هذه الامتحانات الداخلية

ج. أ. باكر ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

إن كلمة الله مليئة من الحق الذي يشفي النفوس، كمخزن الصيدلي المكدس بأنواع الأدوية التي تعالج الأمراض الجسدية وأوجاعها. لكن في كلا الحالين الاستعمال الخاطئ للعلاج الشافي، يؤدى إلى نتائج وخيمة. فلو شرب المرء اليود عوضاً عن التدهن به، لكانت النتيجة عكس الشفاء! وعقائد الولادة الجديدة والحياة الجديدة يمكن تطبيقهما بطريقة خاطئة فتأتي النتائج بعكس المرغوب. هذا يحصل على ما يبدو في موضوع بحثنا، كما سنرى.
فقد يُعطَي الانطباع أن حياة الإيمان العادية هي عبارة عن سرير مفروش بالورد، وحالة من الحالات التي نرى فيها كل الأشياء في الحديقة جميلة ومبهجة كل الوقت وتتبدد دون أية مشاكل، - وهب أنّ المشاكل أتت، فإنها ببساطة تـُحمل إلى عرش النعمة حيث تتلاشى بكل سهولة. الأمر الذي يوحي بأن العالم، والجسد، والشيطان لا يواجه الإنسان بأية مشاكل بعد أن يصير مؤمناً، ولا تشكل ظروفه وعلاقاته الشخصية أية متاعب أو اضطرابات، ولن يكون مصدر تعب واضطراب لنفسه. على أن مثل هذه الإيحاءات تـُعتبر مؤذية وضارة لأنها مزيفة وكاذبة.
طبعاً، يمكنك أيضاً، أن تذهب في تطرفك للجهة المقابلة. وتشدد على الجانب القاسي لحياة الإيمان وتقلل من قيمة الجانب المشرق بحيث يُعطي الانطباع أن حياة الإيمان هي في معظمها تعيسة وكئيبة.
لكن يجب أن يقال إنه من بين هذين الحدين المتطرفين من الخطأ، فالخطأ الأول هو الأسوأ، تماماً إلي الحد الذي فيه تـُعتبر الآمال الكاذبة شراً أكبر من المخاوف الكاذبة. من مراحم الرب أنُّ الخطأ الثاني، يؤدي فقط إلى المفاجأة السعيدة التي تكشف أن المؤمنين لديهم أفراح كما لديهم أحزان. إنما الأول، الذي يصور حياة الإيمان العادية على أنها خالية من الضيق، من شأنه أن يوصل إلى الاكتشاف المر، عاجلاً أم آجلاً، بأن ذلك كله كان أوهاما خادعة.
ينحصر تأكيدنا الآن في أنّ نوع الخدمة الجاري بحثها، حتى تتجاوب بقوة مع الرغبات البشرية، يسمح لنفسه عند هذه النقطة بأن يعد أكثر مما التزم الله بإتمامه في هذا العالم. هذا، حسب اعتقادنا، يُشكل الملمح الأول الذي يُكسب الخدمة طابع القساوة. إنها تشتري النتائج بآمال كاذبة. بالتأكيد، القساوة ليست قساوة خبث. إنها بالأحرى نابعة من لطف غير مسؤول. فالواعظ يبتغي ربح سامعيه للمسيح. لذا فهو يعرض جمال حياة الإيمان ويقدمها وكأنها كلها فرح ومسرات وخالية من كل هم وغم. لكنّ غياب الدافع السيئ، وحضور الدافع الجيد، لا يخفف على الإطلاق من الضرر الذي تحدثه مبالغاته.
