الانضباطات الروحية: باب إلى الحرية

ريتشارد فوستر ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

 

"أجتاز هذه الحياة كعابر في طريقه إلى الأبدية، خلق على صورة الله، ولكن لما حُطت تلك الصورة بات مُحتاجاً لأن يعمل كيف يتأمل ويتعبد ويُفكر."

(دونالد كوغن)

 

السطحية لعنة عصرنا. وعقيدة الإشباع الفوري مشكلة روحية جوهرية. فالحاجة الماسة اليوم ليست إلى عدد أكبر من الأذكياء أو الموهوبين، بل إلى متعمقين.

إن انضباطات الحياة الروحية تدعونا إلى الغوص في الأعماق مُجاوزين العيشة السطحية. إنها تدعونا إلى استكشاف الكهوف الداخلية في العالم الروحي، وتحثنا على أن نكون الجواب لعالم فارغ. وهذه نصيحة جون ولمان: "يحسن بك أن تقيم في الأعماق، ليتاح لك أن تحس وتتفهم أرواح الناس".

ولا ينبغي لنا أن نُقاد إلى الاعتقاد أن الانضباطات هي للجبابرة الروحيين فقط، وهي من ثم خارج متناولنا، أو أنها فقط للمتأملين الذين يكرسون كامل وقتهم للصلاة والتعبد. هيهات هيهات! إن الله يقصد أن تكون انضباطات الحياة الروحية للكائنات البشرية العادية: للأشخاص الذين لهم أعمال وأشغال، ويعتنون بأولاد، ويغسلون الصحون ويجزون المسطحات الخضراء. وبالحقيقة أن الانضباطات تمارس على أفضل نحو في خضم علاقاتنا بالزوجة أو الزوج، وبإخوتنا وأخواتنا، وبأصدقائنا وجيراننا.

كذلك لا ينبغي أيضاً أن نفكر بالانضباطات الروحية كما لو كانت نوعاً من الكدح والكد يستهدف إقصاء الضحك عن وجه الأرض. فالفرح هو اللازمة الملازمة للانضباطات جميعاً. والغرض منها هو التحرير من العبودية الخانقة والخانعة للمصلحة الذاتية والخوف. فعندما تتحرر الروح الداخلية من كل ما يُثقل كاهلها، يكاد يستحيل أن يُوصف ذلك بأنه كدح وكد. حتى إن الغناء والرقص، بل الهتاف أيضاً، تغدو من مميزات انضباطات الحياة الروحية.

وبمعنى مهم من المعاني، ليست الانضباطات الروحية صعبة، فلا داعي لأن نكون متضلعين من اللاهوتيات جيداً حتى نمارس الانضباطات. ذلك أن المهتدين إلى المسيح حديثاً – وفي ما يتعلق بهذا الأمر: الأشخاص الذين ينبغي لهم بعد تسليم حياتهم ليسوع المسيح – يمكنهم ويجب عليهم أن يمارسوها. إنما الشرط الجوهري أن يكون لديهم توق إلى الله، على حد ما خط كاتب المزامير: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه، هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله، إلى الإله الحي" (المزمور 42: 1،2).

فمرحباً بالمبتدئين! وأنا أيضاً مبتدئ، حتى بعد قضائي عدداً من السنين في ممارسة كل انضباط يتناوله هذا الكتاب... بل وخصوصاً بعد هذا. وكما يقول توماس مرتن، فإننا "لا نريد أن نكون مبتدئين. ولكن لنقتنع بحقيقة أننا لن نكون أبداً إلا مبتدئين، طيلة حياتنا!"

نقرأ في المزمور 42: 7 "غمرٍ ينادي غمر". فربما في مكانٍ ما من غرف حياتك السرية سمعت الدعوة إلى عيشة أعمق وأكمل. ولعلك سئمت الاختبارات التافهة والتعليم السطحي. وبين حين وآخر التقطت لمحات أو ومضات تتعلق بما يتخطى ما قد عرفته. فأنت في داخل كيانك تتوق إلى الانطلاق نحو الأعماق.


