الاعتزال (الخلوة)، في مقابل الجماهير

سورين كيركجارد ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

 

  •  
  •  
  •  
  •  

"في الخلوة نجد المطلق (الله)"

لأن المطلق (الله) لا يظهر للإنسان إلا عندما يعتزل المجتمع.. إنما الحقيقة يدركها المرء في العزلة لطابعها الإلهي. فالحقيقة، وإن كانت ذاتيه، فهي ليست من خلق الإنسان، فلن نجدها أبداً في الحشد من الناس، بل في أعماق ذاتنا عندما تفتح الخلوة أعيننا على وجود المطلق.

 

"إن النوع الإنساني لا يتمايز عن بقية أنواع الجنس الحيواني إلا بقدرته على التفرد، وأنه حين ينصاع إلى معايير النوع يفقد طابعه الإنساني الذي يجعل من كل إنسان فرداً مستقلاً بالنسبة إلى الآخرين وبالنسبة إلى النوع، يتسم بالكفاءة ويستشعر الثقة في إدراكه وخبرته. فإن فشل الذات (الشخص) في تدعيم فرديته، فشل كذلك في أن يكون إنساناً بمعنى الكلمة، وأصبح أشبه بالحيوان الذي لا يتسم إلا بسمات النوع. ومما يحمل على الأسى أن نشهد في مجرى التاريخ الحشد والجماهير تحرص على تماسكها الجماعي والاحتفاظ بمعاييرها، فتبحث عن الحقيقة في الأغلبية والرأي العام، وتزعم أنها الأمينة على القيم الصادقة التي تؤسس على استفتاء الجماهير وأكثرية الأصوات. فيضغط العدد الأكبر على العدد الأقل. وعندما يعلو صوت المعتزل لا يلقي من الحشد إلا الاضطهاد، وحكم الإعدام. ولا يختلف مصيره عن مصير أي معتزل آخر إلا باختلاف وسائل الموت صلباً أو بشراب السم (في إشارة إلى إعدام سقراط) أو بغير ذلك. ولا غرو فإن الحشد يعتبر كل من لا يحذو حذو الأغلبية كمرتكب الكبيرة."

"ألم يكن الشعب هو الذي صلب المسيح؟ ألم يكن الحكم الشعبي هو المسؤول عن إعدام سقراط؟"

تلك هي مهمة الحشد – القضاء على كل ما هو إنساني، وكل ما طبعه الإله بطابعه الذاتي.

"إن أي نظام شعبي (جماهيري) لهو صورة حقيقية للجحيم."

"إذا تعين علي أن أحيا ولم يبق لي إلا ساعة واحدة من الحياة، لبذلتها بكل قواي في كل ما أوقفت حياتي عليه حتى الآن، في محاربة مكمن الشر: الحشد، ذلك الهذر الكافر الذي يسري بين الناس، ذلك الازدراء الدنس للوحدة".

وذاك هو الباب الضيق الذي يؤدي إلى الحقيقة، باب العزلة الذي لا يمر خلاله إلا الأوحد. فالحقيقة ليست في حوزة الحشد ولا لدى الجماهير، بل هي مع الأوحد لأن نداء المطلق لا يسمعه إلا الفرد في عزلته وسكينته. ولذا يقال إن الحقيقة ذخيرة القلة من الناس، لأن القلة وحدهم يستطيعون الصمود أمام التيارات الشديدة التي تتجاذب الحشد وتسوقه كالأغنام في دنيا الجماهير الحافلة بالصخب والضجيج.

 

كيركجارد – اليوميات

ترجمة وتعليق: د. فوزية ميخائيل

في كتاب: "سورين كيركجارد، أبو الوجودية"