الخلوة: الصمت الداخلي، اللهج، والصلاة

متى المسكين ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

حينما تخلو إلى الله تماماً، حينما تجلس في حضرته صامتاً صمتاً مقدساً، ترى صورتك في مرآة الله! وتكتشف قبح منظرك وأنك لست تشبهه في شيء.
ومن فرط حنان الله عليك، لا يريك كل خزيك وعريك مرة واحدة، لئلا تُبتَلع نفسك من فرط الحزن. وإنما يكشف لك الرب قليلاً قليلاً صفحات من قضايا زناك وكبريائك وغضبك وتمردك وسرقتك ونميمتك وحسدك وغيرتك، ويريك أنها لازالت قائمة ضدك إنما تحت الحفظ مختومة بدم يسوع المسيح في انتظار توبة صادقة وعهد مقدس.
إن اكتشاف الإنسان لخطاياه نعمة كبرى لأنه الطريق الوحيد الموصل إلى الشفاء منها.
في الصمت سوف ترى عيوبك وخطاياك واضحة تتقدمك للقضاء.
في الصمت أيضاً ستجد فرصةً للتوسل والبكاء لتغسل بدموعك قذر أعمالك. فإنك لا تخرج من لدن الله إلا وقد أُعطيت كل مرة زوفا جديدة تغسل بها نفسك حتى تبيض جداً أكثر من الثلج.
ولكن لا تحسبنَّ أن الابتعاد عن الناس فقط خلوة، أو الدخول إلى المخدع المغلق هو الصمت… كلا، فالخلوة تكون في القلب أولاً والصمت يبدأ من العقل قبل الفم. الإنسان الذي دخل إلى الخلوة قد أفرغ قلبه من كل شيء: من الفرح ومن الحزن، من الأمل ومن اليأس، من الحب ومن البغضة، قد أهمل كل اهتمام وكل تفكير وسلَّم كل شيء كمن استعد لدخول القبر.
ليس في الخلوة والصمت نصيب لنشاط الجسد، فهي مجال للنفس المحبوسة لتنطلق منفردة وتباشر نشاطها.
في بدء التمرين على الخلوة سيتململ الجسد ويثور العقل لأنهما سيشعران بظلمة القبر، حيث تكون النفس أيضاً لا تزال تعاني آلاماً وضيقاً في التحرر من سجن الجسد وظلمة حواسه. وهكذا ربما يواجه المختلي بعض الضيق في بدء الخلوة، ولكن هذه هي النقطة الحرجة التي تحتاج إلى صبر وإيمان. وليس عسيراً على النفس اجتيازها، إذ أنها تشعر أن النور قريب وأن وراء ظلمة القبر مجد القيامة.
والخلوة ليست فترة نقضيها في هدوء بعيداً عن الناس ثم تنقضي، فنعود إلى سابق عهدنا بثرثرة الكلام والنقاش والمجادلات والضحك والتحدث عن السياسة وقراءة الجرائد ودينونة الآخرين.إن الخروج من الخلوة هو بمثابة القيامة من القبر تحتاج فيها النفس إلى هدوء واحتراس وصمت والبعد عن الناس بقدر الإمكان "لا تلمسيني" (يو 17:20)، ولكن لا تحتاج إلى كبرياء وترفعُّ أو الازدراء بالآخرين: "جسوني وانظروا … وأكل قدامهم!!" (لو39:24 و43)
في بدء تدريبك في الخلوة لا تحاول أن تُجهد حواسك للشعور بالقداسة أو محاولة رؤية شيء عن الله، لأنك بهذا سوف تـُجهد عقلك وجسدك بلا طائل، فالله لا يُرى بالجسد ولا يُدرك بالحواس.
العمل الوحيد الذي تقوم به أثناء خلوتك هو أن لا تعمل شيئاً… انتظر الله بهدوء ولا تسعى وراءه لا بالخيال ولا بالبحث عنه في الخليقة المنظورة لأن كل هذه المحاولات سوف تعطل انطلاق النفس والوجود في حضرة الله.
وإن كان هناك ثمة عمل يمكن أن يقوم به الإنسان فهو أن يتأمل في نفسه بانسحاق واتضاع كثير، بحزن وتألم على الخطايا التي سببت وجود هذه الحجب الكثيفة التي فصلت النفس عن الله. هذه المشاعر المتواضعة ربما تصلح لتمهيد الطريق لانطلاق النفس.

