اختبار الألم

اختبار الألم
  • اسم المؤلف سي. أس. لويس
  • الناشر زوى
  • التصنيف مشكلات شائعة
  • كود الاستعارة 74 /3

نبذة مختصرة عن الكتاب


 


هذا كتاب خاص جداً، بمعنى أنه قد يكون كتابُ عابرٌ للبعض، ولكنه للبعض الآخر سيكون محطة توقف فارقة فيما يمرون به في حياتهم. إنه أيضاً كتاب خاص جداً لكاتبه نفسه؛ العملاق سي. إس. لويس، الأديب واللاهوتي (الملحد السابق) الإنجليزي الأول في القرن الماضي بلا منازع. فهو في هذا الكتاب، والذي هو دفتر خواطر أكثر منه كتاب، يسجل ما يحدث بدواخله عقب وفاة زوجته بعد صراعها مع السرطان كما لم يسجل ذلك شخص آخر من قبل، حيث يسجل آلامه، بل حتى شكوكه في صلاح الله، بصراحة واستقامة منقطعتا النظير . فزوجته "هيلين" (التي يذكرها في هذا الكتاب بالحرف الأول “H”) كانت فعلاً محبوبته التي تعرف عليها في وقت متأخر في حياته، والتي أثرت وغيرت علاقته بها في حياته أيما تأثير وأيما تغيير، ها هي تغادر الحياة، بأقصى الطرق ألماً، بعد أن صار لويس شخصاً آخر غير المفكر النائي الذي يستمتع بأن يحيا الحياة بمفرده، فكانت هزة عنيفة في شخص لويس أخرجت لنا، أقل ما أخرجت، هذا الكتاب الفريد، والذي يجد فيه كل مسحوق بالألم ما يمكن أن يتوحد معه، لعله يستطيع أن يصل إلى التصالح مع الله الذي وصل إليه لويس لاحقاً. ومن الجدير بالذكر، أن هوليوود أنتجت فيلماً روائياً رائعاً عن هذه الفترة الثرية في حياة سي. إس. لويس يحمل عنوان “Shadow Lands” أي "أرض الظلال"، لعل البعض يرغب في البحث عنه ومشاهدته.


أما عن ما سنفعله هنا مع هذا الكتاب، فهو أننا سنترككم مع كلماته المباشرة والتي لا يوجد أفضل منها لتقديمه.


الدفتر الأول


إن الرجل الحزين مثل كلب يحتاج غطاء إضافي في ليلة باردة، ولكنه يفضل البقاء في مكانه مرتعشاً عن أن يقوم ويحضر واحداً. ولذا فمن السهل أن نفهم لماذا يصبح الشخص الذي يعيش وحده غير منظم، قذر ومقزز.


إن الحياة نفسها أصبحت مختلفة من جميع الجهات. إن غيابها مثل السماء يغطي كل شيء.


.. هناك مكان واحد حيث يصبح غيابها أكثر إيلاماً وتميزاً بالنسبة لي، إنه مكان لا يمكنني تجنبه. هذا المكان هو قلبي. لقد كانت له أهمية أكبر بالنسبة لي عندما كان قلب "حبيب H".. الآن أصبح مثل منزل فارغ.


... كان الجسد يحدنا. لا يمكنك حقاً مشاركة شخص آخر ضعفاته أو خوفه أو ألمه. قد تشعر ببعض السوء من أجله. قد تتصور أنك تشعر بنفس المشاعر السيئة بنفس الدرجة مثله تماماً، علي الرغم من ذلك يجب علي أن أرتاب في زعم أي شخص أن هذه هي حقيقة الوضع. سيظل دائماً هناك حدود. عندما أتحدث عن الخوف هنا، فأنا أعني الخوف الحيواني المجرد... لا يمكن تبادل هذا الشعور. يمكن للعقل أن يتعاطف معه، ولكن تعاطف الجسم يكون أقل. بطريقة ما يمكن لأجسام المحبين أن تتبادل هذه المشاعر علي نطاق ضيق جداً. فكل كلمات الحب التي تبادلوها دربتهم علي أن يمتلكوا مشاعر، إن لم تكن متطابقة، فإنها تكاملية، مترابطة.


