الإنسان العربي والتحدي الحضاري للتطور - علاقاتنا بأطفالنا، وبالمرأة، وبأنفسنا

د. هشام شرابي ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢

ماذا نقصد بالتحدي الحضاري؟

هناك أسلوبان للإجابة عن هذا السؤال.

الأسلوب الأول ينطلق من التعميمات الواسعة ويتناول مشكلة التحدي الحضاري من زاوية الفكر الخطابي المجرد لينتهي إلى الوعظ والتبشير. وهذا هو الأسلوب الأسهل وربما الأكثر متعة للكاتب والقارئ في آنٍ واحد.

أما الأسلوب الآخر فينطلق من قاعدة الواقع الاجتماعي ويتناول القضايا المطروحة من زاوية التحليل العلمي ليتوصل إلى فهم رصين يشكل بداية العمل في صلب الواقع من أجل تغييره وتجاوزه.

وفي هذه الدراسة سأتبع الأسلوب الثاني، وهو الأسلوب الأصعب لا لأنه الأكثر تعقيداً بل لأنه يثير قضايا حساسة ويتطلب التسليم بالحقيقة الجارحة والمؤلمة أحياناً.

يتألف الإطار الذي سأعتمده في تحليليل من ثلاث علاقات تشكل في نظري القاعدة الأساسية التي يقوم عليها مجتمعنا، وعلى تغييرها يتوقف كل تغيير حقيقي فيه. وهذه العلاقات هي:

1- علاقاتنا بأطفالنا

2- علاقتنا بالمرأة

3- علاقتنا ببعضنا البعض

وسوف أتناول كلا من هذه العلاقات على حدة، وأشرح المفاهيم المرتبطة بكل منها وأحدد دورها في التركيب الاجتماعي العام وارتباطها بالعلاقات الاجتماعية الأخرى، ثم إلى تحديد معنى التحدي الحضاري ومتطلبات مجابهته والتغلب عليه.

 

علاقاتنا

بأطفالنا

إن أول ما يجب الإشارة إليه في شرح هذه العلاقة هو أن التجارب التي يحياها الطفل خلال السنوات الخمس أو الست الأولى من حياته تقرر تركيب شخصيته مدى الحياة. ولهذا فإن عملية تربية الطفل وتثقيفه خلال هذه السنوات أمر حاسم بالنسبة إلى الفرد وتغرسها في شخصيته أثناء تكونه النفسي في السنوات الأولى من حياته.

والسؤال المطروح هنا هو التالي:

ما هي السمات الرئيسية للشخصية الاجتماعية التي يتم غرسها في الفرد وهو طفل في المجتمع العربي؟ أو بكلمة أخرى، ما هي القيم والأهداف التي ينقلها المجتمع إلى الفرد بواسطة التربية العائلية؟

في دراسة قمنا بها منذ حوالي سنتين حول علاقة التربية العائلية وسلوك الفرد الاجتماعي في المجتمع العربي المعاصر توصلنا إلى هذه النتيجة: أن الصفات المميزة لسلوك الفرد في مجتمعنا يمكن حصرها بثلاث صفات أساسية هي: الشعور بالعجز، التهرب، الاعتماد على الغير، أو بتعبير آخر، إن الشخصية التي يهدف إليها المجتمع وينتجها بواسطة العائلة هي شخصية تتميز برضوخها للسيطرة وبتهربها من المسؤولية وبإتكاليتها. إن هذه الشخصية ترتبط في ولائها بالعائلة وبالعشيرة والطائفة وهي في سلوكها العام تسلم للقوى الفاعلة في المجتمع وتثبت العلاقات القائمة فيه.

لنأخذ مثالاً على علاقة التربية بتكوين الشخصية وبالمجتمع الذي يغرس قيمه في هذه الشخصية.

الحادثتان اللتان شاهدناهما في دمشق وفي بوسطن تعبران أحسن تعبير عن طبيعة هذه التربية ونتائجها في تكوين الشخصية والسلوك الاجتماعي المنبثق عنها وقد ذكرناهما سابقاً ونكررهما هنا: فؤاد وله من العمر ست سنوات كان يلعب في الشارع أمام منزله. وإذا به يدق باب بيته مولولاً وقائلاً لإمه أن ولداً آخر ضربه وأخذ منه كرته فكيف كان تصرف الأم أمام هذا الوضع؟ أظهرت غضبها على الولد السارق وشفقتها على إبنها الباكي الذي احتضنته وأخذت تواسيه وتطمئنه وتقول له: "انتظر حتى يجي أبوك، وشوف شو رح يعمل بهذا الولد الشيطان. هو رح يضربلك إياه ورح يرجعلك الطابة، ما تخاف".

هذه الحادثة شبيهة بحادثة أخرى جرت في بوسطن وهي أن جوني، وعمره سبع سنوات، رجع إلى البيت بعد شجار مع صبي يكبره بأربع سنوات وقد أخذ منه كرة البيسبول التي كان أبوه قد اشتراها له. ولما أخبر أمه عما جرى، ماذا قالت له؟ "أنصحك أن تعود إلى الملعب وتسترد الكرة منه. وإلا غضب أبوك كثيراً".