وأولئك الذين سمعوا النداء النائي في داخل أعماقهم، والذين يرغبون في استكشاف عالم الانضباطات الروحية، تواجههم في الحال صعوبتان، الأولى هي فلسفية. فإن قاعدة عصرنا المادية قد باتت واسعة الانتشار بحيث أثارت لدى الناس شكوكاً خطيرة بشأن قدرتهم على تخطي نطاق العالم الطبيعي. وكثيرون من العلماء المرموقين قد جاوزوا مثل هذه الشكوك، عالمين أننا لا يمكن أن نُحصر داخل علبة مكان وزمان. غير أن الشخص العادي متأثر بالعلم الشعبي، وهذا مختلف عن أيامنا جيلاً كاملاً ومُتحامل بشكلٍ متحيرٍ على العالم اللامادي.

ويصعب أن نُغالي في وصف مدى تشبعنا بعقلية العلم الشعبي. فالتأمل مثلاً، إذا سُمِحَ به أصلاً، لا يعد لقاء بين الإنسان والله، بل تلاعب سيكولوجي. ويحتمل الناس عادي خوضاً وجيزاً في "رحلة الاستبطان الذاتية"، ولكن لا يلبث أن يحين وقت مواصلة الشؤون الواقعية في عالم الواقع. فنحن نحتاج إلى الشجاعة كي نتخطى تحامل عصرنا، ونؤكد مع خيرة علمائنا أن في الوجود ما يجاوز العالم المادي. وبأمانة فكرية، ينبغي أن نكون على استعداد لأن ندرس ونستكشف الحياة الروحية بمثل الدقة البالغة والعزم الوطيد الذين نوظفهما في أي ميدان من ميادين البحث.

أما الصعوبة الثانية فهي صعوبة عملية. ذلك أننا لا نعرف تماماً كيف نمضي في استكشاف الحياة الداخلية. ولم تكن الحال دائماً على هذا المنوال. ففي القرن الأول وقبله، لم يكن ضرورياً إعطاء تعليمات بشأن كيفية "القيام" باضباطات الحياة الروحية. وقد دعا الكتاب المقدس الناس إلى ممارسات من قبيل الصوم والصلاة والتعبد والاحتفال، وغير أنه لم يعط تقريباً أية تعليمات بشأن القيام بتلك الممارسات. ومن السهل أن نرى سبب ذلك. فإن هذه الانضباطات قد مُورست تكراراً، كما كانت جزءاً من الحضارة العامة بحيث عرف الجميع "كيف" تمارس. فمثلاً، كان الصوم عاماً جداً بحيث لم يُضطر أحد لأن يسأل ماذا يأكل قبل الصيام، أو كيف يُفطر، أو كيف يتجنب الدوخة وهو صائم، مادام الجميع يعرفون ذلك أصلاً.

غير أن هذا لا ينسحب (ينطبق) على جيلنا. فثمة اليوم جهل مُطبق للنواحي الأكثر بساطة وعملية في الانضباطات الروحية الكلاسيكية كلها تقريباً. من هنا وجب أن يتضمن أي كتاب يُكتب في الموضوع توجيهاً عملياً محدداً بشأن كيفية القيام بالانضباطات المعهودة. إنما لابد من كلمة تحذير تُطلق من أول الطريق: أن نعرف الآليات أمر لا يعني أننا نمارس الانضباطات. فإن الانضباطات الروحية هي حقيقة داخلية وروحية، وتوجه القلب الداخلي أهم بكثير جداً من الآليات للإقبال إلى لب الحقيقة في الحياة الروحية.

وفي حماستنا لممارسة الانضباطات ، قد نُخفق في ممارسة الانضباط الذاتي. فالحياة المرضية أمام الله ليست سلسلة من الواجبات الدينية. إنما لنا أمر واحد نفعله، ألا وهو أن نختبر حياة علاقة وثيقة بالله "أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران" (يعقوب 1: 17).