لقد كنا نحن الاثنين نعرف هذا جيداً. فأنا كان لي مآسيّ، وليس مآسيها، وهي أيضاً كانت تعاني من مآسيها، وليس مما أعانيه أنا. وبالطبع نهاية مآسيها ستكون بداية معاناتي. لقد انطلقنا في طرق مختلفة. هذه هي الحقيقة المرة، أننا خضعنا لتنظيم مرور قاسٍ ("أنت، يا سيدتي: إلي اليمين، وأنت يا سيدي: إلي اليسار") والذي كان مجرد البداية للفصل بيننا، الذي هو الموت نفسه.


من الصعب أن تظل صبوراً مع الناس الذين يقولون: "لا يوجد موت"، "الموت لا يهم". لا، هناك موت. ومهما كان فإنه يهم. وأيا كان ما يحدث فله عواقبه وهي عادة ما تكون غير قابلة للنقض ولا رجعة فيها.


لكن صوتها لا يزال حياً: ذلك الصوت الذي عندما أتذكره، في أي لحظة، أتحول إلي طفل يئن.


الدفتر الثاني


إنه فقط الخطر حقيقةً هو القادر علي اختبار الإيمان. ويبدو أن سبب الإيمان القوي الذي اعتقدت انه هو الذي يمكنني من أن أصلي من أجل الموتى الآخرين صلوات قوية، هو أنني لم أهتم بهم حقاً. علي الأقل ليس بقدر اهتمامي بـ H. لم أهتم حقاً سواء كانوا موجودين أم لا. لم يكن اهتمامي بهم كما كنت أعتقد.


بعض أصدقائي الطيبون يقولون لي: "إنها مع الله". بمعني آخر، هي، مثل الله، غير مُدركة، وغير مفهومة، ولا يمكن تخيلها.


... و لكن هاتين الدائرتين، وفوق كل نقطة تلامس بينهما، هما الشيء الذي أنا في حداد شديد عليه، هما ما أشعر بالحنين إليه، هما ما أنا جائع له. بالطبع ستقول لي: "أنها موجودة الآن كفكرة". لكن قلبي وجسمي يستغيثان، عودي، ارجعي لي. كوني دائرة، دائرة تلامس دائرتي علي المستوي الطبيعي. ولكني أعرف أن هذا أمر مستحيل. أنا أعرف أن الشيء الذي أنا أريده علي وجه التحديد هو نفس الشيء الذي لا يمكنني أبداً أن أحصل عليه. الحياة القديمة، والنكات، والمشروبات، والمناقشات، وممارسة الجنس، والأماكن الصغيرة المشتركة بيننا التي تحطم قلبي. علي أي حال مهما كان، إن زوجتي قد ماتت وهذا يعني "أن كل هذا قد ذهب بغير رجعة".


ولماذا نفترض أن الانفصال (أو أيا كان اسمه) والذي يعذب الحبيب المتروك، لا يكون له أي تأثير علي الحبيب الذي ينتقل؟


بالطبع "لأنها في يد الله". ولكن إذا كان الأمر كذلك، فهي قد كانت في يد الله في كل وقت مضي، ولقد فعلت هذه الأيدي ما فعلته بها (السرطان)!! هل تصبح "أيدي الله" فجأة ألطف وأرق علينا لحظة خروجنا من الجسد؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا هو كذلك؟ فإذا كان صلاح الله يتعارض مع آلامنا، إذا فإما الله ليس صالحاً أو أنه لا يوجد إله بالمرة: حيث أنه في الحياة الوحيدة التي تعرفنا عليه فيها يؤلمنا أكثر من أسوأ مخاوفنا بل وأكثر من كل ما نستطيع تخيله. إذا كان صلاح الله متوافق مع إيلامنا، فأنه من ثم سوف يؤلمنا بعد الموت بشكل لا يطاق كما كان يفعل من قبل.


أحيانا يكون من الصعب أن نقول، "ليغفر الله لله". أحيانا يكون من الصعب أن نتمادى هكذا. ولكن إذا كان ديننا وإيماننا صحيحين، فهو لم يفعل (لم يغفر له). لقد صلبه!!


