أيوب.. وخيبة الأمل بالله (2)

فيليب يانسي ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

هل الله ظالم؟ هل الله صامت ؟ هل الله مختبئ؟

 

 

 

 

إن رفض الله الإجابة عن أسئلة أيوب لا تستسيغه العقول الحديثة. فنحن لا يروقنا – أنا لا يروقني – أن يُقال أن أمراً ما خارج نطاق إدراكنا. ألعل الله سيج دائرة معرفة، تسمى موسوعة الجهل اللاهوتي، لن يتمكن أي كائن بشري من فهمها على الإطلاق؟

 

ومهما قاومت، فلابد أن يدفعني سفر أيوب إلى استنتاج كهذا. لماذا الحياة جائرة (ظالمة) هكذا؟ متى يُسبب الله المعاناة ومتى يسمح بها... وما الفرق؟ لماذا يبدو الله بعض الأحيان صامتاً. وبعض الأحيان قريباً وحميماً؟ لما أُتيحت لله الفرصة الفريدة لحسم هذه المسائل نهائياً، عبس وهز رأسه. ولماذا يُكلف نفسه عناء التفسير؟ أمور لم يستطع أيوب، ولن يستطيع أي كائن بشري آخر، أن يفهمها حق الفهم؟

 

ليس في وسعي تقديم أجوبة عن أسئلة أيوب المحددة، لأن الله لم يقدم أي جوابٍ عنها. إنما يسعني فقط أن أسأل لماذا لا يُعطي الله أجوبة، ولماذا ينبغي أن تكون موسوعة الجهل اللاهوتي موجودة؟ ولأنني أدخل دائرة بقي الكتاب المقدس صامتاً بشأنها، فإن ما يلي هو مجرد حزر وتخمين. وأنا إنما أضمن هذا لأجل الأشخاص الذين لا يُرضيهم أبداً اللاجواب، لأجل أولئك الذين لا يستطيعون الكف عن طرح أسئلةٍ أبى حتى الله أن يُجيب عنها.

 

ربما يُبقينا الله جاهلين لأننا نعجز عن استيعاب الجواب

 

لعل امتناع الله الجليل عن إجابة أيوب لم يكن مجرد حُسن تملص، أو طريقةً بارعةً لتفادي الإجابة، بل لعله كان إقراراً من الله بحقيقة جلية من حقائق الحياة. فإن مخلوقاً ضئيلاً على كوكبٍ ضئيل في مجرةٍ نائية لا يستطيع فعلاً أن يسبر أغوار تصميم الكون الرائع. وكأنما تحاول أن تصف الألوان لشخصٍ وُلِدَ أعمى، أو إحدى سيمفونيات موزارت لشخصٍ وُلِدَ أصم، أو تشرح نظرية النسبية لشخصٍ لا يعرف أي شيء عن الذرة.

 

ولتقدير المسألة، هب نفسك تحاول أن تتواصل مع مخلوقٍ على شريحة مجهر. فإن "الكون" في نظر مخلوقٍ كهذا مكون من بعدين فقط هما بعدا سطح شريحة الزجاج المنبسط، ولا تستطيع حواسه أن تدرك أي شيءٍ أبعد من الأطراف. فكيف يمكنك أن تنقل إلى مخلوق كهذا مفهوم الفضاء أو العلو أو العمق؟ وأنت إذ تنظر "من فوق" تستطيع أن تفهم عالم المخلوق الثنائي الأبعاد، فضلاً عن العالم الثلاثي الأبعاد المحيط به. إلا أن المخلوق "من تحت" ، لا يستطيع أن يدرك سوى عالم ذي بُعدين[1]. بالطريقة نفسها، ينوجد العالم غير المنظور خارج نطاق إدراكنا – ما عدا بعض التدخلات النادرة في "مسطحنا"، والتي ندعوها معجزات. فلا يستطيع أيوب، ولا أنا وأنت، استيعاب الصورة الشاملة بمداركنا الحالية.

 

لقد استكشف السينمائي "وودي ألن" بطريقة هزلية مستوى الرؤية هذا المؤلَف من "عالمين" في فيلمه "وردة القاهرة الأرجوانية"، إذ نرى أولاً البطل بعيني "ميا فارو" وهي تراقبه فيما يُمثل دوراً في فيلم. ثم يخرج ذلك البطل على نحوٍ لا يُصدَق خروجاً فعلياً من شاشة الفيلم ذات البُعدين ويهبط على مسرح سينما نيوجرسي، فإذا به فجأة في العالم "الواقعي" مع الشخصية المشدوهة التي تُمثلها الآنسة فارو.

