثاني، يستعرض ثمانية عناصر لقداسته: " في طهارة، في علم، في أناة، في لطف، في الروح القدس، في محبة بلا رياء، في كلام الحق، في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار" (العددان 6 و 7). وفي الجزء الثالث والأخير يستعرض تسعة عناصر أخرى لمعاناته: "بمجد وهوان، بصيت ردئ وصيت حسن. كمضلين ونحن صادقون، كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا، كمؤدبين ونحن غير مقتولين. حزانى ونحن دائماً فرحون، كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (الأعداد 8-10).

وهكذا دافع الرسول بولس عن مصداقيته من طريق استغراض تسعة عشر عنصراً للألم، وثمانية عناصر لقداسته. وهاتان هما الوسيلتان الرئيستان لربح قلوب الناس الذين نقودهم: القداسة والمعاناة لأجل السيد المسيح.

وقد كتب بولس إلى مؤمني غلاطية الذين ضلوا عن الحق بسبب بعض المعلمين الكذبة الذي رفضوا رسالته ورسوليته، فقال: "في ما بعد لا يجلب أحد على أتعاباً، لأني حامل في جسدي سمات الرب يسوع" (6: 17). فكما أن "سمات" أو ندوب العبد تعلن هوية سيده، فإن السمات التي حصل عليها بولس نتيجة الضرب تشهد عن أصالته كعبد للسيد المسيح.

ويبدأ بولس القسم العملي من رسالته إلى مؤمني أفسس بالكلمات التالية: "فأطلب إليكم، أنا الأسير في الرب: أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها" (4: 1). فحقيقة أنه سُجن لأجل الرب يُؤهله لحث قرائه على السلوك كما يحق للدعوة التي دعوا إليها. أما في وقتنا الحاضر، فقد صار مثل هذا الحث شيئاً قديماً وبالياً في نظر كثيرين. بل إن البعض يرى فيه نوعاً من العجرفة – ولا سيما أولئك الذين لا يرغبون في الالتزام نحو الحق المطلق الذي تُعلمه كلمة الله.

والأدهى من ذلك هو أن بعض الإنجيليين يخجلون من مجرد ذكر نصائح أسلافهم المُتشددين الذين تكلموا بسلطان، لكنهم فعلوا ذلك بطريقة برهنت على أنها عقيمة. وهكذا، فقد كان هناك تغير في أسلوب إعلان الحق في الكنيسة، فيبدو أن التسلية حلت محل الشغف (والاهتمام بآلام المسيح) كوسيلة لاجتذاب الناس إلى الكنيسة.

وللأسف الشديد، فإننا نفسد الأمر من طريق سماحنا للشغف بأن يصير مجرد شكل خارجي جميل لكنه يخلو من أي أساس متين من الإخلاص. فقد سمحنا لبعض الوعاظ المشهورين الذين تخلو حياتهم من القداسة، والذين يزدادون ثراء من الوعظ بدلاً من أن يعانوا لأجل الإنجيل، بأن يصيروا مُمثلين بارزين للمسيحية. لكن شعف الدجالين هو شغف زائف. فقد نجح ادولف هتلر في تضليل أمة بكاملها من طريق خطاباته الحماسية. كما أنه قادهم إلى القيام بأشياء لم يتوقعوا يوماً القيام بها. لذلك فقد صار الناس يتشككون في الأشخاص الشغوفين في أيامنا هذه .فالبعض يرى أن هذا الشغف ما هو إلا وسيلة تسويقية للتأثير في الناس – تماماً كما يفعل تجار السيارات المستعملة.

لكن الشغف الحقيقي هو سمة من سمات الوعظ الكتابي (إرميا 20: 9، يوحنا 5: 35، 1 كورنثوس 9: 16). كيف يُمكننا إذاً أن نستعيد هذا الشغف؟

وكيف يُمكننا أن نُعيد هذا الحض الحقيقي إلى كنائسنا؟ إحدى الطرق الرئيسية هي أن يكون لدينا وعاظ متحمسون للحق الكتابي من خلال عمل الروح المقدس، وأن يكونوا مُستعدين لدفع ثمن تمسكهم بهذا الحق. فالكلمة الإنكليزية "Passion" (والتي تترجم "شغف") مُشتقة من الكلمة الاتينية "Passio " (والتي تعني: "الألم" أو "المعاناة").

