انضباط التأمل

ريتشارد فوستر ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

“ليس التأمل الحقيقي حيلة سيكولوجية، بل هو نعمة لاهوتية.”

(توماس مرتن)

 

في المجتمع المعاصر، يتخصص خصمنا في ثلاثة أمور: الضجة والعجلة والجماهير. فإذا استطاع أن يُبقينا مُنهمكين في أمور كثيرة ومتعددة، فإنه يُسر ويرضى. وقد قال عالم النفس كارل يونغ مرة منبهاً: "العجلة ليست من إبليس، بل هي إبليس ذاته."

فإذا كنا نرجو أن نتخطى سطحيات حضارتنا، ومن جملتها الجانب الروحي فيها، يجب أن نكون على استعداد للغوص في أعماق الصمت المنعشة، في عالم التأمل الداخلي. وأساتذة التأمل والتعبد كلهم، في مكتوباتهم، يدعوننا لأن نكون رواداً على هذه الجبهة الروحية المتقدمة. فلئن بدا الأمر مُستغرباً في الآذان المعاصرة، ينبغي لنا، بلا خجل ولا وجل، أن نتسجل تلامذة ممهنين في مدرسة الصلاة التأملية التعبدية.

شهادة الكتاب المقدس

لا ريب أن انضباط التأمل التعبدي كان مألوفاً لدى كتبة الكلمة المقدسة. والكتاب المقدس يستخدم كلمتين عبريتين مختلفيتين ("هجاه"، و"سيت") للتعبير عن فكرة التأمل، وهما معاً تستخدمان نحو ثمان وخمسين مرة. ولهاتين الكلمتين معان شتى: الاستماع إلى كلمة الله، التأمل في أعمال الله، التفكر في شريعة الله، غير ذلك بعد. وفي كل حالة، يُشدد على تغير في السلوك نتيجة لمقابلتنا الإله الحي. لذا كانت التوبة الطاعة سمتين أساسيتين في أي فهم كتابي للتأمل التعبدي. فها هو كاتب المزامير يهتف: "كم أحببت شريعتك! اليوم كله هي لهجي... من كل طريق شر منعت رجلي، لكي أحفظ كلامك. عن أحكامك لم أمل، لأنك أنت علمتني" (المزمور 119: 97 و101 و102). وهذا التركيز الدائم على الطاعة والأمانة هو ما يميز أوضح تمييز بين التأمل المسيحي ونظائره الشرقية والدنيوية.

وأولئك الذين جالوا في رياض صفحات الكتاب المقدس عرفوا سبل التأمل والتعبد. "وخرج إسحاق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء" (تكوني 24: 63). "إذا ذكرتك على فراشي، في السهد ألهج بك" (المزمور 63: 6). وبالحقيقية أن المزامير تُشيد بتأملات شعب الله في شريعته تعالى. "تقدمت عيناي الهزع، لكي ألهج بأقوالك" (مز 119: 148). والمزمور الذي يتصدر باقي المزامير يدعو الجميع إلى الاقتداء بالرجل المطوب "في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً." (مز 1: 2)

الاستماع والطاعة

إن التأمل المسيحي، بمنتهى البساطة، هو القدرة على الاستماع إلى صوت الله وإطاعة كلمته، ويا ليتني أستطيع أن أجعل هذا الأمر البسيط جداً أكثر تعقيداً بالنسبة إلى أولئك الذين يهوون الأمور الصعبة! فهو لا ينطوي على أية أسرار خفية، ولا أية مانترا (Mantra) سرية، ولا على أية رياضات ذهنية، لا تحليقات خاصة في أجواء الوعي الكوني. وحقيقة الأمر أن إله الكون العظيم، خالق كل شيء، يتوق إلى الشركة معنا. ففي جنة عدن، كان آدم وحواء يتكلمان إلى الله وكان الله أيضاً يتكلم إليهما.. كان الجميع في شركة طيبة. ثم حصل السقوط، وبمعنى مهم طرأ انقطاع على الشعور بالشركة الدائمة، لأن آدم وحواء اختبآ من الله. ولكن الله ظل مبادراً إلى الاتصال بأولاده المتمردين، وفي سير أشخاص مثل قايين وهابيل ونوح وإبراهيم و..، نرى الله متكلماً ومتصرفاً، ومعلماً ومرشداً.

.... وقصارى القول إن هذا يُشكل الأساس الكتابي للتأمل. والخبر الرائع هو أن المسيح لم يكف عن التصرف والتكلم. فهو مُقام، وعامل في عالمنا. فلا هو خامل، ولا هو مصاب بالتهاب الحنجرة. إنه حي وهو في وسطنا بصفته كاهننا كي يغفر لنا، ونبينا كي يُعلمنا، وملكنا كي يسود علينا، وراعينا كي يقودنا.

