المسيحية المعاصرة

سارافيم البرموسي ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

هناك مَنْ ينظر للماضي وكأنـّه قممٌ من جليدٍ متجمِّدٍ لم تعبر عليه شمس التجربة الإنسانيّة .. وكأنـّه خيوطٌ أسطوريّةٌ  في رداء التاريخ الوهمي الذي نسجته قريحة الشعوب القديمة.

وفي المقابل، هناك مَنْ يرَى في الماضي رمادًا ذُرَّ في فضاء التاريخ .. رمادًا لا قيمة له في الحاضر، فاليوم هو الحياة، وكلّ وافدٍ من الأمس، هو ابن قبور الماضي التي لا يجب أن تُفْتَح من جديد.

ولعلّ مسيحنا الذي نرَى فيه الله حيًّا مُتحرِّكًا متلامسًا معنا، قد طاله، من قِبَل العالم، ما طال التاريخ من الإسقاط الأسطوري، أو من التهميش التاريخي، وكلاهما كانا بمثابة محاولة مغرضة لعزلنا عن مسيحنا، ومن ثمّ مسيحيّتنا، لإغراقنا في مياه الحيرة أمام دعوتنا الإلهيّة.

يحاول العالم الآن أن ينال من المسيح من خلال البحث في التاريخ الممتد عبر إحدى وعشرين قرنًا. لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام بهاء الربّ يسوع وشريعته، فبحثوا عمّن دُعوا على اسمه لعلّهم يجدوا في تاريخهم ما يلقون بأضواء ظلمتهم عليه!! ولكن هل كلّ مَنْ يُدعَى مسيحيًّا يحيا حسبما أوصَى الربّ يسوع، وحسبما يُرشِد الروح؟ بالطبع لا. لذا فإنّ مَنْ يريد أن يواجه المسيحيّة يتوجّب عليه مواجهة المُخلِّص، لا مَنْ تسمّوا باسمه، فهناك مسيحيّون اسمًا بينما قلوبهم لم تتشكَّل على تعاليمه بعد. فاسم الله يُجدَّف عليه بين الأمم بسبب أفعال البعض، تلك كانت كلمات القديس بولس في رسالته إلى الرومان.

“كيف أصبح مسيحيًّا؟” كان هو السؤال الذي ردَّده الفيلسوف الدنماركي كيركجارد في كتابه “وجهة نظر” الذي أصدره عام 1849، بل وذهب إلى أن نتاجه الفكري كلّه  ليس إلاّ محاولة لفهم كيف يصبح مسيحيًّا.

ولعلّ هذا السؤال يراود الكثيرين الآن وخاصة في زمن اختلاط القيم والمبادئ والثقافات .. زمن عولمة الذهن والقلب .. إذ تمّ الخلط عند البعض بين المسيحيّة من حيث هي عَلاقة شخصيّة / ليتورجيّة مع الله، وبين المسيحيّة من حيث هي ديانة بعض الشعوب وميراثهم الفكري والثقافي والحضاري. ذلك الخلط بين المسيحيّة / العَلاقة وبين المسيحيّة / الأيديولوجيّة جعل من الواقع لونًا رماديًّا لا نلمح فيه الخطوط البيضاء أو السوداء بسهولة، وبالوعي المُجرَّد.

ولعلّ المسيحيّة / الأيديولوجيّة كانت السبب المباشر في العزوف عن الدين الذي مازالت تعاني منه المجتمعات الأوروبيّة حتّى الآن، حتّى إن البعض يرى أن أوروبا الآن تعيش في مرحلة “ما بعد المسيحيّة” أو مرحلة “عولمة الدين”.

كانت محاولة الفصل ما بين المسيحيّة والمجتمع هي ما دعت إليه أستاذة الفلسفة مارجريت نايت في محاضراتها الشهيرة التي قدّمتها بالإذاعة البريطانيّة في خمسينيّات القرن الماضي والتي حملت عنوان: “أخلاق بغير دين”. وقد دعت فيها إلى إمكانيّة قيام أخلاق وضعيّة تحكم السلوك وتوجِّه سير الحياة دون الحاجة إلى الاسترشاد بالمبادِئ والقواعد الدينيّة أو الخضوع لتعاليم الكنيسة!! من هنا ظهر الشعار الذي رفعه دعاة مذهب الحداثة القائل: “إذا أردت أن تكون معاصرًا للحداثة فعليك أن تقول وداعًا للدين”.