على هذا الأساس يتجدد البعض، وعلى هذا الأساس يختبرون الولادة الجديدة، ويتقدمون في حياتهم الجديدة بابتهاج وسرور متأكدين أن كافة منغّصات حياتهم قد فارقتهم مرة وإلى الأبد. يتضح لهم عندئذ أن الحقيقة ليست هكذا. والمشاكل القديمة النابعة من المزاج السيئ والحساسية المفرطة، والعلاقات الشخصية، والحاجات المكبوتة والتجار ب المزعجة لا تزال هناك، هذا إن لم تتكاثر. فالله لا يجعل حياتهم وظروفهم أفضل وأهون بصورة ملحوظة، بل يحصل العكس. والشكوى والاستياء من الزوجة أو الزوج، أو الوالدين، أو الأصهار، أو الأبناء، أو الزملاء، تدرّ قرنها من جديد. والتجارب السيئة التي وكأنّ اختبار تجديدهم قد قضى عليها نهائياً تظهر ثانية. وإذ غمرتهم أمواج الفرح العظيم خلال الأسابيع الأولى من تجديدهم، شعروا بالحقيقة أن جميع معضلاتهم حلت نفسها بنفسها، ولكنهم الآن يرون بأن الواقع ليس هكذا، وأنّ الحياة التي وُعِدوا بها والخالية من المتاعب لم تتحقق. والأمور التي أثقلتهم وأرهقتهم قبل الإيمان تهددهم بالغرق ثانية. فما العمل، وكيف تفسر هذه الأمور الآن؟
الحقيقة هنا هي أن الله الذي قيل عنه إنه" كراع يرعى قطيعه، بذراعه يجمع الحملان، وفي حضنه يحملها ويقود المرضعات" (إشعياء 11:40)، هو كثير اللطف نحو المؤمنين الحديثي الإيمان، تماماُ كما هو حال الأمهات نحو أطفالهن. فغالباً ما تكون حياة الإيمان لديهم في بدايتها متميزة بفرح عاطفي غامر، وأعمال عناية خارقة، واستجابات رائعة للصلوات، وثمر فوري لشهادتهم الأولى.
وهكذا يشجعهم الله ويثبتهم في الحياة الجديدة. لكن مع نموهم في الإيمان، وازدياد قدرتهم على التحمل، فإن الله يدربهم في مدرسة أكثر خشونة ووعورة. أنه يعرضهم للامتحان بواسطة ضغط المؤثرات المضادة والمثبطة بقدر ما يستطيعون أن يحتملوا- ليس أكثر(انظر التحذير في الوعد في 1 كورنثوس 13:10) وبنفس الوقت ليس أقل (انظر التحذير في أعمال 22:14). وهكذا يبني الله خلقنا ويقوي إيماننا ويمدّنا لمساعدة الغير. وهكذا يجسم الله إحساسنا بالقيم، وبالتالي يمجد نفسه في حياتنا جاعلاً قوته تكمل في ضعفنا. لذا ليس هناك ما هو غير طبيعي في التجارب والحروب والضغوط التي يتعرض لها المؤمن على طريق علاقته مع الله، وفي حال لم تقع مثل هذه التجارب والحروب والضغوط فهو أمر غير طبيعي. إنما المؤمن الذي قيل له إنّ حياة الإيمان خالية من المتاعب، ونوع منها يتراكم فوق رأسه، فإنه سيصل حتماً إلى الاستنتاج بأنه هو غير طبيعي. فالأمور لم تعد تسير على ما يرام، وكيف يمكن جعلها تفعل ذلك ثانية؟
ومن البديهي أنّه إن فتر المؤمن في علاقته مع الله، وانزلق ثانية في طرق الخطية المتعمّدة، فإن فرح قلبه وسلامه يقلان من جهة كما يكّدره انزعاج روحه بازدياد مطرد (هذا أمر يختلف عن موضوع البحث هنا).
ما هو الخطأ من حيث الأساس، بهذا التعليم؟ إنه مفتوح للنقد من زوايا عدة. ويًخفق في استيعاب تعليم العهد الجديد بخصوص التقديس والحرب الروحية. كذلك لا يفهم معنى النمو في النعمة. ولا عمليات الخطية الساكنة. إذ يخلط بين حياة الإيمان على الأرض وحياة الإيمان كما ستكون في السماء. ويخطئ فهم سيكولوجيا طاعة الإيمان (النشاط المدفوع بالروح القدس، ليس الهمود المدفوع بالروح القدس). لكن الاعتراض الأساسي يجب أن يتركز على كونه يفقد رؤية أسلوب وقصد النعمة. لنحاول التوسع في شرح ذلك.
