انضباط العزلة، والصمت

ريتشارد فوستر ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

"سكِّن نفسك في إطار العزلة تلتقِ الرب في نفسك"

 

(تريزا الآفيلية)

 

 

 

 

إن المسيح يدعونا من الوحدة إلى العزلة. والخوف من ترك المرء وحده يصعق الناس. فرُب فتاة جديدة في الحي تقول لأمها باكية: "لا أحد يلعب معي أبداً". ورُب شاب في السنة الجامعية الأولى يحن إلى أيام المدرسة الثانوية حين كان قطب الجاذبية: "أنا الآن نكرة". ومديرة أعمال تجلس مكتئبة في مكتبها, قوية لكن وحيدة. وعجوز تستلقي في دار عجزة بانتظار أن تمضي إلى "البيت".
وخوفنا من أن نترك وحدنا يدفعنا إلى حيث الضوضاء والجموع. فنحافظ على سيل دائم من الكلمات حتى لو كانت تافهة. ونشتري راديوهات تُربط في معاصمنا, أو تُركز فوق آذاننا, حتى إذا لم يكن بقربنا أحد لا يُحكم علينا بالصمت على الأقل. وقد أحسن تي. أس. إليوت تحليل الحضارة الغربية إذ كتب: "أين سيوجد العالم, أين ستتردد أصداء الكلمة؟ ليس هنا, حيث لا صمت كاف!".

 

لكن الوحدة أو الثرثرة ليستا الخيارين الوحيدين أمامنا, ففي وسعنا أن نتعهد عزلة وصمتاً داخليين يحرراننا من الوحدة والخوف. ذلك أن الوحدة فراغ داخلي, أما العزلة فشبع داخلي.

 

والعزلة حالة ذهنية وقلبية أكثر من أن تكون مكانية. فثمة عزلة قلبية يمكن الحفاظ عليها كل حين. وليس لحضور الجموع أو لغيابها كثير من العلاقة بهذه اليقظة الداخلية. فمن الممكن أن يكون المرء ناسكاً في الصحراء ولا يختبر العزلة أبداً. أما إذا كانت لنا عزلة داخلية, فلا نخشى البقاء وحدنا, لأننا نعلم أننا لسنا وحيدين. ولا نخشى أيضاً أن نوجد مع الآخرين, لأنهم لا يسيطرون علينا. ففي خضم الضجيج والتشويش, نستقر في صمت داخلي عميق. وسواء أبمفردنا كنا أم بين الناس, نحمل معنا دائماً مقدساً قلبياً قابلاً للحمل والنقل.

 

هذا, وإن للعزلة الداخلية تجلياتها الخارجية. إذ تتوافر حرية كون المرء وحده, لا ليكون بمنأى من الناس, بل يسمع الهمس الإلهي بطريقة أفضل. فإن المسيح عاش في "عزلة قلبية" داخلية. وقد اختبر أيضاً العزلة الخارجية تكراراً. فقد استهل خدمته بقضائه أربعين يوماً وحيداً في البرية (متى 4: 1 -11). وقبل اختياره للاثنى عشر, قضى الليل كله وحيداً في التلال البرية (لوقا 6: 12). ولما بلغه نعي يوحنا المعمدان "انصرف من هناك في سفينة إلى موضع خلاء منفرداً" (متى 14: 13). وبعد الإشباع المعجزي للخمسة الآلاف, "صعد إلى الجبل منفرداً..." (متى 14: 23). في أعقاب ليل طويل حافل بالعمل "في الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء... (مرقس 1: 35). ولما رجع الاثنا عشر من إرسالية شفاء وتبشير, وجههم يسوع قائلا: "تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء" (مرقس 6: 31). وعلى أثر شفاء أبرص, "كان يعتزل في البراري منفرداً ويصلي" (لوقا 5: 16). وبصحبة ثلاثة من تلاميذه, طلب صمت جبلٍ منفردٍ ليكون مسرحاً للتجلي (متى 17: 1-9). وعند استعداده لعمله الأسمى والأقدس, التمس عزلة بستان جثماني (متى 26: 36-46). ولئن كان في وسعي أن استمر, فربما هذا كاف لتبيين كون المسيح قد طلب الأماكن المعزولة كممارسة منتظمة لديه. وكذلك ينبغي أن تكون الحال بالنسبة إلينا أيضاً.