 

عبودية العادات الراسخة

اعتدنا أن نفكر في الخطية كأفعال عصيان لله منفردة، وهذا صحيح بالقدر الذي يؤول الأمر إليه، ولكن كلمة الله المقدسة تتخطى هذا أكثر جداً. ففي رسالة رومية يشير الرسول بولس تكرار إلى الخطية بصفتها حالة تعذب البشر جميعاً (مثلاً، رو3: 9 -18). والخطية، من حيث كونها حالة، تُنفذ مُبتغاها بواسطة "أعضاء الجسد"، أي من طريق عادات الجسد الراسخة (رو 7: 5 وما يلي). وليس من عبودية تمكن مقارنتها بعبودية عادات الخطية الراسخة.

يقول الكتاب في أشعياء 57: 20 "أما الأشرار فكالبحر المضطرب، لأنه لا يستطيع أن يهدأ، وتقذف مياهه حمأة وطيناً". فإن البحر غير مُضطر لأن يفعل أي شيء خاص لكي يُنتج حمأة وطيناً، إذ إن ذلك نتيجة لحركاته الطبيعية. وهذا أيضاً يصح فينا حين نكون في حالة الخطية. إذ أن حركات حياتنا الطبيعية تُنتج حمأةً وطيناً. فالخطية جزء من تركبية حياتنا الداخلية. ونحن لا نحتاج لى أي جهد خاص كي نُنتجها. فلا عجب إن شعرنا بأننا عالقون في فخ.
إنما أسلوبنا المعتاد في التصدي للخطية المتأصلة فينا هو أن نشن هجوماً مباشراً عليها. ونحن نتكل على قوة إرادتنا وعزيمتنا. فمهما كانت المسألة لدينا – غضباً أو خوفاً أو مرارةً أو شراهةً أو كبرياء أو شهوةً أو سوء استخدام للمادة – نعقد عزمنا على ألا نعيد الكرة، كما أننا نصلي ضدها ونحارب ضدها ونوجه إرادتنا ضدها. غير أن الجاد عبث بعبث، ثم نجد أنفسنا مرة أخرى مُفلسين أدبياً، أو أسوأ بعد: مُبالغين جداً في التفاخر ببرنا الخارجي بحيث تكون "القبور المبيضة" وصفاً لطيفاً لحالتناً. وفي كتيب ممتاز، عنوانه "التحرر من الأفكار الخاطئة"، يقول كاتبه هاينريتش آرنولد: "ينبغي أن نوضح بكل جلاء أنه ليس في وسعنا أن نحرر قلوبنا وننقيها بإعمال إرادتنا الخاصة".
وفي رسالة كولوسي يذكر الرسول بولس بعض الضوابط الخارجية التي يستعملها الناس للسيطرة على الخطية: "لا تمس ولا تذق ولا تجس". ثم يضيف أن لهذه الفرائض مظهر حكمة بعبادة يفرضها المرء بإرادته الذاتية (كو 3: 20-23). والتعبير المترجم "بعابدة نافلة" (ع22) جاء في اللغة الأصلية "بعبادة إرادة" – ويا له من تعبير كاشف ووصف دقيق لجزء كبير من حياتنا! فاللحظة التي نشعر فيها بأننا نقدر على النجاح وإحراز الانتصار على الخطية بقوة إرادتنا وحدها هي اللحظة التي نكون فيها مُتعبدين للإرادة. أليس من دواعي السخرية أن ينظر بولس إلى مجهوداتنا الأكثر إجهاداً في سيرتنا الروحية ويدعوها "عبادة إرادة" باعتبارها ضرباً من عبادة الأوثان؟

إن قوة الإرادة لن تنجح أبداً في التصدي لعادات الخطية المتأصلة في أعماقنا. وحسب قول أميت فوكس: "حالما تقاوم عقلياً أية حالة غير مرغوبة أو مطلوبة، تمنحها بذلك مزيداً من القوة التي ستستخدمها ضدك، وتكون قد استنفدت مواردك الخاصة إلى ذلك المدى عينه". كذلك خلص هاينريتش آرنولد إلى القول: "مادمنا نعتقد أننا نستطيع أن نُخلص أنفسنا بقوة إرادتنا الذاتية، فنحن إنما نجعل الشر في داخلنا أقوى منه في أي وقت آخر". وقد اختبر هذه الحقيقة عينها جميع الكتاب الكبار الذين تطرقوا إلى حياة التأمل والتعبد، من القديس أغسطينوس إلى القديس فرنسيس الأسيزي، ومن جون كالفن إلى جون وسلي، ومن تريزا الآفيلية إلى جوليان الزاهد.