عندما نتأمل الواقع سنراه لا يُطاق. وكيف أو لماذا يثمر (أو يتقيح) هذا الواقع هنا أو هناك بهذه الظاهرة الفظيعة المسماة بالوعي؟


عاجلا أم آجلا، لابد لي من مواجهة السؤال بلغة واضحة. ما السبب الذي نملكه، عدا أمانينا الخاصة اليائسة،لكي نؤمن بأن الله بأي معيار يمكن تصوره، "صالح"؟ألا توحي كل الظاهر والمؤشرات البينية بعكس ذلك تماما؟ ما الدليل الذي نملكه كي نؤكد عكس ذلك؟


لقد كان لكلماته (المسيح) الأخيرة معنىًّ واضحاً تماماً. لقد وجد أن الكائن الذي كان يدعوه "أبي – الآب" كان،وبشكل متناهي في الفظاعة، يختلف تماماً عما كان يظنه هو. الفخ، الذي كان يُعَّد منذ أمد بعناية وبمهارة لإغوائه، انقض عليه فجأة، علي الصليب.


ما ينغص عليّ كل صلاة، وكل أمل هي ذكري الصلوات التي قدمناها أنا و H. وجميع الآمال الكاذبة التي حلمنا بها. ليس فقط الآمال المبنية علي تفكيرنا الحالم الخاص، بل الآمال التي شجعها، بل حتى فرضها علينا، كل تشخيصٌ زائفٌ، وكل صورة أشعة سينية مطمئنة، الآمال التي فرضت علينا من قبل مرات التحسن الغريبة، والانتعاشات المؤقتة والتي كنا قد اعتبرناها معجزات. لقد سُحِلنا بطول الطريق. مرة بعد مرة، عندما كان يبدو رحيم جداً بنا، كان في الحقيقة يعد لنا التعذيب المقبل.


أيعقل أن نؤمن بإله سيء؟ أو بأي حال من الأحوال، هل هناك إله بكل هذا السوء؟ السادي الكوني، أو الحاقد المعتوه؟


هذا إنما يمكننا من أن نتصور أن أسوأ مخاوفنا عن الله صحيحة؛ أنه يمتلك جميع الخصائص التي نعتبرها سيئة: اللامنطقيه، الغرور، والحقد، والظلم والقسوة. ولكن كل هذه الخصائص السوداء (كما تبدو لنا) هي في الواقع بيضاء. انه فقط ما لدينا من فساد هو ما يجعلها تبدو سوداء بالنسبة لنا.


لماذا أترك ذهني يجوب في هذه القذارة والهراء؟ هل آمل أن يقل إحساسي بالحزن كلما أنكرته أو كلما شتت فكري بالتفكير بشيء آخر؟ أليست كل هذه الملاحظات، كل هذه الكتابات التي لا معني لها هي ترهات رجل لن يقبل حقيقة أنه لا يوجد شيء يمكننا فعله تجاه المعاناة إلا أن نعانيها؟ رجل لا يزال يعتقد أن هناك بعض الأدوات، إذا تمكن فقط من العثور عليها، فإنها سوف تجعل الألم غير مؤلم.


لن يهم حقا ما إذا كنت تحكم قبضتك علي ذراع كرسي طبيب الأسنان أو ترخيها. فالحفر (والألم) سيستمر!


جسدٌ واحدٌ. أو، إذا كنت تفضل،  سفينة واحدة. وقد ذهب محرك الميمنة. ولابد لي، وأنا المحرك الأيسر، بطريقة أو بأخرى أن أواصل الحركة حتى الميناء. أو بالأحرى، حتى نهاية الرحلة. إن تأتى لي أن أفترض وجود ميناء، أو مأوى هادئ؟ علي الأرجح سيكون هناك، ليلة سوداء، عاصفة تصم الآذان، لصوص، وأي أضواء تظهر من الأرض البعيدة ربما تكون من قبل هؤلاء اللصوص. هكذا كانت يابسة H. مثلما كانت يابسة أمي. وأنا أقصد أن أقول "يابسة" وليس ميناء.