 

في كتاب بقلم ديترتش بونهوفر Dietrich Bonhoeffer عنوانه "الحياة معاً life together", عنون الكاتب أحد فصوله "اليوم معاً" والفصل التالي "اليوم وحدي". وكلا هذين جوهري في سبيل النجاح الروحي. وقد كتب بونهوفر: "ليحذر من لا يقدر أن يبقى وحده من المخالطة.. وليحذر من ليس في المخالطة من البقاء وحده...فكلا الأمرين بحد ذاته ينطوي على أشراك وأخطار. فمن أراد الشركة دون العزلة, غاص في عقم الكلام والمشاعر, ومن طب العزلة دون الشركة, هلك في هوة الغرور والافتتان بالذات واليأس".

 

لذلك يجب أن نلتمس هدوء العزلة المجدد للنشاط إذا شئنا أنو نوجد مع الآخرين وجوداً غني المعنى. وعلينا أن نطلب الشراكة من الآخرين والمسؤولية تجاههم إذا شئنا أن نكون وحدنا بأمان. فيجب علينا أن نتعهد العزلة والشركة كلتيهما إذا كان لنا أن نعيش طائعين.

 

 

 

العزلة والصمت

 

لا عزلة بلا صمت. ومع أن الصمت أحياناً يشتمل على غياب الكلام, فهو دائماً يشتمل على فعلاً الإصغاء. فإن مجرد الامتناع عن التكلم, بغير قلب مُصغ إلى الله, ليس صمتاً. "إن يوماً تغمره الضوضاء والأصوات يمكن أن يكون يوم صمت, إذا باتت الأصوات بالنسبة إلينا هي صدى حضور الله, وإذا كانت الأصوات لدينا رسائل الله ومناشداته. فعندما نتكلم من أنسفنا ونكون ممتلئين بأنفسنا, فإننا نُخلف الصمت وراءنا. أما عندما نعيد كلمات الله الحميمة التي خلقها في داخلنا. يبقى صمتنا سليماً".

 

فعلينا أن ندرك الترابط بين العزلة الداخلية والصمت الداخلي , لكونهما لا ينفصلان. وجميع الأشخاص الثقات في ما يتعلق بحياة الداخل يتكلمون عن كلا الأمرين في آن معاً. فإن كتاب "الاقتداء بالمسيح", وقد ظل رائعة الأدب التعبدي الصامدة على مدى خمس مئة سنة, يضم قسماً عنوانه "في إيثار العزلة والصمت". وديترتش بونهوفر يجعل كلا الأمرين كلا متكاملاً في "الحياة معاً", كما يفعل مثله توماس مرتن Thomas Merton في كتابه "أفكار في العزلة Thoughts in Solitude". وبالحقيقة أني ترددت حيناً محاولاً أن أقرر هل أعنون الفصل الحالي انضباط العزلة أو انضباط الصمت. ما دام الأمران مترابطين ترابطاً وثيقاً جداً في الأدب التعبدي الرفيع. فلابد لنا إذا من أن ندرك ونختبر قوة الصمت المغيرة. إذا كان لنا أن نعرف العزلة.

