عندما ولدت كآبتي

جبران خليل جبران ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

عندما ولدت كآبتي أرضعتها حليب العناية وسهرت عليها بعين الحب والحنان .
فنمت كآبتي كما ينمو كل حيّ قوية جميلة تفيض بهجة وإشراقا ً.
فأحببت كآبتي وأحبتني كآبتي وأحببنا معاً العالم المحيط بنا لأن كآبتي كانت رقيقة القلب عطوفة ًفصيّرت قلبي رقيقاً عطوفاً.ً
وعندما كنا نتحادث معاً أنا وكآبتي كنا نمنح الأحلام أجنحةً لأيامنا ومناطق لليالينا لأن كآبتي كانت فصيحة طليقة اللسان فصيّرت لساني فصيحاً طليقاً.

 

وعندما كنا نغني معاً أنا وكآبتي كان جيراننا يجلسون إلى نوافذهم مصغين إلى غنائنا لأن غناءنا كان عميقاً كأعماق البحر وغريبا ًكغرائب الذكرى.

 

وعندما كنا نمشي أنا وكآبتي كان الناس يرنون إلينا بعيون تشع حباً وإعجاباً متحدثين بنا بأرق الألفاظ وأحلاها غير أن بعضاً منهم كانوا ينظرون إلينا بعيون الحسد لأن الكآبة كانت منقبة محمودة وأنا كنت متباهياً فخوراً بالكآبة.

 

ثم ماتت كآبتي كما يموت كل حي وبقيت أنا وحدي مفكراً متأملاًً.
وها أنا ذا أتكلم الآن فتستثقل أذناي صوتي وأنشد فلا يصغي أحد من جيراني لإنشادي وأطوف الشوارع فلا يعبأ أحد بي ...

 

غير أنني أتعزّى إذ أسمع في منامي أصواتاً تقول متحسرة :
(أنظروا! أنظروا! فهنا يرقد الرجـــل الذي ماتت كآبته)

 

وعندما ولدت مسرّتي

 

وعندما ولدت مسّرتي حملتها على ذراعي وصعدت بها إلى سطح بيتي أنادي قائلاً: (تعالوا يا جيراني ومعارفي... تعالوا وانظروا! فقد ولدت مسرّتي اليوم... تعالوا وانظروا فيض مسرتي الضاحكة أمام الشمس)

 

وشدّ ما كان دهشي لأنه لم يأت أحد من جيراني ليرى مسرتي.
وظللت سبعة أشهر أعلن مسرّتي للناس بكرة وأصيلاً من على سطح بيتي ولكن لم يُصغِ أحد قط لصوتي.

 

فبقيت ومسرّتي وحيدين مهملين لا يعبأ أحد بنا .

 

وما مرّ على ذلك سنة حتى سئمت مسرّتي حياتها فامتقع لونها واعتلــّت إذ لم ينبض بحبها قلب سوى قلبي ولم يقـبــّل فمها سوى فمي.

 

فقضت مسرّتي في وحشتها وأمسيت لا أذكرها إلا عندما أذكر كآبتي.

 

جبران خليل جبران

 

من كتاب: المجنون