قد تنتج "عبادة الإرادة" مظهر خارجياً إلى حين، ولكن في صدوع حياتنا وشقوقها لابد أن تنكشف أخيراً حالتنا الداخلية العميقة. ويصف السيد المسيح هذه الحالة حين يتكلم عن بر الفريسيين الخارجي: "من فضلة القلب يتكلم الفم... ولكن أقول لكم إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين" (متى 12: 34-36). ترى إذاً أن الناس، بفضل الإرادة، يمكن أن يؤدوا عرضاً حسناً إلى حين، ولكن عاجلاً أو آجلاً ستأتي تلك اللحظات الخالية من الحذر والتي سوف تنفلت فيها "الكلمة البطالة" لتكشف حالة القلب الحقيقية. فإن كنا مملوئين رحمة وتحنناً، فلابد أن ينكشف ذلك، وإن كنا مملوئين مرارة، فلابد أن ينكشف ذلك أيضاً.

ليس أننا نخطط أن نكون على هذا النحو أو ذاك. فلا نية لدنيا أن ننفجر غضباً، ولا أن نبدي غررواً بغيضاً، ولكن حين نكون بين الناس يخرج ما نحن عليه. ومع أننا قد نحاول بكل قوتنا أن نخفي أموراً كهذه، تفضحنا عيوننا، أو ألسنتنا، أو ذقوننا، أو أيدينا، أو كامل لغة أجسامنا. فليس لقوة الإرادة دفاع ضد الكلمة الطائشة، ولا ضد اللحظة الخالية من الحذر، إذ إن الإرادة تعاني العجز عينه الذي يتصف به الناموس: أنها تستطيع فقط أن تتعامل مع المظاهر الخارجية. غير أنها عاجزة عن إحداث التغيير الواجب في الروح الداخلية.

 

الانضباطات الروحية تفتح الباب

عندما نيأس من إحراز التغيير الداخلي بواسطة قوى الإرادة والتصميم البشرية، ننفتح على إدراك جديد عجيب: أن البر الداخلي هو عطية من عند الله نتقبلها بالنعمة. فالتغيير المطلوب في داخلنا هو من عمل الله، لا عملنا نحن. إذ إن الحاجة تدعو إلى شغل داخلي، والله وحده قادر على أن يشتغل من الداخل. فنحن لا نستطيع أن نبلغ أو نُحرز بر ملكوت الله هذا، بل هو نعمة تُعطي إعطاءً.

وفي رسالة رومية يذهب الرسول بولس إلى أبعد مدى ليبين أن البر هبة من عند الله فهو يستخدم اللفظة خمساً وثلاثين مرة في هذه الرسالة، ويُصر كل مرة على أن البر لا يمكن إحرازه أو بلوغه بواسطة الجهد البشري. ومن أوضح العبارات تلك الواردة في رومية 5: 17 ".. الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح". طبعاً، لا يوجد هذا التعليم فقط  في رسالة رومية، بل في الكلمة المقدسة كلها، وهو يقوم واحداً من الأركان الأساسية في الإيمان المسيحي.

غير أننا حين نحوز هذا التبصر الرائع، نغدو عُرضة لحظأٍ في الاتجاه المعاكس. إذ نُغري بأن نعتقد أن ليس ثمة ما يمكن أن نفعله. فما دامت جميع الجهادات البشرية تؤول إلى الإفلاس الروحي (ونحن نعلم أن هذا هو واقع الحال بعدما جربناه واختبرناه)، ومادام البر عطية مجانية من الله (الأمر الذي ينص عليه الكتاب المقدس بكل وضوح)، أفلا يكون من المنطقي إذاً أن نستنتج أن علينا انتظار الله كي يأتي ويغيرنا؟ الجواب هو لا، رغم غرابة الأمر. فالتحليل صحيح – أن الجهاد البشري غير وافٍ والبر هبة من الله – ولكن الاستنتاج خطاً. إذ أن ثمة ما يمكن أن نفعله ويا لغبطتنا! فلا داعي لأن نعلَق على أحد قرني الحيرة التي تتكون من خيارين لا ثالث لهما: إما الأعمال البشرية وإما الكسل. ذلك أن الله أعطانا انضباطات الحياة الروحية كوسيلة لتقبل نعمته. فالانضباطات تيسر لنا أن نضع أنفسنا بين يدي الله حتى يتاح له أن يغيرنا.