الدفتر الثالث


ليس صحيح أنني دائماً ما أفكر في H.  فالعمل والمحادثات يجعلان ذلك مستحيلاً. لكن في غير هذه الأوقات فأني أكون في أسوأ حالاتي. لأني وقتها أكون قد نسيت سبب حزني من كثرة العمل، وكأن هناك، وبدون سبب واضح، شعور غامض بوجود شيء ما خطأ، شيء ما ليس علي ما يرام، يغلف الحياة كلها. كما في تلك الأحلام حيث لا يحدث شيء فظيع محدد، شيء تستطيع روايته في وقت الإفطار، لكن الجو العام للحلم، يضفي شعور قاتم. فهذا ما يحدث عندما أري احمرار التوت، لا أعرف لماذا يصيبني هذا من دون باقي الأشياء الأخرى، بالإحباط. أسمع صوت عقارب الساعة تدق كما عهدتها دائماً ولكنه قد فقد رونقه. ماذا حدث للعالم وأفضي عليه هذا المظهر السطحي، الرث، البالي؟... ثم أتذكر.


فمن الأشياء التي كنت أخشاها: أن عذاب الوحدة، ولحظات الجنون في منتصف الليل، سوف تختفي وتموت تدريجياً في مجري الطبيعة. ولكن ماذا سيتبعها؟ فقط اللامبالاة، هذه السطحية الميتة؟ هل سيأتي الوقت الذي أكف فيه عن التساؤل حول سبب هذا المظهر السطحي الرث للعالم، لأنني سأكون حينها قد تعودت علي هذه القذارة؟ هل سوف يخمد الحزن في النهاية إلي شعور بالملل المشوب ببعض من الغثيان الباهت.


إذا كان بيتي قد انهار مع أول ريح تهب، فذلك لأنه كان منزلاً من ورق. والإيمان الذي "قد أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار – وحذرني من الاتكال علي السعادة الدنيوية" لم يكن إيماناً بل وهماً. لم يكن اهتمامي بأحزان الناس تعاطفاً حقيقياً. إذا كنت أهتم حقا بأحزان العالم، كما كنت أظن في نفسي، ما كان ينبغي إذا أن تطغي أحزاني الخاصة عليّ لهذه الدرجة، عندما تجيء. لا، لقد كان إيماني وهمي يلعب بمفاهيم "المرض"، "الألم"، "الموت"، و" الوحدة"، التي لم يعانيها هو شخصياً، بل ولم يختبرها. لقد ظننت أنني أثق بالحبل حتى أصبحت أنا من سيتعلق به فعدت للتفكير مرة أخري هل سيتحملني أم لا؟ والآن عندما أصبح الأمر متعلقاً بحياتي أنا، أجد أنني لم أثق به قط.


يخبرني لاعبي القمار أنه يجب رفع الرهان علي اللعبة، "وإلا لن يأخذها الناس علي محمل الجد". ويبدو هذا مشابه للإيمان. فرهانك علي فكرة وجود الله من عدمه، أو هل هو إله صالح أم سادي؟.. لن يكون جاداً ما لم يكن هناك شئ هام لتراهن عليه. ولن تكتشف مدي جدية الأمر إلا إذا تم رفع الرهانات بشكل رهيب، بحيث تجد أنك لم تعد تراهن علي بعض الأموال أو المفاهيم، بل علي كل ما تملكه في العالم. لا شيء أقل من هذا ينفض الرجل – أو علي أي حال ينفض رجل مثلي – خارج تفكيره اللفظي المجرد ومعتقداته النظرية البحتة. شخص مثل هذا يجب أن يُضرب بشدة لكي يعود إلي رشده. والتعذيب فقط هو القادر علي إخراج الحقيقة منه. بل أنه لن يكتشف ذاته علي حقيقتها إلا تحت وطأة التعذيب.


بالتأكيد يجب أن أعترف بهذا... : أنه إذا كان بيتي بيتٌ من ورق، فكلما تم هدمه أسرع كلما كان ذلك أفضل. وأن لا شيء يستطيع أن يفعل ذلك عدا الألم وحده. ولكن بهذا أصبحت فرضية الإله السادي الذي يستمتع بتعذيب البشر غير ضرورية.