وقد نشأ في الكنيسة الكاثوليكيّة، كرد فعل، ما يُسمّى بـ“يمين الحداثة” وهو قَسَمٌ يؤدّيه الإكليروس على مختلف فئاتهم، فضلاً عن أساتذة اللاّهوت، وفيه يدينون كلّ ما يتعلّق بالحداثة، وقد كان هذا القَسَمُ معمولاً به حتّى المجمع الفاتيكاني الثاني.

مذهب “الحداثة” قائمٌ على الإيمان بكلّ ما هو قابل للاختبار والمُشاهدة .. قائمٌ على العِلم الذي تفجّرت ينابيعه بالثورة الصناعيّة. والحداثة ترى أنّ الكون محدود لذا من الممكن معرفته؛ فالنظريات العلميّة وحدها هي مصدر الحقيقة، لا وجود لما لا يخضع للنظريّات العلميّة .. لذا لا وجود لعالمٍ آخر!!

وقد انسحب هذا الفكر على المجال المسيحي والذي كان الألماني شليرماخرSchleiermacher  (1768 ـ 1834) رائدًا فيه. فقد رأى أن فكرة الخلق من العدم، والأعمال المعجزيّة الواردة في الكتاب المُقدَّس فضلاً عن الميلاد البتولي للعذراء، هي أمور غير مقبولة علميًّا ومن ثمّ يجب أن تُرفَض!! ودعا إلى إعادة هيكلة الوعي والفهم الديني استنادًا إلى العلم!!

ظهر بعده الألماني ألبرخت رتشيلAlbrecht Ritschl  (1822 ـ 1889) والذي نادَى بالحفاظ على البذرة المسيحيّة والتخلُّص من القشرة. والقشرة، في رأيه، كانت أنّ المسيح إله!!!

وفي القرن العشرين هاجم الأمريكي هاري إمرسون فوسديك Harry Emerson Fosdick، الميلاد البتولي، في كلمته التي بعنوان “خطر التعبُّد ليسوع”، وقدَّم وثيقة وقَّع عليها ألف ومائتي راعٍ معمداني، مفادها أنّ الميلاد البتولي والمسحة والقيامة ليست من ضروريات المسيحيّة!!

لقد ظهرت الحداثة كردّة فعل عنيفة على كلّ الثوابت التي طالبت بها الكنيسة الغربيّة، المجتمع، عبر عِدّة قرون ممّا حال دون التقدُّم والبحث. ولعلّ الشعور بأنّ الإيمان المسيحي ضِدّ العلم كان نتاج بعض الحوادث التاريخيّة التي جرت في أوروبا في العصور الوسطَى نتيجة ارتباط السلطة الدينيّة بالسلطة المدنيّة.

ظهر تيار جديد بعد “الحداثة” هو “ما بعد الحداثة” وهو التيار الذي يرفض كلّ تحديد؛ فالحقيقة ليست كونيّة وليست مطلقة وليست قابلة للفهم، كما أنّ اللُّغة لا تُعبِّر عن الحقيقة لأنـّها جزئيّة .. ولأوَّل وهلة تبدو تلك الأفكار مقبولة عن التحديدات التي فرضتها الحداثة من خلال رفضها الإيمان بكلّ خيط لا يعبر على التجربة والمشاهدة، إلاّ أنّ “ما بعد الحداثة” أنتجت ما يمكن أن نطلق عليه “ميوعة فكريّة”، وهو الذي تبنّته بعض الكنائس اللّيبراليّة في الغرب، متنصّلة من كلّ تحديد عقائدي أو حتّى أخلاقي!!

هنا ونجد أنـّها كانت بمثابة محاولة لرأب الصدع بين الأفكار والعقائد والمذاهب المتباينة ولكن من خلال تجريد الإنسان من أيّة قناعة ذهنيّة وفكريّة وروحيّة، وهنا الخلط بين ضرورة أن يكون للإنسان عقيدة، وبين الصراع مع مَنْ يخالفون العقيدة ..

لقد أجرت مجلّة التايمز حوارًا مع أحد هؤلاء الذين آمنوا بـ “ما بعد الحداثة” ويُدعَى برايان ماكليرين والذي طبّق مفاهيم ما بعد الحداثة على الإيمان والحياة المسيحيّة، وحينما كان السؤال عن موقفه من المثليّة الجنسيّة كان ردّه “أنا لا أستطيع أن أجيب لأنّ أيّة إجابة ستجرح فردًا ما”!! وفي موضعٍ آخر أجاب: “يمكننا أن نكتشف الأمر بصورة أوضح بعد خمس سنوات”!!