 

ويشتمل العالم الخارجي على مفاجآت كثيرة لممثل الفيلم. فإذا لكمه أحدهم بقبضة يده، يسقط أرضاً بكل طاعة، كما كان قد تعلم أن يفعل على الشاشة، ولكنه يفرك حنكه بانذهال – فتلك اللكمات لا يُفترض أن تؤذي! وإذا قبَّل هو وميا أحدهما الآخر، يتوقف هنيهةً بانتظار خبو الصورة. وحين يحاول أحدهم أن يشرح له مفهوم الله قائلاً: "إنه من يسيطر على كل شيء، وعلة وجود العالم كله"، يومئ برأسه ويقول: "أوه، تقصد أنه مستر ماير، مالك شركة الأفلام". فإن مدركاته مقصورة على عالم الفيلم. أخيراً، يرجع الممثل إلى شاشة السينما ذات البعدين، ويحاول أن يُفسر العالم الواقعي لسائر الممثلين.

 

فيحدقون فيه كمن ينتمي إلى مصح عقلي، لأنه يتكلم لغواً وهذراً. إذ ليس في الخارج أي عالم "أخر"، فعالم الفيلم وحده واقعي عندهم.

 

يؤكد ودي ألن الفكرة عينها التي يوضحها تشبيه المخلوق الثنائي البُعد. فإذا كان عالم واحد (عالم البعدين أو عالم الفيلم) موجوداً داخل عالم آخر، فإنه لا يعني شيئاً إلا من وجهة نظر العالم "الأعلى". وبإيصال التشبيه إلى مدى أقصى، رجوعاً حتى سفر أيوب، فإن معظم أسئلة أيوب كانت تتعلق بالنشاط الجاري في العالم "الأعلى"، وهو عالم واقع خارج نطاق إدراكه.

 

فالله يُقيم في مستوى "أعلى"، في بعد آخر. والكون لا يحتويه، فهو خالق الكون، وبطريقة لا نقوى على سبر غورها، ليس هو مقيداً بالمكان والزمان. وفي وسعه أن يخطو إلى داخل العالم المادي – ولو لم يفعل ذلك ما كانت حواسنا في الواقع لتدركه أبداً – إلا أن الأمر بالنسبة إليه "دخول" حقاً، كأديب يُقدم نفسه كشخصية من شخصيات روايته الخاصة. أو كشخص في العالم الواقعي يظهر ظهوراً قصير الأمد في فيلمٍ من الأفلام.

 

 

 

في وسعنا أن نتخيل هذا المنظور على نحوٍ باهت، كما لو كان وسط الضباب. ولكن مجرد إقرارنا بتقييد الوقت لنا على نحوٍ عُضال قد يُساعدنا على فهم سبب إحجام الله عن إجابة "لماذا؟" التي سألها أيوب. فإن الله أجاب بالحري بعرضٍ سريع لبضع حقائق كونية أساسية لا يكاد أيوب يستوعبها، وبهذا التنبيه: "دع الباقي لي!" وربما كان الله يُبقينا في جهل، لأنه بأية حال لا يستطيع أيوب، ولا آينشتين، ولا أنا ولا أنت، فهم المنظر "من فوق".

 

ومهما سوغنا الأمور عقلياً، لابد أن يبدو الله أحياناً غير مُنصِف من وجهة نظر شخصٍ مُقيد بالزمن. فعند نهاية الزمن فقط، بعد أن نكون قد بلغنا مستوى النظر الإلهي، وبعد أن يكون كل شر قد نال عقابه أو غفرانه، وكل مرضٍ قد شفي، والكون كله قد رُدَ وأُصلِحَ، عندئذٍ فقط سوف يسود العدل والإنصاف. آنذاك نفهم الدور الذي أداه الشر، وسقوط البشر، والناموس الطبيعي في حادثة "غير منصفة" مثل موت ولد. فحتى ذلك الحين، لن نعرف، ولا يسعنا سوى الوثوق بإلهٍ هو حقاً يعرف.

 

إننا نبقى جاهلين لكثيرٍ من التفاصيل، ليس لأن الله يروقه أن يبقينا في الظلام. بل لأننا لا نملك المدارك التي تُمكننا من استيعاب نورٍ باهر. فبلمحة واحدة، يعرف الله إلى أين العالم صائر وكيف سينتهي التاريخ. ولكننا نحن الخلائق المقيدين بالزمن لا نملك إلا أسلوب الفهم الأكثر بدائية: في وسعنا فقط أن ندع الوقت يمر. فقبل أن يكون التاريخ قد أنهى شوطه لن نفهم كيف "أن كل الأشياء تعمل معاً للخير." والإيمان يعني أن نُصدق سلفاً ما لن يكون ذا معنى إلا بالعكس.