عندما قرأ الشاب الياباني "تويوهيكو كاغوا" (1888-1960) قصة صلب يسوع للمرة الأولى، تأثر غاية التأثر وسأل: "هل صحيح أن أولئك الرجال القساة عذبوا يسوع، وجلدوه، بصقوا عليه؟" وقد كانت الإجابة التي تلقاها هي: "أجل، هذا صحيح!" وعندها، سأل ثانية: "وهل صحيح أن يسوع غفر لهم قبل أن يموت على الصليب؟" وكانت الإجابة هي: "أجل، هذا صحيح!" حينئئذ، قال كاغوا: "يا الله، اجعلني مثل يسوع". وقد آمن كاغوا بيسوع وصارت تلك هي صلاته الدائمة طوال حياته.

ومع أن عائلة كاغوا تبرأت منه، فإنه ظل صامداً في إيمانه والتحق بإحدى كليات اللاهوت. وفي أثناء دراسته أُصيب بمرض السل وأوشك على الموت. وقد رأى كاغاوا الفقر، والاستغلال، والدعارة في المدينة ففزع لذلك. وعلى الرغم من تدهور حالته الصحية، فقد عاش في أحياء فقيرة وكافح لأجل الفقراء طوال خمسة عشر عاماً. وقد صار كاغاوا مُبشراً عروفاً ومُصلحاً اجتماعياً مشهوراً.

وبينما هو في زيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تكلم في اجتماع فقال أحد الحاضرين لزميله: "إنه لم يقل الكثير، أليس كذلك؟" فأجابه زميله: "أنت محق، فهو لم يقل الكثير، لكن حين تكون مُعلقاً على الصليب فأنت لست مُضطراً إلى قول الكثير".

إن السخرية تنمو وتتفاقم في الكنيسة. وقد رأى المؤمنون الكثير من القادة يُخفقون في العيش كما يحق للدعوة التي دُعوا إليها. كما أنهم رأوا الأنانية بأبشع صورها من خلال تحول جدول الأعمال المطروح في الكنيسة إلى جدول أعمال يخدم مصالح القائد الشخصية وليس ملكوت الله. وقد رأوا أيضاً أن قادة الكنيسة يستخدمون الكنيسة لتحقيق الثراء من طريق استغلال الأشخاص الضعفاء والعاطفيين. وقد رأوا بعض الوعاظ الذين لا يمارسون ما يعظون به. وقد رأوا قادة يدعون المؤمنين إلى الالتزام نحو مهمة ما، ثم يستغلون الأشخاص الذين التزموا نحوهم.

وفي حال استمرار هذا النهج، قد يخيم عصر الظلام على الكنيسة. وإذا استمر القادة الذين يُنادون بالحق في عدم تطبيق ذلك الحق في حياتهم الشخصية، سينتهي الأمر بالمؤمنين إلى رفض الرسالة التي يعظن بها. كيف يُمكننا إذاً أن نجعل الناس يحترمون الحق في الكنيسة من جديد؟ إحدى الطرق الكفيلة بذلك هي أن نُعلن الحق بحكمة وبمسحة من الروح القدس. وإحدى الطرق الأخرى هي أن يحرص القادة على عيش الحياة المسيحية بأمانة، وعلى دفع الثمن اللازم للقيام بذلك. فنحن بحاجة إلى قادة لديهم الاستعداد الكافي للتضحية براحتهم ورفاهيتهم وسمعتهم لأجل الحق. ونحن بحاجة إلى قادة لديهم القدرة على إظهار فرح الرب في حياتهم في وسط المعاناة لأجل الحق لكي يشهدوا عن عظمة الإنجيل الذي ينادون به. فحينئذ فقط، سيستنتج الناس أنه إن كان الألم أضعف من أن يسلبنا فرحنا، فإن حياة الطاعة لله هي بالفعل أفضل طريقة للحياة.