إن جميع المسيحيين على مر الأجيال قد شهدوا لهذه الحقيقة ومما يدعو إلى الرثاء أن المسيحيين المعاصرين يجهلون تماماً ذلك البحر الواسع من المكتوبات في التأمل المسيحي بأقلام مؤمنين أمناء على مر القرون. وشهادتهم جميعاً لحياة الفرح في الشركة الدائمة متماثلة ومتناغمة على نحو مدهش. فمن كاثوليكي إلى إنجيلي، ومن أرثوذكسي مشرقي إلى تابع للكنيسة الغربية الحرة، نلقي حثاً على “أن نعيش في حضرة الرب في شركة غير منقطعة”. ويقول المتصوف الروسي ثيوفان الناسك: “أن تصلي هو أن تُنزل العقل إلى داخل القلب، وتقف هناك أمام وجه الرب، الحاضر دائماً أبداً والناظر كل شيء في داخلك”. وقد صرح اللاهوتي الأنجليكاني جيرمي تايلر أن “التأمل هو واجب الجميع”. وفي زماننا، لما سُئِل ديترتش بونهويفر، الشهيد اللوثري، عن سبب انصرافه إلى التأمل، أجاب: “لأنني مسيحي”. إن شهادة الأسفار المقدسة وشهادة أساتذة التأمل التعبدي غنيتان جداً، ونابضتان حياة بحضور الله، بحيث يكون من الغباوة أن نهمل مثل هذه الدعوة الكريمة إلى اختيار “أعماق يسوع المسيح”، على حد تعبير مدام غِيون.

غاية التأمل

إننا إذ نتأمل نتأصل في ما سماه توما الكمبيسي “صداقة ألفة مع يسوع” فنحن نغوص في نور المسيح وحياته ونصير مستريحين في ذلك الوضع، وحيث يتحول حضور الرب الدائم (أو كلية وجوده، كما نقول) من عقيدة لاهوتية إلى واقع متألق. ولا تعود العبارة “يمشي معي ويحكي معي” مجرد تغريدة تقوى، بل تغدو بالأحرى وصفاً دقيقاً للحياة اليومية.

مفاهيم خاطئة يمكن فهمها

كلما أخذت فكرة التأمل المسيحية على محمل الجد، قام أولئك الذين يفترضون أنها مرادفة لمفهوم التأمل الذي تشتمل عليه الديانات الشرقية. وبالحقيقة أن بين الفكرتين هوة شاسعة جداً. فالتأمل الشرقي محاولة لإفراغ الذهن، أما التأمل المسيحي فهو محاولة لملء الذهن. وشتان ما بين الفكرتين!

فأشكال التأمل الشرقية تُشدد على الحاجة إلى صيرورة المرء منفصلاً عن العالم. إذ يجري التشديد على فقدان الكينونة الشخصية والفردية، والاندماج في العقل الكوني. فهنالك توق إلى التحرر من أعباء هذه الحياة والآلامها، والانطلاق على لاشخصانية النرفانا (أي الوصول للسعادة القصوى، في الهندوسية، والتي تتخطى الألم والتي تُلتمَس بإماتة الشهوات كلياً). إذ ذاك تُفقد الهوية الشخصية، وينظر إلى الكيان الشخصي بالحقيقة على أنه الوهم الأقصى، حيث تأتي لحظة الإفلات من عجلة الوجود البائس. وليس من إله يلتصق به المرء أو يستمع إليه. فالانفصال إذاً هو الغاية القصوى في الديانة الشرقية.

غير أن التأمل المسيحي يُجاوز كثيراً مفهوم الانفصال. إذ تدعو الحاجة إلى الاتصال – إلى "سبت تأمل" على حد تعبير بطرس السلسي، الراهب البندكتي من القرن الثاني عشر. ولكن في التفكير بالانفصال فقط خطراً فعلياً، كما لمّح السيد المسيح في قصته عن الإنسان الذي فرغ من الشر ولكنه لم يُملأ بالخير. "متى خرج الروح النجس من الإنسان ... يذهب ويأخذ سبعة أرواح أُخر أشر منه، فتدخل وتسكن هناك ، فتصير أواخر ذلك  الإنسان أشر من أوائله" (لوقا 11: 24-26).

كلا! إن الانفصال وحده غير كاف، بل يجب أن نُتابع الطريق إلى الاتصال. ذلك أن الانفصال عن الفوضى الشائعة حوالينا هو خطوة في سبيل حيازة اتصال أغنى بالله. فالتأمل المسيح يؤدي بنا إلى الكمال الداخلي الذي لابد منه لتقديم أنفسنا لله بملء الحرية.