(الأب متى المسكين
من كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية"
ص 403، 404)

هذا العمل الروحي أثناء القراءة الروحية (اللهج)، الذي ينقل الإنسان النفسي والانشغال العقلي بالأمور المنظورة إلى حالة تعمق داخلي وحرارة والحقيقة أهم وأدقَّ عمل روحي في حياة الصلاة كلها، فهو الباب الوحيد الذي يفتح على كل أسرار الحياة الروحانية، وهو أول درجة في السلم السمائي الذي يصل بين النفس وخالقها.
وفي هذه اللحظات قد يواجه الإنسان بعض عناد من النفس التي تكون مشتتة في اهتمامات أو هموم كثيرة بلا قيمة وبلا معنى، وقد يواجه الإنسان مراوغة من العقل في تنقُّله من صورة إلى صورة ومن فكرة إلى فكرة وهو طائش في أمور غاية في التفاهة. هنا، على الإرادة المتسلحة بنيَّة داخلية صادقة أن تقف موقف الإصرار، متشبثة بالمحبة منطلقة إلى وجه المسيح في توسل وانتظار حتى تفتقدها النعمة الإلهية وتحررها وتبثها حباً بحب.
والمنبع الخصب الذي يلقن الروح القدس منه دروس الهذيذ (اللهج) لتلاميذه، هو الكتاب المقدس، فهو المدرسة العظيمة حقاً التي لا نهاية لدروسها والتي مهما استوعبنا منها فلن نستوعب إلا اليسير.

(الأب متى المسكين
من كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية"
ص 77، 78)

"حينما يكون عقلك مشتتا توافقه في هذه الأوقات كثرة القراءة بفهم، ولكن ليست كل الكتب تنفع لتركيز العقل.
بقدر الإمكان أكرم القراءة أكثر من الصلاة لأنها سوف توصلك إلى الصلاة النقية التي بلا طياشة فكر."
"بدون القراءة في الكتب الإلهية، لا يمكن للذهن أن يدنو من الله."
"الصلاة تقرَّب العقل إلى الله، وبالهذيذ يتشجع العقل فيتفَّرس فيه فيتنقى ويتقدس.
الهذيذ الذي يتسلط على كل الأفكار ويضبطها، فيستضيء العقل بالخفيات الداخلية ومعرفة الله ومن هنا نستطيع أن نقول: " من يقدر أن يفصلني عن حب المسيح؟ أشدة، أم ضيق، أم اضطهاد، أم جوع، أم خطر، أم سيف؟… إني مصلوب للعالم والعالم مصلوب لي".

(مار إسحق السرياني)
اقتباسات أرقام 772، 80، 93
من كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية"

القراءة واللهج الفكري في معاني الكلمات يهيئان طريقاً للصلاة، ويُعتبران وسيلة صالحة للكفّ عن الإنشغال بالأمور الباطلة.
غرض القراءة هو أن نصل إلى موضوع يسترعي انتباهنا ويحتفظ بهذا الإنتباه بلا تشتت، أما اللهج الفكري في معاني الكلمات المقروءة فهو قنطرة العبور من القراءة إلى الصلاة، ثم هو يلازم الصلاة بعد ذلك ليعين الإنسان على الإستمرار في صلاة طويلة. أنه جيد في الصباح أن نعكف بعد الصلاة على القراءة، نقرأ قليلاً لنلتهب، ولكن الحرارة في القراءة ليست هي النهاية المقصودة، ولكن القصد هو أن نصل إلى حالة الصلاة، حينئذ نكف عن القراءة لأن العقل يكون قد كفًّ عن طوافه.