ربما يعاني أحد قراء هذا الكتاب من أجل الحق ويجد صعوبة بالغة في احتمال الألم. وربما يكون هذا الشخص المتألم هو أنت! بل ربما كان الأصعب من ذلك هو أن يكون الناس من حولك يشعرون بالأسف عليك. وربما تعاني من ظروف صعبة وغير مريحة بسبب تمسكك بالسيد المسيح. إذا كنت كذلك فلا تستسلم! "فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل" (غلاطية 6: 9). فكما ترى، فإن الأمر لا يقتصر على الحصاد الذي سنجنيه، بل إننا سنساعد غيرنا أيضاً في تغيير موقف الكنيسة من قادتها. كما أننا سنساعد المؤمنين في تصديق أن هناك قادة يتصفون بالنزاهة. وهذا – بدوره – سيساعد في حض كل مؤمن في الكنيسة على التحلي بالنزاهة في حياته الشخصية.

نحن نعتمد كثيراً على المتطوعين في خدمتنا. وقد تبين لنا على مر السنين أن المتطوعين الأكفاء لن يظلوا ملتزمين نحو برنامج الخدمة إن لم يكن قادتهم يخدمون بجد ويدفعون ثمن هذا الالتزام. أما عندما يرى المتطوعون أن قادتهم ملتزمون نحو برنامج الخدمة بشغف، وأنهم يعانون كثيراً بسبب التزامهم هذا، فسيجدون الدافع الكافي لدفع الثمن هم أيضاً. وهكذا، فإن التزام القادة يُفضي إلى التزام تابعيهم.

إن الكنيسة في وقتنا الحاضر تُعاني من أزمة التزام. فمن الصعب أن تجعل الناس يكرسون أنفسهم وطاقتهم على حسابهم الشخصي في سبيل رؤية الكنيسة تنتعش. لهذا، فإن بعض الكنائس تعين خداماً متفرغين لتوفير الخدمات المختلفة لأعضائها. لكن هذه ليست سوى استراتيجية تسويقية تساعد في النمو العددي في الكنيسة. لهذا، فإن البعض يذهبون إلى كنيسة معينة لأن لديها برنامجاً للأطفال أو الشباب، أو لأنها تمتلك فريق تسبيح بارعاً في الموسيقى والترنيم. والمشكلة هنا هي أن كثيرين يأتون إلى الكنيسة لا لكونهم خُداماً فيها، بل هم أفراد مًستهلكون للخدمات التي توفرها!

لكن عندما ننظر إلى الكنيسة الأولى في الكتاب المقدس، نرى أن آلام القادة كانت تًشجع أعضاء الكنيسة على الالتزام. فالرسول بولس يقول لمؤمني كنيسة فيلبي إن قيوده "آلت أكثر إلى تقدم الإنجيل" (فيلبي 1: 12). وهو يوضح قائلاً: "حتى إن وثقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية وفي باقي الأماكن أجمع" (العدد 13). وقد كان لهذا تأثير إيجابي في الكنيسة في روما (على الأرجح) حيث إنه يقول: "وأكثر الإخوة، وهم واثقون في الرب بوثقي، يجترئون أكثر على التكلم بالكلمة بلا خوف" (العدد 14). وهذا يرينا أن جرأة بولس في السجن شجعت المؤمنين الآخرين على أن يكونوا جريئين هم أيضاً.

