الروح يشهد

الأب متى المسكين ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

"احتملتهم سنين كثيرة وأشهدت عليهم بروحك عن يد أنبيائك" (نح 9: 30)

 

يا لصبر الله! ويا لاحتمال الله! لخطايانا الكثيرة واعوجاج سيرتنا.

يتأنى علينا برأفات كثيرة سنين كثيرة، يُرسل لنا كل صباح من ينبهنا أو يتنبأ، ولا يدعنا ننام إلا وينخس ضمائرنا، بكتاب أو بكلمة عابرة.

كل ذلك برفق دون أن يجرح أو يفضح، ودون أن يُهدد ويتوعد، بل كمجرد شاهد نصوح، لعلنا نجعل لاستهتارنا حداً، ونقوم فنلوم أنفسنا ونوقظ إرادتنا.

ولكننا لا نعباً بلطف الله ولا نُقيم وزناً لنصح الروح لنا، بل نسوف ونسوف، ونتمادى حتى يتبدد خوف الله من قلبنا، فينقطع رجاء الله فينا، وحينئذ لا يعود روح الله يعمل بعد كمنبه أو مُذكر، بل ويكف عن الملامة والتأنيب، ويقف منحصراً فينا شاهداً علينا، بلا انقطاع، حتى ليكاد أنينه يصم آذان قلبنا، ولكن الخطيئة تبلد الإحساس وتخدر الضمير، فيمر الصباح وليس مُعكر، ويمر المساء ولا شئ يؤذي، وتمر الأسابيع تفر كعربات القطار، وتعبر السنة برمتها، والضمير يستمرئ حياة الانحلال والتعدي، ولا يكاد يشعر بالخطية، والخطية بدون الروح القدس يصبح تعاطيها سهلاً كالماء.

ولكن، واحسرتاه! كل ذلك والروح القدس منقلب على النفس داخلها، يُسجل عليها درجة اعوجاجها أولاً بأول، ويزن ثقل انجذابها لشهوات التراب، ويقيس مسافة تباعدها عن الله مصدر خلاصها وحياتها. فإذا بلغت إلى الدرجة الحرجة، وانحطت إلى المستوى الذي لا قيام منه، وجمحت إلى الحد الذي لا عودة بعده، يبدأ قضاء الله.

ولكن، ياروح الله، أنا لا أزال أطلب وجهك،

لا أزال أترجى رحمتك،

فلا تطوي صفحة الحب هكذا سريعاً،

لأنه لا يزال عندي كلام لك،

وعندي توبة وندامة،

وعندي دموع،

وعندي صلاة وصلاة، وأصوام.

تأنى قليلاً، ولا تختم على أيام الرفق واللطف والوداد.

أنا لست كفواً لغضبك، ولا حملاً لأشهادك وموازينك وقلمك.

أصرخ إليك لا تتعجل،

كن لي ضميناً عند نفسك.

وإن انحنت بالإثم وعلى الإثم نفسي،

فاستقامتها بين أصابعك.

وإن انحدرت حتى الهاوية،

فيدك ترفعني إلى العلو، إلى السماء، لأني لا أطيق سقوطي.

وإن تباعدت عنك بإرادتي،

فأين أهرب من روحك"

اجذبني، فأعود سريعاً،

لأن بُعدي لا يشفيه إلا قربك!!

 

 

روح الله وبهجة الخلاص

"رد لي بهجة خلاصك، وبروح منتَدِبة (رئاسي) أعضدني." (مز 51: 12)

نحن لازلنا بصدد مزمور التوبة، أو بالأحرى مزمور الخطية: "ارحمني يا الله مثل عظيم رحمتك""!!

قد يصفح الله عن الخطية، كوعده للتائبين، وتجف الدموع، وقليلاً قليلاً تزول القطيعة والغربة، التي تكون قد انحدرت إليها النفس بعيداً عن الله، بسبب حماقتها.

بل وقد يحل السلام، وتدخل النفس منطقة الأمان، ولكن أين الفرح؟ أين البهجة الأولى؟ أين التهليل والترنم؟ أين الابتسامة العريضة والوجه المضيء؟ أين تعضيد الروح والرأس المرفوعة؟

كلها ضاعت. وقد ذوت النفس، وانحنت على نفسها، وغاب عنها خلاصها، واختفت بهجتها. فهذا سر الخلاص الذي تفقده النفس يوم تخلع عنها ثوب طهارتها.

قد يعود الله، ويستر عورتها برحمته، حينما ترتد إليه باكية، وقد يُلبسها أقمصة جلد ليرفع حزنها وعارها.

ولكن أن تكون عروساً، وأن تتزين بلباس العُرس، وأن تفرح بوجه العريس، فهذا حصيلة أمانة ينبغي أن تُمتحن كل يوم بالنار من جديد!!

ليس كل من يسقط ويقوم، يعود إلى بهجته الأولى، إذ بعد التوبة يتبقى أمام النفس اختبار الركض في ميدان الطهارة، كل يوم مجدداً، حتى يُختبَر مدى اجتهادها، بل مدى غيرتها، بل مدى صلابتها وعزمها؛ حتى تفوز برضا الحبيب وتعود إلى بهجتها الأولى.

من جهة هذا، يصرخ داوود: "رد لي بهجة خلاصك"! وإذ يرى عجزه وتحطمه وانكساره، ويرى الميدان طويلاً أمامه، والعافية فيه مضمحلة، يصرخ: "وبروح رئاسي عضدني"!!

يوجد "روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب؟ (أش 11: 2)، ولكن داوود يطلب "روح رئاسي"، لأن نفسه انحنت فيه حتى التصقت بالتراب، وروحه ذابت في أحشائه، فلم يًعُد يستطيع أن يرفع وجهه أمام مرءوسيه!!

 

فيا روح الله، أعن توبتي حتى تفوز بتزكيتك،

وانظر إلى حزني وذلي، وامتحن قلبي لعله يصبح يوماً حسب قلبك؛

فأفوز برضاك، وترد لي بهجة خلاصك.

 

 

الأب متى المسكين

من كتاب: "مقالات قصيرة عن الروح القدس"