إيمان ما بعد الحداثة هو إيمان لا يُفرّق بين الصواب والخطأ، بل ويرفض كلّ تحديد وتصنيف أخلاقي للصواب والخطأ تاركًا إياه للمجتمع المدني. وهو بمثابة تنصُّل من المسؤوليّة المسيحيّة والشجاعة المسيحيّة في الإعلان عمّا نؤمن به وإن لم يلق استحسان البعض. ولعلّ خطورة الأخلاق المجتمعيّة تكمن في أن المجتمع يُجدِّد قيمه بين الآن والآخر تبعًا لقانون الإنتاج والاستهلاك المُتحكِّم في أيديولوجيّات الشعوب الآن والخاضعة لرغبة الحكومات في تجنيد الأخلاق لصالح الإنتاجيّة؛ فمثلاً الزنا ليس إشكاليّة ولكن الكذب إشكاليّة في تلك المجتمعات، لأنّ الكذب يُهدِّد منظومة الإنتاج. لذا لن تكون هناك ثوابت أخلاقيّة وهو ما يُنبـِئ بسقوط وانهيار تلك المجتمعات عينها.

تلك بعضٌ من الأفكار التي تتحكّم في العقليّة المعاصرة، وهي تتأرجح أو قل تترنــّح ما بين الأخلاق اللاّدينيّة، والحداثة الآمنة في أحضان النظريات العلميّة، والميوعة الفكرية والعقائديّة الناتجة عمّا بعد الحداثة، وهو ما دفع ألبير كامو ليقول: “إنّ العقل الحديث يعاني من تشوُّش، لقد امتدّت المعارف إلى مدى أصبح فيه من الصعب على العالم أو الذهن أن يجد موطئًا لقدم، إنها لحقيقة أننا نعاني من العدميّة!!”

كان مُحصِّلة هذا التشوُّش أنْ ابتعدت العقليّة المعاصرة عن الله لأنـّه غير خاضع للقياس العلمي .. كما توجّست من إقامة عَلاقة معه لئلا تقع أسيرةً لقيود أخلاقيّة تستلزمها تلك العَلاقة .. لذا فإنّ العقليّة المعاصرة يبدو وكأنــّها تائهة في آفاقٍ بلا عودة ..

المشكلة المعاصرة تكمن في الخلط بين الحياة داخليًّا والحياة خارجيًّا .. الخلط بين الإيمان بالأبديّة والعمل في دائرة الزمن .. بين الروح والجسد .. إنها من جديد مشكلة الخلط بين المسيحيّة / العَلاقة والمسيحيّة / الأيديولوجيّة ..

ومن اللاّفت للنظر أنّ المسيح لم يستخدم كلمة “ديانة” مُطلقًا في الأناجيل الأربعة. في المقابل كان مطلبه هو الإيمان به حتى يستطيع البشر أن يخطو أولى خطوات نوال الخلاص؛ « مَنْ يؤمن بي ولو مات فسيحيا ».

هنا ويتساءل البعض: هل جاء المسيح ليؤسِّس دينًا وضعيًّا يُعنَى بالنُظُم الأرضيّة تفصيلاً، وهل جاء المسيح ليضع بعض القواعد الأخلاقيّة التي تحكم العَلاقات؟ هل جاء ليوصِد أبواب المعرفة والانطلاق العلمي لصالح الأبديّة؟ هل كان الإيمان يتعارض مع الثورة العلميّة المعاصرة؟؟

وقال له واحدٌ من الجمع:

يا مُعلِّمُ، قل لأخي أن يقاسمني الميراث

فقال له: يا إنسان، مَنْ أقامني عليكما قاضيًا أو مُقسِّمًا؟

وقال لهم: انظروا وتحفَّظوا من الطَّمع

فإنَّه متى كان لأحدٍ كثيرٌ فليست حياته من أمواله

لو 12: 13 ـ 15

لقد جاء المسيح ليُحرِّر الإنسان من ربقة الفساد الذي يحيله إلى ترابٍ يومًا بعد يوم. والحريّة هي الغذاء لإعادة البعث الباطني (المتولِّد من فطرة الإنسان الجديد) لتلك الأخلاق الظاهريّة (الاجتماعيّة)، تلك التي لا تنبت من أرضٍ ارتوت بالفداء الإلهي.

لذا فإنّ الكتاب المُقدَّس غير معني بحركة العلم صعودًا وهبوطًا .. لا يدينها ولا يُكبِّلها .. فالكلمة الإلهيّة معنيّة فقط بروح الإنسان ونقاوتها.

 

سارافيم البرموسي

من مدونته على الإنترنت

http://towardgod.wordpress.com/category/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D8%A9/

أيضاً على موقع الحوار المتمدن:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=261147