وهنالك مفهوم خاطئ آخر بشأن التأمل إذ يُرى أنه صعب جداً، بل مُعقد تعقيداً فائقاً. ومن ثم، فربما كان من الأفضل أن يُترك للاختصاصي الذي يتسع وقته لاستكشاف المناطق الداخلية القصية (البعيدة النائية) كلا على الإطلاق! فالخبراء الموثوق بهم في هذا الطريق لا يُخبِرون أبداً أنهم كانوا في رحلة موقوفة على القلة المميزة، أو على الأبطال الروحيين. ومن شأنهم أن يضحكوا على الفكرة بحد ذاتها. فإنهم قد شعروا بأن ما كانوا فاعلينه هو نشاط إنساني طبيعي – طبيعي ومهم مثله مثل التنفس. كما أن من شأنهم أيضاً أن يقولوا لنا إننا لسنا بحاجة إلى أيّة مواهب خاصة أو قدرات خارقة للطبيعة. فقد كتب توماس مرتن: "إن التأمل هو بالحقيقة بسيط جداً، ولا نحتاج كثيراً إلى تقنيات متقنة تُعلمنا كيف نقوم به."

وثمة مفهوم خاطئ ثالث يتمثل في حسبان التأمل أمراً غير عملي ولا يمت بأية صلة إلى القرن العشرين. ويُخشى أن يؤدي إلى نظير الشخص المُخلد في كتاب "الإخوة كرامازوف" لدوستويفسكي في صورة الأب فيرابونت: وهو شخص قاس، ذو بر ذاتي، يُنقذ ويخلص نفسه بمجهوده الخاص الخالص من العالم ثم يستنزل اللعنات على العالم. فكثيرون يعتقدون أن التأمل، في أفضل حالاته، يؤدي إلى نهاية سقيمة تُبقينا في معزل عن معاناة البشرية.

غير أن تخمينات كهذه تُخطئ المرمى بمسافة بعيدة. ففي الواقع أن التأمل هو الأمر الوحيد الذي يمكن أن يُعيد توجيه حياتنا على نحو كاف بحيث يتأتى لنا أن نتعامل مع الحياة الإنسانية تعاملاً ناجحاً. وقد كتب توماس مرتن أيضاً: “لا يكون للتأمل معنى ولا حقيقة إلا إذا كان متأصلا في الحياة بثبات؟ ومن الناحية التاريخية أكثر مما شدد ليها الصاحبيون (الكويكرز)، وقد كانت النتيجة تأثيراً اجتماعياً حيوياً  فاق أعدادهم بكثير. وحسناً علق وليم بن قائلاً: "التقوى الحقيقية لا تُخرج الناس من العالم، بل تُمكنهم من أن يعيشوا فيه عيشة أفضل، وتحفز مساعيهم إلى صلاحه."

فسوف يُؤتي التأمل أغلب الأحيان تبصرات عملية في الصميم، تكاد أن تكون دنيوية صرفاً. إذ إنك ستتلقى توجيهاً في كيفية التعامل مع زوجتك (أو مع زوجك)، وتتعلم كيف تتصدى لهذه المشكلة الحساسة أو لذلك الوضع المهني. فيكون رائعاً إذا أدى تأمل ما إلى بهجة غامرة، ولكن الأعم كثيراً جداً أن نعطي إرشاداً في التصدي للمشكلات البشرية المعتادة. ذلك أن التأمل يُرسلنا إلى عالمنا العادي بمنظور أعظم واتزان أوفر.

وربما كان المفهوم الخاطئ الأكثر شيوعاً هو أن يُنظر إلى التأمل كما لو كان شكلاً دينياً من أشكال المناورة النفسية. فهو قد يكون ذا قيمة في تخفيض ضغطنا الدموي أو تخفيف توترنا، بل إنه أيضاً قد يمدنا بتبصرات منورة إذ يساعدنا على الاتصال بنشاط عقلنا الباطن. ولكن فكرة الاتصال والتواصل مع إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب تبدو غير علمية وغير منطقية بعض الشيء. فإن شعرت بأننا نعيش في عالم مادي صرف، فستنظر إلى التأمل بصفته طريقة جيدة للحصول على نموذج موجات دماغية ثابتة من طراز ألفا. ولكن إن كنت تعتقد أننا نعيش في كون خلقه الإله اللامحدود ذو الشخصية، والذي يًسر بتواصلنا معه فستنظر إلى التأمل باعتباره تواصلاً بين المحب والمحبوب.

ومفهوما التأمل هذان ضدان تامان. فأحدهما يحصرنا داخل اختبار بشري كلياً، والآخر يطلقنا إلى لب لقاء إلهي – بشري. وأحدهما يتحدث بشأن استكشاف ما دون الوعي، أما الآخر فيتكلم بشأن "الاستراحة في ذلك الشخص الذي اهتدينا إليه، والذي يحبنا، وهو قريب منا، ويأتي إلينا كي يجذبنا إلى ذاته." وكلا المفهومين قد يبدو دينياً، بل يستخدم أيضاً لغة خاصة، غير أن أولهما لا يستطيع في آخر المطاف أن يجد موضعاً للحقيقة الروحية.