بل إن بولس يقول لمؤمني أفسس إن آلامه لآجلهم هي مجدهم: "لذلك أطلب أن لا تكلوا في شدائدي لأجلكم التي هي مجدكم" (أفسس 3: 31). فعندما يتألم قادتنا لأجلنا، فإن هذا يرفعنا ويُشعرنا بالفخر؟

ويُعبر يسوع عن المجد المتأتي من مثل هذه المعاناة من طريق توضيح التباين بينه كراع صالح وبين الرعاة المأجورين الذين يولون الأدبار (يديرون ظهورهم ويمضون في طريقهم) عندما تحيط الأخطار بالخراف. فالراعي الصالح يموت عن خرافه (يوحنا 10: 11-15). وما أكثر الأشخاص الذين يأتون إلى كنائسنا في وقتنا الحاضر بعد تعرضهم لتجارب مريرة وخيبات أمل مؤسفة، لأن الأشخاص الذين وثقوا بهم تخلوا عنهم في أحلك الأوقات! وقد يكون هؤلاء الأشخاص الذين تخلوا عنهم هم أهلهم، أو أفراد عائلاتهم، أو معلميهم، أو زملائهم، أو قادة كنائسهم. وبسبب الآلام التي يشعر بها هؤلاء، قد يجدون صعوبة بالغة في تصديق أن الله نفسه يهتم بأمرهم أو  يعتني بهم بالفعل. وكم يكون الأمر مُعزياً لهم عندما يصادفون قائداً ملتزماً بحق من نحوهم، أو قائداً مُستعداً لاحتمال الألم والتعب والخسارة المالية أو أي نوع من المشقات لأجلهم!

وحين يجد الناس مثل هذا الالتزام من القادة، سيتجاوبون – هم أيضاً – بالالتزام من نحو البرامج التي يقدمها أولئك القادة. فإن كان القادة يموتون – حرفياً أو مجازياً – من أجل الناس، فسيموت الناس من أجل الكنيسة. وفي أيامنا هذه، ما أكثر ما نسمع القادة يتذمرون من عدم التزام أعضاء الكنيسة! وقد يعقد هؤلاء القادة برامج تدريبية منوعة تزيد أعداد الأعضاء المتلزمين نحو برامج الكنيسة ورفع كفاءتهم. وقد تكون هذه البرامج مفيدة حقاً، لكني أظن أن السر يكمن في عمق محبة القادة لهؤلاء الأشخاص.

فإن كانوا هم أنفسهم ملتزمين، سيفضي التزامهم إلى التزام هؤلاء الناس. ذات مرة، واجهت تحدياً صعباً في أن أكسب ثقة زميل لي في الخدمة (التي أعمل بها) قد كُلِفت بالإشراف عليه. فالشخص الذي كان يُشرف عليه سابقاً، والذي كانت تربطه به صداقة متينة، كان قد ترك الخدمة. وقد كان لتلك الواقعة تأثير مُحبط في هذا الزميل الذي أتحدث بشأنه. وما إن تسلمت هذه المهمة حتى أدركت أن زميلي يفتقر إلى الدافع للقيام بعمله. وفي الحقيقة أني وزملائي الآخرين في الخدمة لم نعرف ما الذي ينبغي لنا فعله. كما أننا فكرنا في أن نطلب منه أن يقدم استقالته. وعلى أية حال، فقد تغير موقفه بمرور الوقت. وفي الوقت الحاضر، صار هذا الزميل خادماً جديراً بالثقة، بل إنه قدم تضيحات كبيرة لأجل الخدمة. كما صار أحد أصدقائي المقربين الذين كان لهم دور كبير في إظهار نعمة الله لي بطريقة حية.

وبعد سنوات من تغير موقفه نحو الأفضل، أخبرني بأن أحد العوامل الرئيسة في تغير موقفه وسلوكه هو ما حدث يوم وفاة والد زوجته. ففي ذلك الوقت، لم تكن علاقته بهيئة الخدمة جيدة. لكن ما إن سمعت أنا بموت والد زوجته حتى هرعت إليه.

وعندما وصلت إلى هناك، علمت أن الحصول على شهادة وفاة لن يكون بالأمر السهل (في البلد التي كنا بها) – ولا سيما أن الوفاة حدثت في المنزل. وبسبب عمري وبعض العوامل الأخرى، كان وجودي مع العائلة ومساعدتهم في ذلك الأمر مفيداً. فعلى الرغم من مشاغلي الكثيرة في ذلك اليوم، فإني أمضيت فترة الصباح كلها مع زميلي في مراجعة الدوائر الرسمية ومقابلة المسئولين إلى أن حصلنا على شهادة الوفاة. وقد أخبرني زميلي بأن ما فعلته في ذلك الصباح كان عاملاً حاسماً في حفزه على تغيير موقفه من نحوي.