 

يقول مثل قديم: "جميع الذين يفتحون أفواههم يُطبقون عيونهم!" والغرض من الصمت والعزلة هو أن نتمكن من أن نرى ونسمع. فالضبط, لا سكون الضوضاء, هو مفتاح الصمت. وقد رأى يعقوب بجلاء أن الشخص القادر على ضبط لسانه كامل (يع 3: 1-12). في إطار انضباط الصمت والعزلة تتعلم متى تتكلم ومتى نُمسك عن الكلام. إنما الشخص الذي ينظر إلى الانضباطات على أنها قوانين صارمة سيحول الصمت دائماً إلى أمر سخيف: "لن أتكلم طوال الأربعين يوماً التالية!" وهذه دائماً تجربة قاسية على أي تلميذ يريد أن يعيش في ظل الصمت والعزلة . فكما قال توما الكمبيسي "أن تصمت كلياً أهون من أن تتكلم باعتدال".

 

وقد قال حكيم سفر الجامعة: "للسكوت وقت, وللكلام وقت" (جا 3: 7). فالضبط هو المفتاح  ومن الأسباب التي من أجلها لا نكاد نطيق البقاء صامتين أن ذلك يجعلنا نشعر بأننا عاجزون جداً. فنحن معتادون كثيراً أن نعتمد على الكلام كي ندير الآخرين ونتحكم فيهم. إن بقينا صامتين, فمن يتولى زمام السيطرة؟ إن الله سيتولى الأمر, ولكننا لن ندعه يُمسك بالزمام ما لم نتوكل عليه. فالصمت مرتبط بالتوكل ارتباطاً وثيقاً.

 

إن اللسان هو سلاحنا الأقوى في الاستغلال. إذ يتدفق منا سيل مسعور من الكلمات لأننا خاضعون لعملية دائمة في تكييف صورتنا العلنية. ونحن نخشى خشية شديدة ما نحسب أن الآخرين يرونه فينا, بحيث نتكلم لكي نقوِّم فهمهم لنا. فإن كنت قد فعلت أمراً خاطئاً (أو حتى أمراً صائباً أعتقد أنك قد تُسئ فهمه) ثم تبين لي أنك علمت به. أُغرى كثيراً بأن أساعدك على فهم تصرفي. الصمت واحد من أعمق انضباطات الروح لمجرد كونه يضع ما يشبه اللجام وهو ما يحول دون كل تبرير لذاتنا.

 

ومن ثمار الصمت حرية السماح لله بان يكون هو من يبررنا. فلا داعي لأن نضع الآخرين على السكة الصحيحة ونصلح حالهم. وهناك قصة تُحكى عن راهب من القرون الوسطى اتهم ظلماً بارتكاب إساءات معينة فذات يوم نظر من نافذته فرأى كلباً يعضعض ويمزق خرقة كانت قد علقت كي تخف. وبينما هو يراقب ذلك, كله الرب قائلاً: "ذلك هو ما يحصل لسمعتك. لكن إن توكلت على, فسأتولى أمر الاعتناء بلك – بسمعتك وبكل شيء". فربما كان الصمت, أكثر من أي شيء آخر, يوصلنا إلى الوثوق بان الله يستطيع أن يعتني بنا – "بسمعتنا وبكل شيء".

 

غالباً ما تكلم جورج فوكس عن "روح العبودية" وكيف يودع العلام هذه الروح ويعززها. وقد قرن فوكس تكراراً روح العبودية بروح الخضوع الذليل للكائنات البشرية الأخرى. وقد تكلم في يومياته عن "تحرير الناس من البشر", بإبعادهم عن روح العبودية للنواميس, تلك التي تشيعها كائنات بشرية أخرى والصمت طريقة تؤدي بنا إلى هذا التحرير.

 

إن اللسان ميزان حرارة, فهو يعطينا درجة حرارتنا الروحية. وهو أيضا منظم حرارة, إذا ينظم حرارتنا الروحية. فضبط اللسان يمكن أن يعني كل شيء. ترى , هل تحررنا بحيث نستطيع أن نصون ألسنتنا؟ لقد كتب بونهوفر: "إن الصمت الحقيقي, السكون الحقيقي, صون المرء لسانه حقا, يأتي فقط كحصيلة رصينة للسكون الروحي". ويقال إن القديس دومينيك زار القديس فرنسيس مرة, وفي أثناء لقائهما لم يتفوه أي منهما بكلمة واحدة. فحين نتعلم أن نكون صامتين حقاً حينئذ فقط نتمكن من أن نتكلم بالكلمة التي ينبغي أن تقال حين ينبغي أن تقال.