ما هو قصد النعمة؟ قصدها بالدرجة الأولى، استعادة علاقة الإنسان مع الله. عندما يضع الله أساس هذه العلاقة المستعادة، بالصفح عن خطايانا باتكالنا على ابنه، إنما يفعل ذلك حتى، من الآن وصاعداً، نعيش في شركة معه، وما يفعله في تجديد طبيعتنا، يقصد من خلاله أن يمكننا بل بالحري يقودنا إلى ممارسة المحبة والاتكال والابتهاج والرجاء والطاعة نحوه - تلك هي الأفعال التي من جهتنا شكلت حقيقة الشركة مع الله، الذي يظهر ذاته لنا باستمرار. هذا ما يهدف إليه كل عمل النعمة – معرفة أعمق بالله، وشركة أوثق معه. النعمة تمثل الله وهو يقربنا إليه نحن الخطاة، اكثر فأكثر.
كيف يتابع الله بنعمته هذا القصد؟ ليس بوقايتنا من هجمات العالم والجسد والشيطان، ولا بحمايتنا من الظروف المرهقة المحبطة، ولا حتى بوقايتنا من الضيقات الناشئة عن حساسيتنا البالغة وسيكولوجيات الذات، بل بالحري بتعريضنا لهذه جميعها، بحيث يغمرنا بالشعور بعدم كفايتنا الذاتية، ويدفعنا للالتصاق به بأكثر قوة. هذا هو السبب النهائي، من وجهة نظرنا، الذي يجعل الله عن طريق ملء حياتنا بالضيقات والارتباكات مهما كان نوعها – يضمن تعلقنا وتمسكنا به. إن السبب الذي يجعل الكتاب المقدس يردد باستمرار حقيقة أن الله صخرة وحصن وملجأ وعون، هو أن الله يبذل جهداً مكثفاً ليقنعنا بضعفنا، عقلياً وأدبياً، وليس لنا أن نثق بأنفسنا من أجل أن نجد أو نتبع الطريق الصحيح. عندما نسير في طريق خال من العقبات والعثرات ونشغر بالسعادة والأمان ويأتي شخص ما ويأخذنا من يدنا اليمنى ليعيننا، فإننا على الأرجح نرفض عرضه ونـُبعد يده عنا. ولكن عندما نسير في درب وعر في الظلام وتهب علينا عاصفة ونستنفد كل قوانا ويأتي أحدهم ليعيننا، فإننا بكل شكر نتوكأ عليه. لذا فإن الله يتجه نحو تخليصنا من ثقتنا بأنفسنا لكي نتكل عليه – أي "انتظار الله" بالتعبير الكتابي الكلاسيكي في كلامه عن سر قوة حياة رجل الله.