وفي أيامنا هذه، هناك كنائس كثيرة تتبع نهجاً مؤسسياً في الإدارة يقوم على التركيز على تنفيذ البرامج وتحقيق أهداف الكنيسة. وقد صار الوصف الوظيفي للقادة يركز على المهام وليس على رعاية المؤمنين. وهناك كتاب من تأليف "غلين فاغنر" (Glenn Wanger)  يُسلط الضوء عى هذه الأزمة التي نواجهها، وهو بعنوان "الهرب من التفكير في الكنيسة كشركة تجارية: عودة القسس إلى خدمتهم" (Escape from Church Inc.: The return of the Pastor- Shepherd)

لقد صارت فكرة وجود قائد يعتني بمجموعة صغيرة من الأشخاص ويُعلمهم، يهتم بهم – فكرة رجعية عند البعض. ويبدو أن البعض ينظر إليها كمهمة شاقة يصعب القيام بها. فالوعاظ لا يريدون أن يقحموا أنفسهم في مهمة محبطة تتطلب منهم القيام ساعات طويلة في زيارة الأشخاص المتألمين وفي مساعدتهم في حل مشكلاتهم. ففي رأيهم، من الأفضل أن يقوم الاختصاصيون بهذا الأمر. فهناك مشيرون متخصصون وخبراء آخرون لمساعدة الناس في حل مشكلاتهم وفي تسديد حاجاتهم. وهكذا، فقد صار الرعاة يقومون بزيارات رعوية فقط. كما أن الوعاظ يركزون على الوعظ دون سواه.

على الرغم من ذلك، فإن هذا النموذج لا يصلح للتعبير عن الالتزام الحقيقي. فحيث إن التركيز ينصب على البرامج والخدمات المقدمة إلى المستهلك، صار من السهل على الناس أن يغيروا كنيستهم وأن يبحثوا عن كنيسة أخرى تقدم إليهم برامج أو خدمات أفضل. فقد يواظبون على الذهاب إلى كنيسة ما لبعض الوقت لأنها تقدم برامج معينة. لكن إن شعروا بأن ما يحتاجون إليه في مرحلة ما من حياتهم متوافر في كنيسة أخرى، فإنهم لا يترددون في الانتقال إلى تلك الكنيسة!

وفي الحقيقة. عندما تصير هناك مبالغة كبيرة في التركيز على التخصصات في الكنيسة، ستفقد الكنيسة يصيرتها وقدرتها على اختراق قلوب الناس ومساعدتهم في التغير. ومع أن الوعظ الجيد يتطلب دراسة متأنية للكلمة وللعالم، وهذا هو ما يبرع فيه الوعاظ المتخصصون في فن الوعظ الجيد يتطلب – في الوقت نفسه- خبرة عملية في الفشل والنجاح، وفي الفرح والألم الناشئين عن الخدمة في وسط الناس. فمن دون ذلك، قد تبلغ العظات مستويات رفيعة من الجودة والبراعة التقنية، لكنها ستفتقر إلى البصيرة والتأثير. فإذا نظرنا إلى عظماء القادة المسيحيين ]من أمثال مارتن لوثر، وجون كالفن، وأغسطينوس (Augustine) ، جون وسلي(John Wesley)  [ ممن كان لوعظهم ومؤلفاتهم تأثير هائل في تاريخ الكنيسة، فسنرى أنهم كانوا يقضون وقتاً طويلاً أيضاً في خدمة الأفراد.

وهكذا، فالقادة الكتابيون هم رعاة يحبون رعاياهم ويبدون استعدادهم للموت لأجلهم. والتزامهم هذا هو الذي سيولد التزاماً لدى تابعيهم.

 

أجيث فرناندو

من كتاب "الدعوة إلى الفرح والألم"