 

وقد كتب كاثرين دي هايك دوهِرتي: "كل ما في صامت.. إنني غائصة في سكون الله". فإنما في العزلة نصل إلى حيث نختبر "سكون الله", وهكذا ننال السكون الداخلي الذي تتوق إليه قلوبنا توقاً شديداً.

 

 

 

خطوات الدخول في العزلة

 

إن الانضباطات الروحية هي أمور نقوم بها. وينبغي ألا تزوغ أبصارنا أبداً عن هذه الحقيقة. فإن التحدث بورع بشأن "عزلة القلب" أمر حسن, ولكن إن كانت هذه لا تشق طريقها بصورة ما إلى داخل دائرة اختبارنا. نكون عندئذ قد أخطأنا الهدف في ما يتعلق بالانضباطات. فنحن إنما نتعامل مع أفعال, لا مجرد أوضاع ذهنية. إذ لا يكفي أن نقول: "حسناً, إنني بكل تأكيد حائز العزلة والصمت الداخليين, فليس هنالك أي شيء ينبغي أن أفعله". فعن جيمع الذين دخلوا أغوار الصمت الحي قد قاموا بأمور معينة, ورتبوا حياتهم بطريقة خاصة تتيح لهم أن يتقبلوا هذا السلام "ألذي يفوق كل عقل". فإن كان لنا أن ننجح, يجب أن نتخطى ما هو نظري إلى داخل أوضاع الحياة.

 

ما الخطوات أو بعضها التي بها ندخل العزلة؟ أول أمر يمكننا أن نقوم به هو أن نستفيد من "العُزلات الصغيرة" التي يحفل بها يومنا (بخلاف الخلوة الشخصية مع الله). فكر في عزلة تلك اللحظات الصباحية الباكرة في السرير قبل استيقاظ العائلة. وفكر في عزلة فنجان قهوة في الصباح مباشرة قبل عمل نهارك. وهنالك عزلة ازدحام السيارات واحدة لواحدة عندما تغص الطرقات بما عليها في ساعات الزحام. ويمكن انتهاز لحيظات من الراحة والانتعاش حين ندور حول منعطف فنرى زهرة أو شجرة. وبدلاً من صلاة الشكر الجهرية قبل تناول الطعام معاً, فكر في دعوة الجميع إلى المشاركة في لحيظات صمت جماعي. وبينما كنت ذات مرة أوقد سيارة تغص بالكبار والصغار المثرثرين, بادرتهم قائلاً: "لنلعب لعبة كي نرى هل نستطيع جميعاً أن نظل صامتين تماماً حتى نصل إلى المطار" (على بعد خمس دقائق). وقد فعل ذلك فعله, وكان أمراً مباركاً. فالتمس فرحاً ومعنى جديدين في الوقت القصير الذي تُمضيه ماشياً من محطة القطار أو الباص إلى بيتك. وتسلل خارجاً قبيل أن تخلد إلى النوم, واستمتع بالليل الساكن.

 

هذه النُتف القليلة من الوقت غالباً ما تضيع هباء عندنا. ويا له من أمر يرثى له! إنما ينبغي أن تفتدي ويمكن حدوث ذلك. فهي أوقات للسكينة الداخلية, لإعادة توجيه حياتنا كما بإبرة بوصلة. وهي لحيظات تساعدنا على أن نكون حاضرين حضوراً أصيلاً حيث نحن.