 

لي صديق يُدافع بحماسةٍ عن تعريف الإيمان كما يلي: "أن لا تلوم الله أبداً على الأمور الرديئة، وأن تعزو إليه مع ذلك فضل الأمور الجيدة!" وبطريقة من الطرق غريبة، صديقي على حق. ففي اعتقادي أن ذلك هو أيضاً ما يتطلبه الإيمان أحياناً: أن نثق بالله حين لا يتوافر دليل ظاهر عليه، كما فعل أيوب. أن نثق بصلاحه الكلي، صلاحٍ موجود خارج نطاق الزمن، صلاحٍ لم يدركه الزمن بعد.

 

 

 

كان بيت القصيد من الرهان أن يبقى أيوب في العتمة. فلو أن الله أسرَّ إليه بحديث مُنشط مُلهم مثل: "قم بهذا لأجلي، يا أيوب، كفارسٍ من فرسان الإيمان أو كشهيد"، لكان أيوب تحمل معاناته بسرور بعدما شعر بالاعتزاز. ولكن الشيطان كان قد عرض تحدياً مداره: "هل يصمد إيمان أيوب بغير مساعدة أو تفسير من الخارج؟" وحين قبل الله هذه الشروط، هبط الضباب حول أيوب.

 

ويظهر معظم أشخاص العهد القديم هؤلاء في لائحة الشرف الواردة في عبرانيين 11، وهو أصحاح سماه بعضهم "قاعة مشاهير الإيمان". أما أنا فأفضل تسمية ذلك الإصحاح "الناجون من الضباب" لأن كثيرين من الأبطال المذكورين مروا في اختبارٍ مشترك؛ وقت امتحان رهيب على غرار أيوب، وقت يهبط فيه الضباب ويغدو كل شيء قاتماً ومُربكاً. عذابٌ وهزء وجلد وسلاسل ورجم بالحجارة ونشرٌ بالمناشير: هكذا تُسجل رسالة العبرانيين بتفصيل كئيب التجارب التي تُصيب أولئك الذين قلوبهم مُفعمة بالإيمان.

 

فالقديسون يصيرون قديسين بتشبثهم على نحوٍ ما بالاقتناع الراسخ بأن الأمور ليست كما تبدو، وأن العالم غير المنظور حقيقي وجدير بالثقة مثل العالم المنظور حواليهم. إن الله يستحق الثقة، حتى حين يبدو وكأن العالم ينهار. ويخلص عبرانيين 11 إلى القول عن الحشد الرائع الذي يذكره: "وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم"، مضمناً هذا التعليق الآسر "لذلك لا يستحي بهم الله أن يُدعى إلههم".

 

إن محبوبي الله، خصوصاً محبوبي الله، ليسوا في منعةٍ (مناعة أو عصمة) من الأوقات المُحيرة المربكة التي يبدو فيها الله صامتاً. وكما قال بول تورنييه: "حيث لا تبقى بعد أية فرصة للشك لا تبقى أيضاً أية فرصة للإيمان". فإن الإيمان يستوجب اللايقين والتشوش. والكتاب المقدس حافل بالأدلة على اهتمام الله – وبعضها رائع للغاية – إنما لا ضمانات. وبعد أفلا تحول الضمانة دون الإيمان؟

 

غير أن أيوب، مع قديسو عبرانيين 11، يدلُّ إلى نوعٍ مختلف من الإيمان، هو النوع الذي حويته في هذا الكتاب الذي يتناول خيبة الأمل بالله. فالإيمان الطفولي ربما لا يصمد عندما لا تأتي المعجزة، أو عندما لا تُستجاب الصلاة اللجوج، أو عندما تطمس غمامة رمادية كثيفة أية علامة على اهتمام الله. إذ أن أوقاتاً كهذه تستدعي شيئاً يتعدى ذلك. وسأستعمل كلمة "الأمانة" القديمة للتعبير عن الإيمان الذي يبقى صامداً مهما كان الثمن.

 

يُمثل المزمور 23 الإيمان الطفولي، ويُمثل المزمور 22 الأمانة: نوعاً من الإيمان أعمق وأعجب. وقد تشتمل الحياة مع الله على كليهما. فربما اختبرنا أوقاتاً من القرب غير المعتاد. حين تُستجاب كل صلاة بطريقة ملموسة ويبدو الله حميماً وعطوفاً. وربما اختبرنا أيضاً "أوقات ضباب"، حين يبقى الله صامتاً، وحين لا يجري أي شيء بموجب الصيغة، وتبدو جميع وعود الكتاب المقدس واهية. فالأمانة تتضمن تعلم الوثوق بأن الله، خارج محيط الضباب، مازال مالكاً ولم يتجل عنا، كيفما بدت الأمور.