هذه الحقيقة لها تطبيقات عديدة. منها وهي مثيرة للدهشة أنّ الله في الواقع يستغل خطايانا وأخطاءنا لهذه الغاية. إنه يستخدم التدريب التثقيفي للاخفاقات والأخطاء مرات ومرات. ومن الملفت أن نرى كيف يتناول الكتاب رجال الله وهم يرتكبون الأخطاء، والله يؤدبهم بسببها. فهوذا إبراهيم يُوعد بولد، وكيف يُخضع لانتظاره، فيفقد صبره ويرتكب خطأ لِعب دور صاحب التدبير الهاوي، وينُجب إسماعيل – ويُخضع للانتظار لمدة ثلاث عشرة سنة أخرى قبل أن يتكلم الله معه ثانية(تكوين 16 :16 – 1:17). وموسى يرتكب خطأ محاولة إنقاذ شعبه بمظاهر تأكيد الذات، والرمي بثقله في الموضوع، وقتل الرجل المصري والإصرار على حل المشاكل الخاصة بين الإسرائيليين بالنيابة عنهم - ويجد نفسه مُبعداً لعدة عقود من السنين إلى ما وراء الصحراء، لينشأ عنده فكر أقل خيالاً وزهواً وغروراً. وداود يرتكب سلسلة من الأخطاء - إغواء بتشبع وتدبير مقتل أوريّا وإهمال عائلته، وإحصاء الشعب من باب الاعتزاز بالنفس - في كل حالة يتعرض للتأديب الكلي القسوة والمرارة. ويونان يرتكب خطأ الهروب من وجه الرب - فيجد نفسه في بطن حوت. وهكذا دواليك. لكن النقطة التي نحن بصددها هي أن الخطأ البشري، والاغتياظ الإلهي الفوري، لم يكونا البتة نهاية القصة. فإبراهيم تعلّم أن ينتظر موعد الله. موسى شُفي من ثقته الذاتية (بالحقيقة كاد عدم ثقته بنفسه أن يصير خطية بحد ذاته في ما بعد، انظر خروج 14:4).
وجد دواود التوبة بعد كل من زلاته وكان أقرب إلى الله في نهاية حياته منه في بدايتها. ويونان صلى من بطن الحوت، وعاش حتى أكمل إرساليته إلى نينوى.
يستطيع الله أن يخرج الصالح والخير من أسوأ حماقاتنا وجهالاتنا. والله يقدر أن يستعيد السنين التي أكلها الجراد. يقولون إنّ الذين لم يرتكبوا الأخطاء أبداً لم يعملوا شيئاً البتة. بالتأكيد، هؤلاء الرجال ارتكبوا الأخطاء، لكن علّمهم الله من خلالها أن يعرفوا نعمته، ويلتصقوا به بطريقة ما كانت لتحصل لولا ذلك.
هل ضيقتك نابعة من إحساس بالإخفاق والفشل؟ من معرفة أنك قد ارتكبت خطأ فادحاً؟ عد إلى الله. إن نعمته الرادّة بانتظارك.
اللاواقعية في التدّين هي شيء ملعون. وهي لعنة ذلك النوع من التعليم الذي قد تحديناه في هذا البحث. اللاواقعية نحو الله هي المرض المهلك لكثير من المفاهيم المسيحية الحديثة. إننا نحتاج أن يجعلنا الله واقعيين بشأن نفوسنا وبشأنه. لعله توجد لنا كلمة في الترنيمة الشهيرة التي بها يصف جون نيوتن الشاهد بنوع الواقعية التي كنا نسعى إلى إجلائها.

سألت الرب أن أنمو
بالإيمان والمحبة وكل نعمة،
وان أعرف عن خلاصه الأكثر،
وأن أطلب وجهه بأكثر جدية.
رجوت أنه في ساعة مباركة
يجيب طلبي ويمنحني سؤلي،
ويًخضع بقوة حبه الآسر
كل خطاياي، وانعم براحته.
بدلاً من ذلك جعلني أشعر
بالشرور المستترة في قلبي،
وترك قوى الجحيم الغاضبة
تهاجم قلبي في كل أجزائه.
بل أكثر، وكأنه بيده هو
ينوي أن يزيد كربتي،
فقد ضرب كل التصاميم الحلوة التي وضعتها.
وفجّر يقطيناتي ووضعني حتى التراب.
" يارب لم هذا؟ "صرخت مرتجفاً
"هل تسحق دودتك حتى الموت"
أجاب الرب: "بهذه الطريقة
استجيب الصلاة من أجل النعمة والإيمان".
هذه الامتحانات الداخلية استخدمُها
لاحررك من الذات والكبرياء؛
واحطمُ مشاريع مسراتك الأرضية،
حتى تطلب الكل فيّ.

من كتاب "معرفة الله"
ج. أ. باكر
ص 255 –264