يقول الرسول بولس إن "من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية" (غلاطية 6: 8). وهذه الاستعارة التمثيلية التي يستخدمها بولس مُنوِرة للذهن حقاً. فالفلاح عاجز عن إنماء الحنطة، إذ كل ما يقدر أن يفعله هو توفير الأحوال المواتية لإنمائها. إنه يحرث التربة، ويزرع البذار، ويسقي النبات، ثم تتولى الباقي قوى الأرض الطبيعية، فيطلع الزرع.

وهكذا حال الانضباطات الروحية: إنها طريقة في الزرع للروح. فالانضباطات هي طريقة الله لغرسنا في التربة الروحية، إذ تضعنا حيث يُتاح لله أن يعمل داخلنا ويُغيرنا. فهي في حد ذاتها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، إنما تستطيع فقط أن تضعنا في المكان الذي يمكن فيه أن يُفعل شيء. إنها من وسائط نعمة الله. والبر الداخلي الذي ننشده ليس شيئاً يُسكب على رؤوسنا. فقد رتب الله أن تكون انضباطات الحياة الروحية هي الوسيلة التي نضع بها أنفسنا حيث يمكن أن يباركنا الله.

ومن المناسب في هذا الشأن أن نتكلم بشأن "سبيل النعمة المنضبطة".أما تقييده "بالنعمة" فلأن الأمر مجاني، وأما وصف النعمة بأنها "منضبطة" فلأن هنالك ما ينبغي أن نفعله نحن. ويُوضح ديترتش بونهوفر في كتابه "كلفة التلمذة (إتباع المسيح)"، أن النعمة مجانية ولكنها ليست رخيصة. فإن  نعمة الله غير مكتسبة ولا يمكن تحصيلها بالجهد الذاتي، ولكن إذا كنا نتوقع أن ننمو في النعمة أصلاً، ينبغي لنا أن ندفع الثمن اللازم لمسلك عملي يشمل الحياة الفردية والجماعية على السواء. وما غاية الانضباطات سوى النمو الروحي.

وربما كان من المفيد أن نتصور عيانياً ما نحن بصدد البحث فيه. فتصور سلسلة جبال طويلة ضيقة ذات منحدرٍ عمودي من كلا الجانبين. أما الهوة القائمة عن اليمين فهي طريق الإفلاس الأدبي بشتى وسائل الكفاح البشري في سبيل البر. وقد دُعيت هذه تاريخياً بدعة "الأخلاقية". وأما الهوة القائمة عن اليسار فهي الإفلاس الأدبي أو الخلقي عبر غياب أي كفاح بشري. وهذه قد دعيت بدعة "اللاناموسية". ولكن على السلسلة سبيلاً، ألا وهو انضباطات الحياة الروحية. هذا السبيل يؤدي إلى التحويل والشفاء الداخليين الذين نسعى إليهما. ويجب علينا ألا نميل البتة يميناً ويساراً، بل نبقى على السبيل. ورغم أن السبيل محفوف بالمصاعب الشديدة، فإنه حافل أيضاً بأفراح لا تصدق. فإذ نسير على هذا السبيل، ستأتي علينا بركة الله وتُعيد تشكيلنا على صورة السيد المسيح. إنما علينا أن نتذكر دائماً أن السبيل لا ينتج التغيير، بل يضعنا فقط حيث يمكن أن يحدث التغيير. هذا هو سبيل النعمة المنضبطة.