 

وعلى نحوٍ ظاهري التناقض، فإن الأوقات الأكثر تحييراً وإرباكاً، كالتي نجدها لدى أيوب، قد تعمل على "تخصيب" الإيمان وتعزيز العلاقة الوثيقة بالله (على ما يشهد المؤمنون الذين يزورون كنائس في أماكن مثل إثيوبيا والصين وغيرهما). فالإيمان الأعمق، ذاك الذي دعوته الأمانة، يُفرخ ويطلع عند نقطة تناقض، كورقة عشب بين الحجارة. والكائنات البشرية تنمو بالكفاح والعمل والتمدد، وبمعنىً ما تحتاج الطبيعة البشرية إلى مشاكل أكثر من احتياجها إلى حلول. فلماذا لا تُستجاب جميع الصلوات بطريقة سحرية فورية؟ ولماذا يتعين على كلِّ راجعٍ إلى الله أن يسلك سبيل التدرب والانضباط الروحيين عينه؟ لأن الصلاة بلجاجة، والصوم، ودراسة الكتاب المقدس، والتأمل جميعها مصممةٌ بصورة جوهرية لأجل خيرنا نحن، وليس لأجل إرضاء الله.

 

وقد تكلمت مع كثيرين انهار إيمانهم الطفولي المفعم بالحماسة والبهجة كذلك في وقت المحنة أيضاً.

 

تحت سطح سفر أيوب تماماً يكمن سؤال لا مفر منه. فلو عمد زوجٌ، على سبيل إجراء "امتحان" للحب، إلى تعريض زوجته للصدمة التي كان على أيوب أن يكابدها، لكُنا ننسب إليه المرض ونحجزه بعيداً عن الناس. ولو احتجبت أمٌ عن أولادها، رافضةً أن تُنادي لهم بتوجيهات من على الشاطئ في وسط الضباب، لحكمنا عليها بأنها أمٌ غير صالحة . فكيف يمكننا إذاً أن نفهم تصرفاً مثل الرهان من قبل الله نفسه؟

 

لست أعرض صيغةً مُحكمة، بل ملاحظتين فحسب.

 

1-    لدينا قليلٌ من الإدراك لما يعنيه إيماننا في نظر الله. بطريقةٍ من الطرق غامضة، كانت محنة أيوب "تستحق عناءها" في نظر الله لأنها مضت إلى لب الاختبار البشري بكامله. فأكثر من إيمان أيوب، كان الدافع من وراء الخليقة كلها على المحك. فذلك أنه منذ أن بادر الله إلى "مغامرة" إفساح المجال للكائنات البشرية ذات الإرادة الحرة بات الإيمان – الإيمان الصادق الحقيقي المبذول طوعاً وغير المُستجدى – ذا قيمةٍ جوهرية في نظر الله لا نكاد نقوى على تصورها. فليس من طريقة لدينا للتعبير عن المحبة لله أفضل من ممارسة الأمانة تُجاهه.

 

وكما قال المسيح. فعند نهاية التاريخ (حين ينقشع الضباب إلى الأبد) لن يهم سوى سؤال واحد: "متى جاء ابن الإنسان، ألعله يجد الإيمان على الأرض؟" ثم أن الرسول بولس، بعدما رسم الخطوط العريضة لمخطط العالم من الخلق حتى مجئ المسيح، خلص إلى القول إن الله فعل ذلك لأجل البشر "لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيجدوه، مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيداً". وقد كانت "الكلفة (الثمن)" بالنسبة إلى الله إرسال ابنه. أما "المردود (العائد)" فيتمثل في استجابةٍ مُخلصة من قِبَل شخص مثل أيوب، أو مثلك، أو مثلي.

 

أقر بأنه يصعب على أي واحدٍ منا، ببصرنا المحدود، أن يدرك "المردود" الذي تم ربحه بواسطة تجارب أيوب. ولعل سي. أس. لويس دانى (اقترب من) الحقيقة في تعليقه عن إرسال الله إيانا إلى "مواقع خطيرة جداً تحتاج إلى الاستبسال في إطار المعركة الكبرى". فبحسب الكتاب المقدس، تؤدي الكائنات البشرية دور جنود المشاة الأساسيين في الحرب بين قوات الخير وقوات الشر غير المنظورة جميعاً. والإيمان هو سلاحنا الأقوى والأمضى.