(الأسقف ثيوفان الناسك)
اقتباس رقم 107
من كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية"

ويقول الاسقف جريجورى الكبير:
(إن أول خطوة هي أن يثوب العقل إلى نفسه وينجمع إلى ذاته، والخطوة الثانية أن ينظر ذاته مجموعاً مصلوباً خالياً من التصورات الجسدية، وبهذا يصنع من ذاته سلّما لذاته ليصعد إلى الخطوة الثالثة التي هي فوق ذاته وهي التأمل.)
أما التعليل الفلسفي الروحي لتجميع العقل كخطوة أساسية للدخول إلى التأمل ورؤية الله، فهو أننا لا نستطيع أن نصل إلى الله إلا في أعماق نفوسنا. حقاً أن الله موجود في كل مكان ولكن ليس بالنسبة إلينا، وإنما بالنسبة إلى طبيعته التي تملأ كل الوجود. فليس مكان نستطيع أن نتلاقى فيه مع الله في كل هذا العالم الفسيح إلا في نقطة واحدة وهي داخل نفوسنا. هناك هو ينتظرنا، وهناك يمكننا أن نواجهه ونحدثه، ومن هناك يحدثنا. وفي ذلك يتأمل القديس أوغسطينوس تأملاً رائعاً في البحث عن الله، يثبت فيه أنه لا يمكن أن يجد الإنسان الله إلا في أعماق نفسه:
أنت الدائم إلى الأبد غير المتغير قط.
وهبتني نعمة سكناك في ذاكرتى يوم أن عرفتك.
ولماذا أبحث أنا الآن عنك كأنما تتعدد أمكنة سكناك لي؟
أنا متأكد أنك أعددت سكناك فيًّ منذ ذكرتُك يوم أن عرفتُك.
حيث أجدك عندما أدعوك لتذكرني.
ولكن أين وجدتك عندما تعَّرفت عليك؟
لأنك لم تكن في ذاكرتي قبل أن أعرفك!
أين إذن وجدتُك عندما تعرَّفتُ عليك؟
كنتَ أعلى مني … هناك في نفسي عميقاً أعمق من عمقي وعالياً أعلى من علوي.
قد تأخرت كثيراً في حبك، أيها الجمال الفائق في القدم والدائم جديداً إلى الأبد. آه! تأخرتُ كثيراً في حبك.
كنتَ فيَّ فكيف خرجتُ أبحث عنك خارجاً عني؟
أنت كنتَ معي، ولكن لشقاوتي لم أكن أنا معك!
فدعوتَ وهتفتَ وأخيراً حطمتَ صممي.
أضأتَ وأبرقتَ ومزقتَ ستار عماي.
أفحتَ عبيقاً، فسرتُ يهديني عطرك، ألهثُ خلفك.
ذقتُ فجعتُ وعطشتُ.
لمستني فأشعلت النار فيُّ.
فبمجرد أن تهدأ نفسك للصلاة وتكون حواسك مهتدية إليك وعقلك منجمعاً إلى ذاته تتسلل النفس قليلاً قليلاً لتتحرر من هذه الحواس جميعاً ومن شغب العقل أيضاً. وكأنما هي ترتفع عن الجسد ليس من حيث البعد والمكان وإنما من حيث المستوى والكيان. فتتأمل في ذاتها ملتصقة بإحدى الحقائق الروحية أو صفات الله، وفي أثناء سيرها تصادفها أشياء جديدة وحقائق عجيبة بعضها يدركه العقل وبعضها لا يدركه العقل، فيعتري الإنسان شعور لذيذ من الفرح والعجب والسرور معاً.

(الأب متى المسكين
من كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية"
ص 98 - 101)