إن تصرف الأم العربية واضح في مرماه، فهي تقول لإبنها: إنني أريدك عاجزاً عن مجابهة مشكلاتك وحدك، إنني أريدك أن تعتمد علي وعلى والدك وعلى عمك وعلى أهلك (أي على الغير) وأريدك أن تبقى إبني الصغير وأن تشعر أن البيت ملجؤك الأول والأخير وأن والدك سندك وحاميك مدى الحياة.

 

إخضاع الفرد

وكسر شوكته

أما تصرف الأم الأمريكية فواضح أيضاً. إنها بتصرفها تقول لإبنها: عليك يا إبني الاعتماد على نفسك لا أستطيع أنا ولا يستطيع والدك أن نحل لك مشكلاتك، إذا أردت أن تنجح في هذه الحياة عليك ان تكون قوياً وأن تقاتل من يقف في طريقك وإلا داسك الناس بأرجلهم.

أسارع إلى القول إنني، بهذه المقارنة، لا أقصد تفضيل تربية الأم الأمريكية على تربية الأم العربية، كما ظن بعض القراء عندما نشر دراستي "ملحق النهار" حول سلوكنا الاجتماعي وأوردت فيها هذه المقارنة.

الواقع أن الأم، في كلتا الحالتين، تعبر عن القيم والأهداف التي تتحكم بالمجتمع الذي تعيش فيه.فالأم الأميركية بتصرفها وتربيتها تعد طفلها لمجابهة التحديات التي يفرضها مجتمع صناعي يقوم على المنافسة والتناحر وتأكيد الذات.

إن الشخص الذي يعتمد على الآخرين والذي يهاب الأب ويحتمي بالأم، ويحافظ على الولاء العائلي قد يكون في سلوكه ومعشره أقرب إلى النفس وأدعى للثقة والمحبة من الشخص الذي نشأ على الاعتماد الذاتي والتشكيك بالآخرين والمنافسة والعنف. لذلك إذا أردنا أن نميز بين تربية الأم العربية وتربية الأم الأميركية وجب علينا أن نميز بالأحرى بين مجتمعين مختلفين في تركيبهما وفي نظام قيمهما، وفي الأهداف التي يرميان إلى تحقيقها.

أكرر: المجتمع هو الذي يكون الفرد ويجعله على صورته وليس الفرد هو الذي يكون المجتمع برغباته وأهوائه وأفكاره المجردة.

من الواضح أن مجتمعنا يرمي من خلال عملية التربية والتثقيف إلى هدف أساسي هو إخضاع الفرد وكسر شوكته. والتعبير الأقوى والأكثير وضوحاً لهذا يكمن في معاملتنا لأطفالنا وفي أسلوب تربيتهم وتثقيفهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عملية التربية والتثقيف لا تتألف فقط من التعليم المباشر بل أيضاً من الأشكال التي يتخذها سلوك الوالدين (وأعضاء العائلة الآخرين) نحو أطفالهم وتفاعلهم معهم.

ومما لاشك فيه أن شخصية الطفل تنمو وتتكون بقعل ما يلاحظه ويسمعه ويراه من جانب والديه أكثر بكثير مما يتعلمه منهما مباشرة.

وتتخد عملية إخضاع الفرد أشكالاً عدة منها ما هو نفسي (سيكولوجي) ومنها ما هو فكري (أي تعليمي).

على الصعيد النفسي أن الوسائل الرئيسية للإخضاع هي كما رأينا ثلاث: العقاب الجسدي والتخجيل والاستهزاء.

إن صُفع الطفل إذا أخطا قد يرغمه على تصحيح الخطأ لكنه في الوقت ذاته يسبب له شعوراً بالمذلة واحتقار الذات. وهو إذ لا يجد لهذا الشعور منفذاً يحوله إلى داخله أو يواجهه نحو من هم أصغر وأضعف منه.

إن العقاب الجسدي لا يعلم الطفل شيئاً إلا الرضوخ لمن هو أكبر أو أقوى منه أو لمن هو أعلى منزلة. من هنا يتعلم الفرد أن يسكت على القهر وأن يكبت الضغينة. ومن هنا تتكون في الفرد صفات لها أبعد الأثر في تكوين شخصيته وفي تطوير أنماط سلوكه. لذلك نرى الفرد، في سلوكه الاجتماعي، بدلاً من اعتماده على الصراحة والصدق والتعاون مع الآخرين، يميل إلى المداورة والأسلوب غير المباشر، ويعتاد الدس والتمويه في تفاعله الاجتماعي. لهذا نجد أن الاغتياب –أي ذم الغائب وتعريته من كل المحاسن- هو من عادتنا الاجتماعية العميقة الجذور.

وكما أن العقاب الجسدي يشكل أداة مباشرة لإخضاع الفرد، فإن التخجيل يشكل أيضاً أسلوباً غير مباشر وربما أكثر فعالية في ترويض الفرد وجعله أكثر امتثالاً لإرادة من هم أعلى منه. ومن آثار التخجيل أنه يخلق في النفس شعوراً بالذنب فيشعر الفرد أنه مذنب ليس فقط على صعيد السلوك الفعلي، بل أيضاً على صعيد النية، والواقع أن التربية الجنسية هي أهم أسباب هذا الشعور.