ينطوي اللاهوت الأدبي على قول مأثور: "الفضيلة سهلة". ولكن هذه المقولة صحيحة فقط إلى المدى الذي يكون فيه عمل الله بنعمته قد سيطر على روحنا الداخلية وغير أنماط العادات الراسخة في حياتنا. وحتى يتم ذلك، تبقى الفضيلة صعبة، بل بالحقيقة عسيرة جداً. فنحن نُجاهد كي نُبدي روح محبة وعطف، غير أن ذلك يكون كأننا نجلب إلى الداخل شيئاً من الخارج. ثم يفور من الأعماق الداخلية ذلك الأمر الوحيد الذي لا نرغب فيه: روح مرارةٍ لاذعة. ولكن ما إن نعيش ونسير على سبيل النعمة المنضبطة مدة من الزمن، حتى نكتشف حصول تغييرات داخلية حتماً.

إننا لا نقوم بما يتعدى قبول هبة، ومع ذلك نعلم أن التغييرات حقيقية. ونحن نعلم أنها حقيقية لأننا نكتشف أن روح الرحمة والتحنن التي استصعبنا جداً إبداءها في ما مضى باتت الآن سهلة. وبالحقيقة أن الامتلاء بالمرارة سيكون هو الأمر الصعب. فإن المحبة الإلهية قد انسلت إلى روحنا الداخلية وأخضعت أنماط عاداتنا. وفي اللحظات الخالية من الحذر، يحصل فيض تلقائي من المقادس الداخلية في حياتنا، قوامه "محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف" (غلاطية 5: 22، 23). ولا تعود لدينا تلك الحاجة المضنية إلى ستر ذواتنا الداخلية عن الآخرين. فلسنا مضطرين لأن نجتهد ونتعب كي نصير صالحين ولطفاء، إذ نكون بالفعل صالحين ولطفاء. وأن نكف عن كوننا صالحين ولطفاء سيكون هو الأمر الصعب، لأن الصلاح واللطف باتا جزءاً من طبيعتنا. فكما أنتجت حركات حياتنا الطبيعية في ما مضى حمأة وطيناً، كذلك تماماً تُنتج الآن ما هو "بر وسلام وفرح في الروح القدس" (رومية 14: 17). وقد لاحظ شكسبير أن "مزية الرحمة ليست مُتكلفة" .. وعلى غرارها جيمع الفضائل متى تمت لهن السيطرة على الشخصية.

 

طريق الموت: تحويل الانضباطات إلى فرائص ناموسية

إن الانضباطات الروحية معدة لخيرنا. فالمقصود منها أن تأتي بفيض الله إلى داخل حياتنا. ولكن من الممكن أن تُحول إلى تشكيلة أخرى من الفرائض الناموسية القاتلة للنفس. فالانضباطت المرتبطة بقيود ناموسية تنفث الموت.

لقد علم السيد المسيح أن علينا تخطي الكتبة والفريسيين (متى 5: 20). إنما ينبغي لنا أن نعي أن برهم لم يكن أمراً يسيراً. فقد كانوا عاكفين على اتباع الله بطريقة كثيرون منا غير مُستعدين لمجاراتها. غير أن عنصراً واحداً كان كل حين مركزياً في برهم. ألا وهو التظاهرية (أي الإفراط في التعلق بالمظاهر الخارجية). فقد كان قوام برهم السيطرة على المظاهر الخارجية، مشتملة أغلب الأحيان على استغلال الآخرين. إنما المدى الذي نكون قد بلغناه في تخطي بر الكتبة والفريسيين يُرى في مقدار ما تُبينه حياتنا من عمل الله الداخلي في القلب. يقيناً أن ذلك ستكون له نتائج خارجية، غير أن العمل سيكون داخلياً. وسهل في تحمسنا للانضباطات الروحية أن نحولها إلى البر الخارجي الذي اتصف به الكتبة والفريسيون.

وعندما تُحط الانضباطات الروحية لتجعل ناموساً، فإنها تُستعمل لاستغلال الناس والسيطرة عليهم. إذ نأخذ الوصايا الصريحة ونستعملها لتقييد الآخرين.