 

ثم ماذا يمكن أن نفعل بعد؟ يمكننا أن نجد أن نُوجِد "مكان اختلاء" مخصصاً للصمت والعزلة. إن البيوت تبنى دائما. فلماذا لا نصر على أن يُلحظ في خريطة البناء مُختلى داخلي صغير, يستطيع أي فرد من العائلة أن يقصده ليكون وحيداً وصامتاً؟ وماذا يحول دون ذلك؟ أهو المال؟ ألا تبنى غرف ألعاب وجلوس نوم متقنة, وتُحسب مستحقة كلفتها؟ ومن كان يملك منزلاً, ففي وسعه أن يفكر في عزل ركن صغير من المرأب أو الفناء. أما ساكنو الشقق, ففي وسعهم أن يكونوا مبتكرين ويجدوا طرقاً أخرى لتيسير العزلة. وأنا أعرف عائلة لديها كرسي خاص, متى جلس عليه أحد أفراد العائلة كان لسان حال: "أرجو الأ تزعجوني, إذ أريد أن أختلي بنفسي".

 

ولنوجِد أماكن خارج البيت: ركناً في متنزه, أو مُختلى في مبنى كنيسة يبقى مفتوحاً أو حتى غرفة تخزين في مكان ما. فإن مركز رياضة روحية على مقربة منا بنى حجرة جميلة تتسع لشخص واحد لأجل التأمل والعزل الفرديين, وسماه "المكان الهادئ". وفي أميركا, تُنفق الكنائس ملايين الدولارات على الأبنية. فلماذا لا يُبنى مكان يستطيع الفرد أن يقصد إليه ليبقى وحده بضعة أيام؟ إن كاثرين دي هايك دوهرتي كانت رائدة في إنشاء "بوستينيات" (بوستينيا كلمة روسية معناها "صحراء") في أميركا الشمالية. وهذه أماكن مصممة تحديداً لأجل العزلة والصمت.

 

في الفصل الذي تطرقنا فيه إلى موضوع انضباط الدراسة. تأملنا في أهمية ملاحظة أنفسنا لكي نرى كم يغلب أن يكون كلامنا محاولة مسعورة لتفسير أفعالنا وتبريرها. وبعد أن تبين لنا ذلك في أنفسنا, لنجرب أن نقوم بأعمال دون أي كلام تفسيري مهما كان نوعه. إذ ذاك نتنبه إلى شعورنا بالخوف من أن يُسئ الناس سبب قيامنا بما قمنا به, ونلتمس أن نسمح لله بأن يكون مبررنا.

 

فلنضبط أنفسنا بحيث تكون كلماتنا قليلة وحافلة بالمعنى. ولنصر معروفين بأننا أشخاص نملك ما نقوله حين نتكلم. ولنحافظ على الكلام الصريح: أن نعمل ما نقول إننا سنعمله. "أن لا تنذر خير من أن تنذر ولا تفي" (جامعة 5: 5). فحين يكون لساننا تحت سلطاننا, تصح فينا كلمات بونهوفر: "كثير مما هو غير ضروري يبقى غير مقول. أما الأمر الجوهري والنافع فيمكن أن يقال بكلمات قليلة".

 

ثم اخط خطوة أخرى بعد: حاول أن تقضي يوماً كاملاً بلا كلام على الإطلاق. لا تفعل ذلك كأنه قانون, بل على سبيل التجريب. ولاحظ تكراراً شعورك بالعجز واعتمادك المفرط على الكلام لأجل التواصل. وحاول أن تهتدي إلى طرق للتفاهم مع الآخرين لا تعتمد على الكلام. استمتع بيومك ذاك وتلذذ به.. وتعلم منه.