 

الجنس:

سرية، خوف، تكتم

في العائلة تحاط الأمور الجنسية بالسرية والخوف والتكتم الشديد. فينمو الطفل ويبلغ سن المراهقة وهو معزول كلياً عن حقيقة ما يجري حوله ومايدور في نفسه فتنشأ عنده عقدة نفسية ويصبح موضوع الجنس محوطاً بالخجل، وفي الوقت ذاته، شأناً من أهم شؤون حياته. لهذا نرى أن الشاب العربي يتوجه إلى أوروبا أو أميركا لا طلباً للعلم فقط بل طلباً للجنس أيضاً.

لقد أثبت علم النفس أن الكبت الجنسي يقتل روح التمرد في الفرد ويخضعه لإرادة الأب وللسلطة الاجتماعية التي يمثلها هذا الأخير. وهذا الإخضاع يؤدي بدوره إلى عوارض نفسية مختلفة منها ضعف القدرة على التساؤل الحر والتفكير المستقل، أي إلى التشتت العقلي بشكل عام.

أما الاستهزاء فيجمع بين العقاب والتخجيل، وهدفه المباشر التقليل من قيمة الفرد تجاه نفسه وتجاه الآخرين. وإذا تذكرنا طفولتنا ظهر لنا بوضوح. أن الأب ليس وحده مصدر الألم والقهر والشعور بالعجز الذي عانيناه جميعاً في طفولتنا، بل هناك أشخاص آخرون عديدون كانوا أيضاً أداة للمجتمع ولعاداته في قهر نزعة الاستقلال والحرية فينا. من هنا كان القضاء على دنيا الطفولة وأحلامها هو الثمن الذي يدفعه كل جيل في كل مجتمع من أجل أن تستمر فيه قيم الجيل السابق وعاداته. إلا أن مجتمعنا يبدو من أكثر المجتمعات قسوة على الأطفال. ولعل ذلك يعود إلى أننا نفصل فصلاً تاماً بين عالم الصغار وعالم الكبار، فننظر إلى الطفل على أنه رجل لم يكتمل بعد، وبالتالي لا نقر له شخصية خاصة وعقلية خاصة بمعنى أن للطفل عالماً نفسياً له نوعيته وخصائصه الفريدة.

ولهذا فإن علاقتنا بهم تستند إلى التعالي عليهم والابتعاد عنهم، وهذا يعود إلى إن علاقة آبائنا بنا كانت على هذا المنوال، لذلك لا يمكن لنا أن نغير علاقتنا بأطفالنا إن لم نسترجع عالم طفولتنا، عالم الفرح والحرية والأمل، فنعيد الصلة بأصول حياتنا ونصبح قادرين على تضميد الجروح التي سببها لنا آباؤنا ونحن أطفال. وإن عجزنا عن ذلك فأننا سنستمر في علاقتنا القاسية بأولادنا فنعاملهم بالقسوة نفسها التي عاملنا بها آباؤنا لنجعلهم على صورتنا كما جعلنا آباؤنا على صورتهم، وذلك لنضمن خضوع أبنائنا لإرادتنا، كما ضمن آباؤنا خضوعنا لإرادتهم ولإرادة الأجيال البائدة.

 

الإرهاب المباشر في التعليم

هذا على الصعيد النفسي، أما على الصعيد الفكري فعملية الإخضاع تأخذ شكلاً خاصاً هو الإرهاب المباشر في التعليم عن طريق التلقين ويهدف التلقين كطريقة للتعليم المباشر إلى التسليم بما يتعلمه الفرد ويحفظه دون تساؤل أو تفهم، فيصبح العقل أداة ترداد وحفظ بدلاً من أن يكون وسيلة تحليل ومعرفة ونقد.

وقد نقل إلى صديقي الدكتور سعدالدين إبراهيم، أستاذ علم الاجتماع في جامعة دي بو الأمريكية، قصة وقعت له في صغره في الكتّاب في أحدى قرى الدلتا في مصر وهي توضح عملية التلقين توضيحاً تاماً.

قال: "في يوم من الأيام كنت في الكتّاب أكثر شقاوة من العادة، فضربني الشيخ بعصاه وإذا بالدم يسيل من جرح طفيف في رأسي. فضطرب الشيخ وتخوف من غضب والدي. فقال لي "إذا سألك أبوك عما حصل قل له أنني ضربتك من غير قصد". ثم تردد قليلاً وقال: "أو قل له أنك وقعت وفدغت رأسك". ولدى عودتي إلى البيت سألني أبي بلهجته الصارمة: "ما بك، ماذا حدث؟" فأجبته دون تردد "لقد ضربني الشيخ عن غير قصد أو أنني وقعت وفدغت رأسي".

ونحن إذ نعلم أطفالناالطاعة وتنفيذ الأوامر وحسن التصرف نكبل عقولهم ونحد من نموهم الذهني الطبيعي، والواقع أن الكبت الجنسي الذي يتعرض له الفرد يجد مقابله الكبت الذهني، والإثنان ينميان فيه الامتثال والتسليم والاتكالية.