ومثل هذا الانحطاط اللاحق بالانضباطات ينتج كبرياء وخوفاً. أما الكبرياء فستبرز لأننا نغدو مُعتقدين أننا الصنف الصحيح من الناس. وأما الخوف، فلأننا نرتاع من فقدان السيطرة.

فإن شئنا أن نتقدم في مسيرتنا الروحية بحيث تكون الانضباطات بركة، لا لعنة، يجب أن نصل في حياتنا إلى حيث يمكننا أن ننزل عن ظهورنا ذلك الحمل الدهري المُتمثل في رغبتنا دائماً أن ندير الآخرين. إذ إن هذه النزعة، أكثر من أي شيء آخر بمفرده، ستؤدي بنا إلى تحويل الانضباطات الروحية فرائض ناموسية. وما إن نُرسي فريضة، حتى تكون لنا "تظاهرية" نحكم بها من يرقى إلى مستواها ومن لا يرقى. فبغير قوانين ناموسية، تكون الانضباطات في الجوهر عملاً داخلياً، ومن المستحيل أن نفرض السيطرة على عمل داخلي. وحين نعتقد بحق أن التحويل الداخلي هو عمل الله، لا عملنا نحن، يمكننا أن نُسكن شغفنا بإصلاح الآخرين. ينبغي أن نحذر من السرعة الهائلة التي يمكن أن نندفع بها إلى هذه الكلمة أو تلك، ونحولها إلى فريضة ناموسية. ولحظة نفعل هكذا نؤهل أنفسنا للحكم الصارم الذي تفوه به السيد المسيح على الفريسيين: "يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل، ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يُحركوها بإصبعهم" (متى 23: 4). وفي هذه الأمور، نحتاج لأن تترسخ في أعماق أذهاننا كلمات الرسول بولس: "..جعلنا كفاة لأن نكون خدام عهد جديد، لا الحرف بل الروح، لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحيي" (2 كورنثوس 3: 6).

ففيما نلج العالم الداخلي الخاص بالانضباطات الروحية، نتعرض دائماً لخطر تحويلها إلى فرائض ناموسية. غير أننا لسنا متروكين لوسائلنا البشرية الخاصة. فقد وعد الرب يسوع بأن يكون هو معلمنا ومرشدنا الحاضر كل حين. وسماع صوته ليس بالأمر الصعب. وفهمه توجيهه ليس صعباً. فإن كنا قد باشرنا بلورة ما ينبغي أن يبقى حياً ونامياً، فالرب سيقول لنا. وفي وسعنا أن نركن إلى تعليمه. وإن كنا ننحرف نحو فكرةٍ خاطئة أو ممارسة باطلة، فهو سيردنا. وإن كنا راغبين في الإصغاء إلى المؤدب السماوي، فسوف نتلقى التعليم والتوجيه الذين نحتاج إليهما.

إن عالمنا جائع إلى أُناس تغيروا تغيراً أصيلاً. وقد صدق ليو تولستوي إذ قال: "كل إنسان يفكر في تغيير البشرية، ولا أحد يُفكر في تغيير نفسه". فلنكن بين أولئك الذين يعتقدون اعتقاداً راسخاً أن التحويل الداخلي في حياتنا هدف يستحق أن نبذل في سبيله أفضل جهدنا.

ريتشارد فوستر

من كتاب فرح الانضباط: سبيل النمو الروحي

 

******

 

يحرث الفلاح الأرض ثم ينتظر الندى والأمطار من فوق، فإذا لم يأت الماء من فوق يصير الكرم بلا ثمرة ويصبح الكرام بلا مكسب من فلاحته. هكذا أيضا في الروحيات يجب أن يعمل ويجاهد كل إنسان بإرادة وعزيمة، لأن الله يطالب كل إنسان بكدًه واجتهاده وعمل يديه، ولكن إذا لم تدركه نعمة الله من فوق، ويشرف عليه سحاب جوده وتحننه، يبقى بلا ثمرة من جهاده.

آبا مكاريوس الكبير  (اقتباس 736)

من كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية"

للأب متى المسكين