 

وربما أرسلنا الله إلى المواقع الخطرة بذاك المزيج عينه من الفخر والحب، والكرب والندامة، ذاك الذي يشعر به أي أب عند إرسال ابن أو ابنة إلى الحرب.

 

هل كانت تجربة أيوب "تستحق عناءها" في نظر الله؟ إن الله وحده يستطيع الإجابة عن هذا السؤال. ولطالما كان على أن أستنتج أن السيادة الإلهية المطلقة تعني على الأقل هذا الأمر: الله وحده يستطيع أن يُحدد ما هو مهم في نظر الله. وقد قال المسيح لتوما الشكاك، بشيءٍ من العتاب الرقيق: "طوبى للذين آمنوا ولم يروا!" فإن أيوب شهد جانب الحياة الأحلك ظلاماً، وسمع صمت الله الأعمق، ومع ذلك ظل مؤمناً.

 

2-    الله لم يُعف نفسه من مطالب الإيمان ذاتها. إن تجارب أيوب لا يمكن أن تقوم بمعزل عن صداها الأقوى في حياة المسيح. فهو أيضاً قد جُرب. وهو أيضاً خسر كل ما له قيمة، بما في ذلك أصدقاؤه وصحته. وكما تقول رسالة العبرانيين، "قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت". وأخيراً، خسر حياته.

 

لن نستطيع البتة أن نسبر تماماً أغوار سر ما حدث على الصليب، ولكن لنا في ذلك بالفعل التعزية بأن الله لا يشاء أن يُجيز خلائقه في أية محنة لم يتحملها هو نفسه، ففي ذلك اليوم، اختبر يسوع نفسه صمت الله.. فكان المزمور 22، ليس 23، هو الذي اقتبس منه وهو على الصليب.

 

ثم إن أحد القيامة يُبين أن الألم لن يظفر في آخر المطاف. لذلك يكتب يعقوب: "احسبوه كل فرحٍ.. حينما تقعون في تجارب متنوعة" ويكتب بطرس: "به (بالخلاص) تبتهجون، مع أنكم الآن - إن كان يجب – تُحزنون يسيراً بتجارب متنوعة" ويكتب بولس: "نفتخر (أي نبتهج جداً) أيضاً في الضيقات". ويمضي الرسل ليشرحوا الخير الذي يمكن أن ينجم عن "معاناة مُفتداة" كهذه، من نُضج وحكمة وإيمان أصيل وثبات وخُلق وفضيلة، وكثيرٍ من المكافآت الآتية.

 

ولماذا الابتهاج؟ ليس لسبب النشوة الماسوشية الناشئة من التجربة بعينها، بل لأن ما فعله الله يوم أحد القيامة على نطاقٍ واسع يستطيع أن يفعله لكل منا على نطاقٍ ضيق. والآلام التي يتطرق إليها يعقوب وبطرس وبولس كان يرجح أن تُشعل أزمة إيمان كبرى في العهد القديم. إلا أن كُتاب العهد الجديد باتوا يؤمنون "أن كل الأشياء تعمل معاً للخير،" كما عبر الرسول بولس.

 

وغالباً ما تتعرض للتحريف تلك الآية الشهيرة، إذ يؤولها بعضهم بحيث تعني "أولئك الذين يحبون الله لن يُصيبهم أي مكروه". ولكن بولس عنى العكس تماماً، وفي الفقرة التالية رأساً يُعرف نوع "الأشياء" التي لنا أن نتوقعها: شدة، ضيق، اضطهاد، جوع، عري، خطر، سيف. وقد احتمل بولس هذه كلها. غير أنه يُصر مع ذلك على أنه "في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" إذ لا يمكن لأي مقدار من المصائب والمصاعب أن يفصلنا عن محبة الله لنا في المسيح.

 

إنما المسألة مسألة وقت، على ما يقوله بولس. فما عليك سوى الانتظار، إذ إن معجزة الله في تحويل يوم جمعة قاتمٍ صامت إلى أحد قيامة مشهود سوف تُوسع ذات يوم لتشمل الكون كله.

 

 

 

 

- يتبع أول الشهر القادم

 

 

 

فيليب يانسي

 

من كتاب "عندما لا تمطر السماء"

 

 

 


[1] يتحدث الأنثروبولجيون عن "فجوة إدراك" مماثلة جداً وسط الشعوب النائية. فإذا اطلع هندي ريفي من بابوا غينيا الجديدة على صورة فوتوغرافية لغابة، يرى فقط علامات وبقعاً من الألوان على ورقة مسطحة. وعليه، بالاختيار، أن يتعلم "رؤية" الصورة الثنائية البعد باعتبارها تحوي بالفعل رسوماً ثلاثية الأبعاد، من طير وشجر وشلالات.