إن مفتاح التغيير الاجتماعي يكمن في وضع حد لهذا الإرهاب الذي يمارسه المجتمع على أطفاله بواسطة الآباء والأمهات.

بمعنى آخر إن لم يتمكن جيلنا من أن يضمن لأبناء الجيل الطالع قدراً كافياً من الحرية والاستقلال ليتعلموا كيف يتدبرون أمورهم بأنفسهم دون ضغط أو إلزام وكيف يتحملون مسؤولية أعمالهم ويجابهون مشكلاتهم دون تخوف أو تهرب، فإننا لن نستطيع أن نغير في المجتمع المصري سوى مظاهره الخارجية. عندئذ نبقى كما نحن، عائلات وعشائر وطوائف متنافرة في مجتمع متفسخ، عاجز عن مجابهة التحدي الحضاري وعن القيام بمهماته الأساسية تجاه نفسه وتجاه العالم.

 

علاقاتنا

بالمرأة

إن الاضطهاد في مجتمعنا هو على ثلاثة أنواع: اضطهاد الفقير واضطهاد الطفل واضطهاد المرأة.

ولا أبالغ في قولي أنه من المفجع أن يولد الإنسان أنثى في مجتمعنا. أنني لا أعرف مجتمعاً في العالم –حتى المجتمعات البدائية- وضع الأنثى فيه مثل وضعها في المجتمع العربي. ومهما حاولنا إخفاء هذا الواقع أو تبريره فالحقيقة بارزة أمامنا وهي تصفعنا كل يوم.

مستحيل أن يتغير المجتمع العربي مادامت المرأة العربية في وضعها الراهن، وذلك لأنها هي التي تصنع الإنسان العربي. وطالما أن المرأة العربية لم تتغير بعد فالإنسان العربي غير قابل للتغيير. وعندما قال نابليون أن اليد التي تهز السرير هي اليد التي تهز العالم، قصد بذلك أن المرأة لا الرجل هي قاعدة المجتمع وركيزته.

أننا لا نعرف حقيقة وضع المرأة في مجتمعنا، ونحن بشكل لاشعوري، نرفض مجابهة هذه الحقيقة ونتناساها، وبالتالي نسدل الستار على أهم مشكلاتنا الاجتماعية وأكثرها تعقيداً. لكننا إذا كنا جادين في مجابهة التحدي الحضاري وفي بناء مجتمع جديد في هذا الوطن علينا قبل كل شئ "أن نعيد إلى نصف هذا المجتمع إنسانيته الكاملة. فنحن عندما نقول "الإنسان العربي" ألا نعني الرجل العربي فحسب؟ كيف لنا أن نجابه التحديات التي تهددنا وأن نبني مجتمعاً جديداً في حين أن نصفنا مشلول؟ ؟وعندما يكون النصف مشلولاً يصبح الكل مشلولاً أيضاً، مهما كانت الظواهر. إن نقطة انطلاقنا هي إذن، أن الإنسان العربي هو الرجل والمرأة على حد سواء.

 

شخصية الفتاة العربية

في دراستنا عن تركيب العائلة ودور الأم في تكوين شخصية الطفل توصلنا إلى نتائج أولية حول الفوارق في تربية الصبيان والبنات ووجدنا أن الفارق الأساسي في أن الأولوية والاهتمام الزائد الذي يعطي للصبي على حساب البنت يتيح للبنت شيئاً من الحرية يجعلها قادرة على تطوير قواها الذاتية في استقلال وفي سرعة لا نجدهما عند الصبي. لهذا تتكون شخصية الأنثى باكراً ويصبح في إمكانها القيام بواجبات وأعباء لا يستطيع الذكر القيام بها في مثل سنها. ومن هنا نجد أن قدرات كثيرة لا نعرف ماهيتها بعد تنشأ عند الفتاة فتؤهلها لتمثيل أدوار هامة في حياتها والتأثير بصورة مباشرة في حياة الرجل وعلاقاته وبصورة غير مباشرة في حياة المجتمع.

إن خبرتي في التدريس الجامعي خلال عشرين عاماً تؤكد هذه الملاحظات. فالفتاة العربية عندما تتاح لها الفرص التي تتاح لزميلها الشاب تستطيع أن تتفوق عليه في كثير من الأحيان. وإنني أميل إلى الاعتقاد أن ذلك يعود إلى الصفات والمزايا التي اكتسبتها في الصغر. وقد لاحظت أن طلابي العرب كثيراً ما كانوا يطلبون مساعدتي في ترتيب أمورهم أو في التوسط لهم أو فيما شاكل من المساعدات فيظهرون بذلك الكثير من الاتكالية في سلوكهم. أما الطالبات العربيات فكن يرفضن المساعدة إلا في الحالات الملحة، مظهرات بذلك اعتمادً على النفس واستقلالية ذاتية تثير الإعجاب. وقد كان في صفوفي في جورج تاون وفي الجامعة الأمريكية في بيروت عشرات من الطلاب والطالبات من معظم البلدان العربية، منها الكويت والسعودية والخليج، وأستطيع القول أن الطالبات كن دئماً الأقوى شكيمة والأقدر على حل المشكلات ومجابهة الصعاب.