أول وأهم أشكال التأمل

تحدث المؤمنون بالمسيح عبر القرون بشأن أنواع شتى من طرق الإصغاء إلى الله، والتواصل مع خالق السموات والأرض، واختبار محب العالم السرمدي. وإذ نلتمس، على غرارهم، أن نتمتع بعلاقة وثيقة بالله ونكون أمناء تجاهه، يمكن أن تجد عوناً كبيراً جداً في الحكمة المتراكمة من جراء اختبارهم.

في نظر أساتذة التأمل جميعاً، يُشكل التأمل في الأسفار المقدسة النقطة المرجعية المركزية التي تُحفظ بها جميع أشكال التأمل الأخرى في منظورها الصحيح. وبينما تتركز دراسة الكلمة المقدسة على التفسير، يُركز تأمل الأسفار المقدسة على تمثل النص ببعديه الذاتي والشخصي، حيث تغدو الكلمة المكتوبة كلمة حية تُخاطب شخصياً. ليس هذا وقت الدراسة التقنية، ولا التحليل، ولا حتى جمع المادة التي تُريد مشاركة الآخرين فيها. فنح جانباً كل ميل إلى الغرور، وبقلب مُتضع تقبل الكلمة الموجهة إليك أنت. وغالباً ما أجد الركوع مناسباً على الخصوص لهذا الوقت بالذات. وقد قال ديترتش بونهوفر: "مثلما لا تحلل كلمات شخص تحبه، بل تقبلها كما قيلت لك، كذلك اقبل كلمة الوحي وتفكر بها في قلبك، كما فعلت مريم. ذلك كل ما في الأمر. ذلك هو التأمل." وعندما أسس بونهوفر معهد اللاهوت في فنكنولد، كان كل من فيه يمارس نصف ساعة يومياً من التأمل الصامت في الكلمة المقدسة.

ومن المهم أن نقاوم تجربة المرور بسطحية على مقاطع كثيرة من الكتاب المقدس. فإن اندفاعنا المحموم يعكس حالتنا الداخلية، وحالتنا الداخلية هي التي ينبغي أن تتغير. قد أوصى بونهوفر بقضاء أسبوع كامل في تأمل مقطع واحد! لذا أقترح عليك أن تأخذ حادثة بعينها، أو مثلاً بكامله، أو بضع آيات، أو حتى كلمة واحدة، وتدعها تتجذر فيك عميقاً. واسع أن تعيش الاختبار، مُتذكراً تشجيع إغناطيوس لويولا بإشراك جميع حواسنا في العملية. فاشتم رائحة البحر. واسمع تلاطم الأمواج على الشاطئ. وانظر الجماهير. واشعر بالشمس على رأسك، وبالجوع في معدتك. وتذوق ملوحة الهواء. والمس هدب ثوب الرب. وفي هذا الشأن ينصحنا ألكسندر وايت قائلاً: "إن الخيال المسيحي حقاً لا يدع نظره يزوغ أدباً عن يسوع المسيح . فافتح كتاب العهد الجديد الخاص بك، وصر بمخيلتك في تلك اللحظة واحداً من تلاميذ المسيح في الموقع عينه، جاثياً عند قدميه."

فتذكر دائماً أننا نتفاعل مع القصة لا كمشاهدين خاملين، بل كمشاركين فاعلين. وتذكر أيضاً أن المسيح حقاً معنا كي يُعلمنا، ويشفينا، ويسامحنا. وقد أفصح ألكسندر وايت قائلاً: "إذ يُمسح خيالك بالزيت المقدس، تفتح كتاب العهد الجديد ثانية. وإذا بك حيناً العشار، وحيناً آخر الابن الضال، وحيناً مريم المجدلية، وحيناً آخر بطرس في السقيفة...حتى يغدو العهد الجديد بكامله قصة سيرتك الذاتية."

هذا، وثمة أوجه أخرى كثيرة من انضباط التأمل يمكن أن نستفيد من النظر فيها (كما شرحنا في انضباط العزلة واستعمال الصمت الخلاق). غير أن التأمل ليس فعلاً مفرداً، ولا يستطاع إتمامه بالطريقة التي بها يتم المرء صنع كرسي. إنه طريقة حياة. ولسوف تكون كل حين متعلماً ومتقدماً ونامياً فيما تغوص في الأعماق الداخلية.

 

ريتشارد فوستر 

من كتاب فرح الانضباط: سبيل النمو الروحي