في الواقع يبدو هذا صحيح ويبدو أني ما سأسميه – إذا حدث – "استعادة للإيمان" ما هو إلا منزل آخر من ورق... ولكن هناك سؤالان الآن هنا. لماذا هو منزل من ورق؟ هل لأن عقيدتي كانت وهم ولا أساس لها من الصحة، أو لأني أنا من كان واهماً أني أؤمن بها؟


إذا كانت عقيدتي وهمية، فلماذا ينبغي للأفكار التي أؤمن بها الآن أن تكون أكثر صحة من تلك التي كنت أؤمن بها فيما سبق؟ بالتأكيد أنا الآن، بصفة عامة، أكثر تعقلاً من ذاك الرجل الذي كنته في ذلك الحين. ولكن لا يجب أن أبني إيماني علي التصورات اليائسة لرجل في حالة ذهول، رجل قال عن نفسه انه يشعر كما لو كان ثملاً؟


هل أثق بها (الأفكار) لأنه لا يوجد بها تفكير متفاءل؟ ألأنها شديدة الرهبة، فلذا من المرجح أن تكون صحيحة؟ ولكن هناك تفكيرٌ خائفٌ حالم كما يوجد تفكير متفاءل حالم أيضاً. والدليل أنها قد تكون أفكار حالمة ظهرت في عقلي فقط لتريحني هو إنها ليست بلا طعم علي الإطلاق، بل إني، بطريقة ما، تلذذت بها. بل إني أدرك ممانعة طفيفة داخلي لقبول أفكاراً أخري مخالفة لها.


إن كل هذه الأشياء التي قلتها حول الإله السادي ليست بأفكار بقدر ما هي تعبير عن الكراهية. كنت أحصل منها علي المتعة الوحيدة التي يمكن لرجل في كرب أن يحصل عليها: متعة رد الضربة. إلا أنها في الحقيقة مجرد إساءة استخدام للغة: "أن أقول لله رأيي به". وبطبيعة الحال، كما هو الحال في كل لغة بذيئة عندما أقول لشخص "أنا أعتقد أنك كذا وكذا" فهذا الذي أقوله لا يعني علي الإطلاق أنه هو اعتقادي الحقيقي. لقد كنت أقول فقط ما اعتقدت أنه سيسيء إليه بالأكثر – أو إلي المؤمنين به. وهذا النوع من الكلام لا يمكن قوله دون بعض المتعة، "متعة أن تزيل الحِمل من علي صدرك". وتشعر أنك بحال أفضل للحظة.


.. كانت H شيء رائع، روح صافية، مشرقة، حادة مثل السيف. لكنها لم تكن قديسة كاملة. بل امرأة خاطئة متزوجة من رجل خاطئ، اثنان من مرضي الله، لم يتم علاجهم بعد.


الشيء الفظيع هو أنه في اعتقادنا بأننا مرضي: لن يفرق عندها الإله كلي الصلاح في تعامله عن الإله السادي الشرير. فكلما اعتقدنا أن الله يضر فقط للشفاء، فكلما قل اعتقادنا بأن هناك أي فائدة في ترجي اللطف منه... ولكن لو افترضنا أننا أمام جراح نواياه جيدة تماماً، فكلما ازداد لطفاً وصلاحاً، كلما ازداد في التقطيع والعلاج. بل أنه إذا سمع لترجياتك، وتوقف قبل أن يكمل العملية الجراحية، فستكون كل الآلام التي مررت بها حتى الآن عديمة الفائدة تماماً... إذا قلت أن الآلام ليست ضرورية، فلا يوجد إله إذا أو أنه يوجد إله شرير. أما إذا كان هناك إله صالح، فهذه الآلام حتمية إذا. فلا يمكن ولا حتى لكائن متوسط الصلاح أن يسبب أو يسمح بكل هذا التعذيب إن لم يكن لابد منه.


هذه هي الحقيقة، وأعتقد أنني أستطيع أن أفهم معني هذا، فأنت لا تري جيداً عندما تكون عيونك مليئة بالدموع. لا يمكنك، في معظم الأوقات أن تحصل علي ما تريد إذا كنت تطلبه بيأس. و حتى إن حصلت عليه فلن تستخدمه الاستخدام الأمثل.


وربما، المثل يحدث مع الله. لقد بدأت أشعر بالتدريج أن الباب لم يعد مغلقاً في وجهي. هل كانت حاجتي المحمومة هي التي أغلقته في وجهي؟... فربما يمنعك صوت صراخك من أن تسمع ما تأمل أن تسمعه. من جهة أخري، "أقرعوا يفتح لكم". ولكن القرع لا يعني الضرب والركل ودق الباب كالمجنون! ... ربما تدمر مشاعرك الشغوفة قدرتك علي التلقي ولو مؤقتاً.