قلت أن التغيير في مجتمعنا لا يمكن أن يتم دون تغيير جذري في علاقاتنا بالمرأة وفي نظرتنا إليها. وهذا يعني شيئاً واحداً: تحرير المرأة.
من خمسة وسبعين عاماً صدر الكتاب الرائد "تحرير المرأة" لقاسم أمين، الذي نادى فيه بتعليم المرأة ومعاملتها معاملة الند للند ومشاركتها في الحقوق وفي الواجبات بالعدل والمساواة مع الرجل.

ها نحن بعد ثلاثة أرباع القرن وبعد مسيرة ثلاثة أجيال لا نزال ننادي بتحرير المرأة. من الواضح أن مجرد إرسال البنات إلى المدرسة وإزالة الحجاب عن وجوههن ومنحهن بعض الحقوق المدنية والمهنية لا يحقق تحرير المرأة. فالتحرير لا يتحقق بمجرد اقتباس العادات والملابس والمدارس الغربية فهذه ليست إلا مظاهر خارجية كثيراً ما تخفي العلاقات التقليدية، وبالتالي تمنع تغييرها. إن تحرير المرأة لا يتم في النهاية إلا بتغيير علاقتها بالرجل، وهذا يعني تغيير دورها ومكانتها في العائلة وفي المجتمع. هذا هو التغيير الجذري الذي يمكنها من تحقيق قدراتها الإنسانية بصورة كاملة وبشكل تتساوى فيه حقوقها وواجباتها مع حقوق الرجل وواجباته فتصبح عندئذ إنساناً بكل ما في ذلك من معنى. وهكذا يمكننا أن نقول أن الإنسان العربي أصبح إنساناً مكتملاً لا نصف إنسان.

إن عملية تحرير المرأة هي إذاً عملية انعتاق شاملة تبدل العلاقات الاجتماعية من جذورها، وإنها لا تحدث بمجرد قبول لفظي لحقوق المرأة بل هي حصيلة صراع طويل. وبالتالي فإن تحرير المرأة في مجتمعنا جزء لا يتجزأ من عملية تحرير الرجل وتحرير المجتمع بكامله.

 

علاقاتنا

بعضنا ببعض

وهنا نأتي إلى العلاقة الثالثة والأخيرة.

وانطلق هنا من حقيقة جوهرية هي أن الفرد والعلاقات التي ينشئها هي حصيلة ظروف موضوعية لا حصيلة أفكار أو رغبات أو مثل عليا، أي أن الواقع الاجتماعي لا الفكر المجرد هو الذي يقرر في النهاية تركيب المجتمع وطبائع أفراده.

والآن ماذا نقصد بالظروف الموضوعية؟

هناك عاملان أساسيان: العامل الاجتماعي والعامل التاريخي.

على الصعيد الاجتماعي تكتسب شخصية الفرد طابعها المميز ضمن العائلة كما تتكون علاقته بنفسه وبالآخرين بفعل نظام تربوي تثقيفي يفرضه نظام القيم السائدة في المجتمع، وذلك بواسطة العائلة أولاً ثم بواسطة المدرسة أو المؤسسات الاجتماعية الأخرى.
إن الفرد العربي، في تركيبه النفسي وفي السلوك الاجتماعي الذي يصدر عن هذا التركيب، يبدو فريسة اتجاهين متناقضين. فهو، من جهة، مدفوع بنزعة فردية عمياء تجعله يخرج عن المجتمع ويخالفه. وهو من جهة أخرى، مدفوع بنزعة جماعية تجعله عاجزاً عن العيش دون الالتصاق والاعتماد الكلي عليها. والواقع أن كلا من هاتين النزعتين المتناقضتين تعبر عن بنيان واحد متماسك من العادات والتقاليد.

إن النزعة الفردية في مجتمعنا تتميز بطابع سلبي محض بحيث أنها تهدف إلى خير الفرد وحده ولاتقيم للكيان الاجتماعي أي اعتبار. فالفرد لا يكاد يخرج من إطار العائلة ويحوز على شئ من الاستقلال حتى ينصرف بكل قواه إلى رفع شأن ذاته والتعويض عن الكبت والاضطهاد اللذين عاناهما ضمن العائلة. فهو يتحرق لإبراز ذاته على حساب الآخرين ولتحقيق أهدافه حتى على حساب مصلحة المجتمع. وبالنسبة إليه فإن مصالح الآخرين ومشاعرهم أمر ثانوي لا يعيره اهتماماً إلا إذا ارتبط بمصالحه وبمشاعره. إن لسان حاله هو: "أنا فوق الجميع".

وإذا صح قول علماء الاجتماع في أن سلوك الأفراد في مجتمع ما يظهر على حقيقته في أدب قيادة السيارات، فإن أدب السير عندنا يؤكد تحديدي للنزعة الأنانية في سلوكنا الاجتماعي. والجدير بالذكر أن اللطف والمسايرة اللذين يميزان سلوكنا الاجتماعي عندما نلتقي وجهاً لوجه هما وسيلة لإخفاء النزعة العدوانية اللاشعورية التي تكمن في كل منا تجاه الآخرين.