 

وأربع مرات في السنة, اعتزل مدة ثلاث ساعات أو أربع بقصد أن تعيد توجيه أهداف حياتك. ومن السهل أن تفعل هذا ذات مساء. تأخر في مكتبك, أو قم بذلك في منزلك, أو انتح ركناً هادئاً في مكتبة عامة. قوم مجدداً أهدافك وغاياتك في الحياة. ماذا تريده مُنجزاً بعد سنة من الآن؟ وبعد عشر سنوات؟ إننا ميالون إلى المغالاة في تقدير ما يمكن أن ننجزه في سنة واحدة ونبخس تقدير ما يمكن أن ننجزه في عشر سنين. فانصب أهدافاً واقعية, إنما كن مستعداً لأن تحلم وتتقدم. (هذا الكتاب كان حُلماً في فكري على مدى سنوات قبل صيرورته واقعاً). وفي هدوء هذه السويعات, أصغ إلى دوي سكون الله. ثم دون في مفكرة ما يأتيك.

 

ولا داعي لأن تكون إعادة التوجيه ونصب الأهداف عملاً بادراً وحذراً, كما يفترض بعضهم. فالأهداف تكتشف اكتشافاً, لا تصنع صنعاً. ويسر الله أن يرينا خيارات جديدة مشوقة في ما يتعلق بالمستقبل. فربما حين ندخل في صمت مُصغ يبرز الانطباع المبهج بأن نتعلم الحياكة أو صنع الخزف. أيبدو هذا هدفاً دنيوياً وغير روحي إلى حد بعيد جداً؟ إن الله معني حتماً بشؤون من هذا النوع. أفأنت معني أيضاً؟ ولعللك ترغب في أن تتعلم وتختبر المزيد بشأن المواهب الروحية المتعلقة بالمعجزات والشفاءات والألسنة. أو لعلك تفعل ما فعله واحد من أصدقائي: قضاء أوقات طويلة في اختبار موهبة الخدمات, متعلماً أن يكون خادماً. أو لعلك تود هذه السنة المقبلة أن تُطالع مكتوبات سي. أس. لويس أو إلتن تروبلد كلها. او لعلك بعد خمس سنين من الآن ترغب أن تكون مؤهلاً للعمل بني الأولاد المعوقين. أيبدو اختيار هذه الأهداف أشبه بمناورة تجارية لبيع سلعة ما؟ بالطبع لا. فهو مجرد تحديد اتجاه لحياتك. ذلك أنك ستذهب إلى مكان ما, فكم يكون أفضل بكثير أن تحوز اتجاهاً تحدد بالتواصل مع المركز الإلهي.

 

في إطار انضباط الدراسة, استكشفنا فكرة إقامة خلوات دراسة تدوم يومين أو ثلاثة. فإن اختبارات من هذا النوع تتعزز حين تمتزج بغوص داخلي في سكون الله. وعلى غرار الرب يسوع, علينا أن نعتزل بعيداً عن الناس, حتى نكون حاضرين حقاً ونحن مع الناس. فاقض خلوة, مرة واحدة في السنة, وليس في فكرك غرض آخر سوى العزلة.

 

إن حصيلة العزلة هي تضاعف الإحساس والتعاطف مع الآخرين. إذ تأتينا حرية جديدة لنكون بين الناس ومعهم. ويحصل تنبه جديد إلى احتياجاتهم, وتجاوب جديد مع أوجاعهم. وقد علق توماس مرتن قائلاً: "إنما في العزلة العميقة وجدت اللطف الذي يمكنني به أن أحب إخوتي حقاً. ولكما زادت عزلتي, زادت محبتي لهم. إن العزلة والصمت يعلمانني أن أحب إخوتي بالنظر إلى من هم, لا بالنظر إلى ما يقولون".
ألا تشعر بشوق وتوق إلى الغوص في سكون الله وخلوته؟ ألا تشتاق إلى المزيد؟ ألا يتوق كل نفس من أنفاسك إلى مثول أعمق وأكمل في حضرته؟ هو انضباط العزلة ما سيفتح الباب. فمرحباً بك لأن تدخل و"تصغي إلى كلام الله في صمته العجيب المهيب, اللطيف المحب, الغامر الكل".

 

ريتشارد فوستر

 

من كتاب فرح الانضباط: سبيل النمو الروحي