.. لا يحافظ الحزن الشديد علي صلتنا مع الموتى بل يمزعها. هذا يصبح أكثر وضوحاً مع الوقت. ففقط في تلك اللحظات عندما أشعر بالحزن أقل ما يمكن، فعلي سبيل المثال أثناء الحصول علي حمام الصباح، تندفع H إلي مخيلتي بالواقع الكامل لها، بكل استقلالها.... فكلما قل حدادي كلما أصبحت اقرب إليها.


خطة رائعة، ولكن الحظ لا يمكن الاضطلاع بها. فقد اندلعت هذه الليلة كل نيران الحزن غير الناضج مرة أخري، الكلام المجنون، الاستياء المرير، رفرفة المعدة، الكوابيس اللاواقعية، والتمرغ في البكاء. لأنه في الحزن لا شيء "يبقي علي ما هو عليه". فالشخص يخرج بالفعل من المرحلة، لكنها دائماً ما تتكرر مرة أخري. جولة وراء جولة. كل شيء يعيد نفسه. هل أدور في حلقة مفرغة، أو، كما آمل، أسبح في دوامة؟


ولكن إذا كانت دوامة، فهل أنا ذاهب إلي أعلي أو إلي أسفل؟


الأمر كشخص تعرضت ساقه للبتر... ولكن التعافي بعد قطع ساقه لهو شيء مختلف تماماً، فمع الوقت سوف تعود قوته إليه ويستطيع المشي مرة أخري علي ساقه الخشبية الجديدة. يمكننا حينها أن نقول أنه قد "تعافي". ولكن ربما سيمر بآلام متكررة في جزعه طوال حياته. و ربما ستكون آلام سيئة جداً، علاوة علي أنه سوف يكون دائماً ذو ساق واحدة. ويكاد لا يمر بلحظة واحدة ينسي فيها هذا الأمر. أثناء الاستحمام وارتداء الملابس، والجلوس، والنوم، وسوف يكون كل شيء مختلف عما سبق. ستتغير طريقة حياته كلها. وسوف يُحرم من جميع أنواع الملذات والأنشطة التي كانت ممنوحة له ببساطة من قبل. واجباته أيضا سوف تتغير. حالياً، فأنا مازلت أتعلم السير علي رجل واحدة وعكاز. ربما سأحصل مع الوقت علي الساق الخشبية، إلا أنني لن أمشي علي قدمين اثنتين مرة أخري أبداً.


كم سيستمر هذا الوضع؟ إلي متى ستصدمني الدهشة الفارغة فأقول: "حقاً، لم أكن أدرك من قبل قدر خسارتي!" يتم قطع الساق نفسه مرة بعد مرة. وأشعر باختراق نفس السكين لجسدي مراراً وتكراراً. يقولون أن "الجبان يموت عدة مرات" والحبيب كذلك أيضاً.


الدفتر الرابع


تبين لي أن الحزن ليس حالة ولكنه عملية. وأنه ليس بحاجة لشرح بل لتأريخ... فالحزن إن شبهناه بوادي حلزوني، فكل منعطف إذاً قد يكشف عن مشهد جديد تماماً لم تكن تراه من قبل.


هل تعرفي، حبيبتي، كم أخذتي معك عندما رحلت؟ لقد جردتني حتى من ماضيّ، بل حتى من الأشياء التي لم نتشاركها معاً.


لكن في النهاية كان هناك مكسبين كبيرين – ولن أدعوهما "مكاسب دائمة"، فأنا الآن أعرف نفسي بشكل أفضل، وعندما ألتفت إلي الله، لم أعد أري الباب المغلق. وإذا تحولت إلي H فليس هناك هذا الفراغ الذي طالما وجدته، ولا كل هذا التشويش حول صورتها في مخيلتي. شخبطاتي هذه تظهر شيئاً من عملية التغيير ولكن ليس بقدر ما كنت آمل. ربما كان من الصعب بالفعل ملاحظة هذه التغيرات. حيث أنه لم يكن هناك انتقال عاطفي مفاجئ وقوي. لا، بل كان التغيير مثل تدفئة الغرفة أو ظهور ضوء النهار، عندما تلاحظه لأول وهلة، تجد أنه بالفعل كان يحدث منذ وقت!