وهناك صفات أخرى ترتبط بالنزعة الفردية لا مجال لذكرها الآن. غير أني أود أن أسجل ملاحظة واحدة لابد منها، وهي أنه إذا كان لمجتمعنا العربي أن يتجاوز سلبيته وأن يتطور نحو حياة إنسانية أفضل فلابد له من التخلي عن الفردية المسيطرة عليه الآن وتحويلها إلى نزعة إيجابية إذ تحافظ على الفرد ومصلحته تنقذه من التنازع المميت. وبذلك يتمهد الطريق لبناء علاقات اجتماعية جديدة تقوم على الأخوة والتعاون في مجتمع ترتبط فيه مصالح الأفراد وأهدافهم بمصالح المجتمع وأهدافه، بكل ما في ذلك من شمول. هذا التغيير لا يمكنه أن يتم بمجرد رغبتنا أو نيتنا الحسنة بل أنه يفترض تحولاً جذرياً في الوعي الاجتماعي وفي علاقات أعضاء المجتمع الموضوعية.

أما نزعة الانتماء إلى الجماعة فلا تأخذ شكلاً اجتماعياً بالمعنى الواسع بل شكلاً عائلياً وعشائرياً وطائفياً. وهذا ما يضفي عليها تجاه المجتمع طابعاً سلبياً كالذي نجده في النزعة الفردية. فالعائلية والعشائرية والطائفية تنمي في الفرد الولاء العائلي والطائفي والعشائري وكل منها لا يتوافق مع الولاء الاجتماعي أو الطائفة يحد من وعيه الاجتماعي ويقف في طريق الممارسة الاجتماعية السليمة. إنه يستمد قوته من قوة الجذب القائمة في صلب النظام العائلي العشائري الطائفي المسيطر على علاقاتنا الاجتماعية، وهو يمنع الفرد من تجاوز هذا النظام ويبقيه في شعوره وسلوكه أسيراً للفردية العشائرية والطائفية والعائلية.
وهنا لابد من إيضاح هذه الظاهرة الخطيرة، ولو باختصار شديد.

 

"نجاح أخي

يعني فشلي"

يجب قبل كل شئ ألا تغيب عن أذهاننا قاعدة أساسية رددناها حتى الآن بصيغ مختلفة، وهي تبرز هنا على الشكل التالي:

إن العلاقات الاجتماعية ما هي في النهاية إلا انعكاس للعلاقات العائلية والعكس بالعكس. وما السلوك الاجتماعي إلا تعبير عن الشخصية الاجتماعية المنبثقة من الارتباط الوثيق بين العائلة والمجتمع.

وخلافاً لما يعتقده الكثيرون، فإن نظام العائلة عندنا –على ما فيه من حسنات كاحترام الكبار وحماية أفراد العائلة بعضهم بعضاً في الملمات- يقوم على التنابذ والخلاف أكثر مما يقوم على التعاون والوئام. إن الغيرة والحسد يسودان علاقات أفراد العائلة أكثر مما تسودها المحبة والتسامح. وهكذا الحال تماماً في علاقات أعضاء المجتمع بعضهم ببعض.إن أولادنا يتعلمون منذ الصغر كيف يجري اغتياب الأصدقاء والأقرباء وكيف يجهر الإنسان بما لا يضمره ومن أين يؤكل الكتف. وفي تنافسهم على محبة الأم وعطفها يتعلمون بشكل تلقائي كراهية الأشقاء واعتبارهم منافسين ومنافسات يجب التحسب لهم. كذلك فإن الوالدين ينميان روح الغيرة في نفوس أطفالهم وذلك بتصرفاتهما اللاواعية نحوهم. فإذا ميزت الأم، ولو بكلمة واحدة، بين ولد وآخر فإنها قد تسبب عند الواحد أو الآخر نقمة أو شعوراً بالنقص يصبح جزءاً من تركيب شخصيته فيؤثر في سلوكه تجاه نفسه وتجاه الآخرين.

إن نجاح القريب أو الصديق مدعاة للفرح والاعتزاز. لكنه كثيراً ما يخلق في نفس الفرد شعوراً غامضاً بالقلق والغيرة فيحاول الفرد رفض هذا الشعور وإزالته من وعيه، ألا أنه يبقى ولو مطموراً في اللاوعي فيظهر في سلوك الفرد تجاه من يتفوق عليه. إن هذا الشعور له منطقه الخاص ومصدره الأكيد هو التفاعل العائلي في سنوات الطفولة الأولى حيث تتكون الذات وتنمو من جراء تفاعلها مع الذوات الأخرى المحيطة بها. والواقع أن من أوائل الأشياء التي يتعلمها الطفل في عائلته هو "إن نجاح أخي يعني فشلي".