وماذا أيضاً تُرِكَ لي؟



  • خمس حواس وفكر تجريدي غير قابل للشفاء، ذاكرة انتقائية جزافية، ومجموعة من المفاهيم والافتراضات التي لكثرتها لا أظن أني سأتمكن أبداً من فحص إلا أقلية منهم، بل أني حتى لا أعيهم كلهم.

  • صورتي عن الله، وهي ليست صورة كاملة. ولذا فهو يحطمها بنفسه مرة بعد مرة. فهو الثائر العظيم. بل أننا قد نقول أن هذا التحطيم لهو من علامات وجوده الحقيقية.

  • ليس فكرتي عن الله، ولكن الله نفسه. ليس فكرتي عن H ولكن H نفسها (ما كانته فعلاً)، وأيضاً ليس فكرتي عن قريبي ولكن قريبي نفسه. نعم، فنحن غالباً ما نرتكب مثل هذه الأخطاء نحو الناس الذين نتعامل معهم يومياً، الذين مازالوا علي قيد الحياة، بل الذين هم معنا في نفس الغرفة! فنحن نتكلم ونتعامل ليس مع الشخص نفسه ولكن مع صورته التي احتفظنا بها عنه في مخيلتنا. وعليه أن يختلف عنها جداً، قبل أن نتمكن من رؤية حقيقته. هذا ما يفرق الحياة الحقيقية عن الروايات، فكلمات وأفعال الشخص، إذا كنا نلاحظها عن كثب، تكاد تختلف تماماً عن ما كنا نعتبره "شخصيته". هناك دائماً بطاقة في يده لم نكن نعرف عنها أبداً.


ربما ما أفعله الآن هو أني، طوال هذا الوقت، أبني مرة أخري بيتاً بالورق. وإذا كنت فعلاً أفعل ذلك فلسوف يهدم ما أبنيه مرة أخري. ولسوف يهدمه (الله) ويهدمه كلما لزم الأمر. حتي أكف عن ذلك، أو أن أصبح ميئوساً مني، وأُترك لأبني قصوراً من ورق في الجحيم إلي الأبد.


هل أعود في كل مرة لله، لأنني أعرف أنه إذا كان ثمة أي طريق لـ H فإنه لن يكون إلا من خلاله؟ ولكني أعرف جيداً أنه (الله) لا يمكن أن يُستخدم كطريق. فإذا كنت لا تقترب منه هو كهدف ولكن كطريق، إن كنت تقترب منه لا كغاية بل كوسيلة، فأنت إذاً لا تقترب منه علي الإطلاق.


يا رب، أهذه هي شروطك الحقيقية؟ ألا أستطيع لقاء H مرة أخري إلا إذا تعلمت أن أحبك كثيراً لدرجة ألا أهتم ما إذا كنت سألتقي بها أم لا؟ يا رب سأقول لك كيف أري الأمر؟ ماذا سيكون رأي أي إنسان بي إذا قلت للأولاد، "لا حلوي الآن، ولكن عندما تكبرون ولا تعودوا تريدونها حقاً فسوف تحصلون علي قدر ما تشاءون منها!


عندما أضع هذه الأسئلة أمام الله لا يجيبني إلا الصمت. ولكن نوع خاص من "الصمت". لا، ليس الباب المقفل. بل أشبه بصمت، ونظرات لا تخلو من التعاطف. كما لو أنه يهز رأسه، ليس في رفض، ولكن ملوحاً بالسؤال، كما لو كان بقول: "اهدأ يا طفلي، أنت لا تفهم."


أحياناً يا رب، يتجرأ المرء علي أن يقول أنك إذا كنت تريد منا أن نتصرف مثل زنابق الحقل لكنت أعطيتنا نظام أشبه بها. لكن هذا، كما أعتقد، هو عمق تجربتك الكبرى. لا ليس تجربة، لأنك لا تحتاج أن تجرَّب كي تعرف. لنقل مغامرتك الكبرى. أن تخلق كائن حي يكون أيضاً روح: أن تخلق هذا الوحش الرهيب، "الحيوان الروحي". أن تأخذ أحد الأوليات الدنيا، وحشاً يغطي جسمه نهايات عصبية، مخلوق ذو معدة تشتهي الملء، حيوان متناسل يبحث عن رفيقه، وتقول له: "والآن تعامل مع الأمر. كن إلهاً"!!