وهنا أود أن أنبه إنني لا أبغي القول أن هذه الصفات هي ظاهرة يتميز بها مجتمعنا دون المجتمعات البشرية الأخرى. العكس هو الصحيح، فهذه الصفات عامة نجدها في كل عائلة وفي كل مجتمع. وما أريد التشديد عليه وتوضحيه هو أن هذه الظاهرة تبدو في مجتمعنا أكثر قوة وفاعلية في تكوين نفسية الفرد وسلوكه منها في المجتمعات الأخرى، وذلك بسبب نظامنا العائلي والعشائري الطائفي وما في داخله من ترابط.

إن هذا التضارب بين نزعة فردية سلبية تقوم على مجرد توكيد الذات (وما توكيد الذات هنا إلا تعبير عن عدم الثقة بالنفس)، وبين نزعة جماعية سلبية تقوم على التوكل العائلي–العشائري-الطائفي ، إن هذا التضارب يشكل المحرك الاجتماعي الأقوى للنزعة السلبية التي تميز علاقاتنا بعضنا ببعض وعلاقتنا بأنفسنا.

 

التحدي الحضاري

والآن لنعالج العامل المكمل للعامل الاجتماعي، ولنأخذ هذا العامل من زاوية علاقتنا بالغرب، وبذلك نصل إلى موضوعنا الأخير وهو تحديد معنى التحدي الحضاري.

إن تاريخنا الحديث ابتداء مما نسميه عصر النهضة، هو في صميمه حلقات من ردود أفعال متتاليه على التحدي الغربي، وذلك على كافة المستويات من سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ولا يمكننا أن نفهم طبيعة التطور الذي طرأ على مجتمعنا على كافة هذه المستويات إلا إذا فهمنا، من جهة، حقيقة التحدي المستمر الذي يشكله الغرب بالنسبة إلى مجتمعنا، ومن جهة أخرى، ردود أفعالنا في وجه هذا التحدي.

إذا أخذنا الناحية المادية –على الصعيد العسكري والسياسي والاقتصادي- وجدنا أن تاريخنا الحديث بكل سلبياته وإيجابياته هو من صنع الغرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أي أنه يشكل سلسلة من ردود الفعل عليه.

ألم يفرض علينا الغرب منذ بدء احتلاله النظم والمؤسسات السياسية والاقتصادية التي سيرت مجتمعنا وجعلته على ما هو عليه في نظامه وتركبيه؟

ألم يفرقنا الغرب فجعلنا دويلات ورسم لنا حدودنا وقرر مدى سيادتنا وطبيعتها؟

ألم يربطنا بنظامه الرأسمالي مقرراً بذلك اتجاه تطورنا الاقتصادي والاجتماعي؟

ألم يقتلع جزءاً من أرضنا ويزرع إسرائيل في قلب وطننا فيتمكن من غزونا سنة 1956 وضربنا سنة 1967 ومنعنا من تحرير أرضنا سنة 1973؟

ألم يهددنا (وما يزال) بقوته العسكرية وبتدخله المباشر وغير المباشر وبالعقوبات الاقتصادية والسياسية ليبقينا تحت إرادته ورهن مصلحته؟

 

رضاء الغربي وإعجابه

وإذا كنا قد تمكنا أخيراً من الوقوف في وجه التحدي الغربي وانتزاع بعض حقوقنا المشروعة منه، فإننا لا نزال على الصعيد النفسي والحضاري تحت سيطرته. وهنا يكمن، في نظري، العامل الحاسم في مجابهتنا للتحدي الغربي.

فما هو هذا الاستعمار الحضاري وما هي انعكاساته الاجتماعية والنفسية؟

بالنسبة إلينا، عندما نستعمل في حديثنا كلمة "المدنية" أو "الحضارة" إنما نعني بذلك الحضارة الأوروبية أو الحضارة الأميركية أي الحضارة الغربية. ومنذ بدء علاقاتنا بالغرب ونحن نعاني من شعور بالنقص تجاه كل ما هو غربي. ولا نزال حتى اليوم نتخذ في حياتنا اليومية أنماطاً ونماذج للعمل والفكر والسلوك نستمدها من الغرب دون تفحص أو تقييم ونقبلها بلا سؤال لمجرد أنها أوروبية أو أميركية المصدر. فالغرب بالنسبة إلينا أصبح مصدر كل شئ قيم ومتفوق ورفيع، وصرنا ننظر غلى الغربي على أنه من جبلة أخرى غير التي جبلنا منها نحن أو جبل منها سائر البشر. حتى أصبحنا ننظر إلى أنفسنا وإلى مجتمعنا وإلى تاريخنا نم خلال نظرة الغربي إلينا، فكأن همنا الأول –عن وعي أو عن غير وعي- أن نحظى برضاء الغربي وبإعجابه.

إن شعورنا بالنقص تجاه الإنسان الأوروبي أو الأميركي يعكس نفسه بأشكال مختلفة إلا إنها كلها محقرة لنا ولقيمتنا تجاه أنفسنا كأفراد وكجماعات. ولعل أهم هذه الأشكال محاولات كتابنا ومفكرينا منذ بداية هذا القرن أن يبرهنوا عن عظمة التراث العربي والإسلامي ومدى تأثيره في الحضارة الأوروبية وتطورها.

وما هذه المحاولات من الوجهة السيكولوجية غير تعبير عن هذا الشعور بالنقص ومحاولة التعويض عنه بإيجاد صلة مشرفة تربطنا بالغرب وتجعلنا جزءاً منه ولو من زاوية تاريخية مجردة. إننا في تفاخرنا على الغرب وتبجحنا بعطائنا الحضاري له إنما نؤكد رغبتنا الخفية في أن نكون مثله لنحظى بقبوله وبإعجابه. وهذا العشور بالنقص هو الذي يدفعنا أيضاً في الاتجاه المعاكس، أي إلى الطعن في كل ما هو غربي وإلى التعلق الأعمى بالتراث وبالتقاليد.

والواقع أن مفهوم مجابهتنا للغرب قد تغلب عليه منذ البدء الطابع الثقافي والتجريدي الذي نجده خاصة عند الكثيرين من المفكرين العرب. فكان رد الفعل عندنا على نوعين: اتجاه نحو التحديث على النمط الغربي، واتجاه آخر نحو المحافظة على التقاليد والعودة إلى التراث القديم.

 

افتقد الجزائريون لقمة الخبز

لقد واجه الفعل العربي في كلا الاتجاهين، التجديدي والسلفي، طريقاً مسدوداً وذلك لأنه بقي رد فعل ثقافياً مجرداً في محتواه ومفاهيمه. ولم يستطع مجابهة الغرب على المستوى العملي الحسي الذي يقرر كل صراع وكل مجابهة.
إن القهر الذي عاناه الإنسان العربي من جراء فشله في مواجهة التحدي الغربي قد أفقر الحياة العربية فكرياً ومادياً وحرم أجيالاً بكاملها من العيش الآمن الكريم في وطنها.

لقد أتانا الغرب مبشراً بالمثل العليا، بالحرية وبالعدالة وبالمساواة، ولكنه في ممارسته لهذه القيم كان شيئاً آخر. نظرته لنا كانت نظرة السيد إلى المسود وتصرفه تجاهنا كان على حساب مصلحتنا ولم يقم لنا أي إعتبار كبشر لهم أمان ومصالح وأهداف. وكان الثمن الذي دفعناه لتأمين مصالح الغرب وازدهاره هو بؤسنا وضياعنا وتخلفنا.

وتظهر هذه العلاقة بوضوح أكبر على الصعيد الاقتصادي. ففي مصر تم بناء اقتصاد البلاد بعد تمركز المصالح الغربية فيها، خصوصاً بعد الاحتلال الإنكليزي، على زراعة القطن، الأمر الذي أدى إلى ازدهار صناعة النسيج في بريطانيا وإفقار شعب مصر.

وفي الجزائر، بعد الاحتلال الفرنسي، صارت صناعة النبيذ صناعة البلاد الأولى، هذا في بلاد حرم على أهلها شرب الخمر. فجني الفرنسيون الأرباح الطائلة في حين افتقد الجزائريون لقمة الخبز الذي كان يستورد من الخارج.

وأما النفط، مورد العرب الأول، فقد هدره الغرب دون حساب خلال ربع قرن، وتمكن بفضل نفطنا من إعادة بناء اقتصاده بعد الحرب وتحقيق أكبر ازدهار عرفه في تاريخه. واليوم يقول لنا الغربيون أن الدخل العربي أصبح كبيراً على العرب لذلك لابد من استعمال الفائض في مساعدة البلدان الصناعية (أي الغربية) للحفاظ على ميزان مدفوعاتها وحماية نموها الاقتصادي! هذا في حين إننا نعاني، في الوطن العربي، أشد أنواع التخلف. مثلاً، إن معدل الدخل السنوي للفرد في بلدان عربية عدة منها مصر والمغرب، واليمن، هو دون الـ200 دولار، ولرفع هذه الدخل السنوي 100 دولار فقط يتطلب صرف حوالي 10 بلايين دولار سنوياً في التنمية الاقتصادية.

لهذا أقول أن الإطار الثقافي المجرد الذي لا يرى التحدي إلا بمنظر التجديد أو التقليد. أي في الأخذ بنموذج الغرب أو بنموذج السلف، هو إطار خاطئ لا يؤدي إلى نتيجة. إن الإطار الصحيح هو الذي يكشف لنا معنى التحدي ويظهره على حقيقته، أي على أن تضارب تصادمي في المصالح والقيم والأهداف.

هذا لا يعني أننا نرفض الغرب وثقافة الغرب وعلمه بلا قيد ولا شرط. أقول، لا مانع إطلاقاً من أن نتعامل مع الغرب وأن نستمد منه نماذج وأفكاراً ومواد لإنعاش حياتنا الاقتصادية وإعادة تنظيم مجتمعنا وإحياء ثقافتنا العربية شرط أن ذلك على أساس مساواة الند للند. ولذلك فإن الشرط الأول لمجابهة التحدي الحضاري هو التغلب على شعورنا بالنقص تجاه الغرب والغربيين. وهذا يعني عملياً كسر الطوق الذي يجعلنا نعتبر، تلقائياً وبلا وعي، إن ما هو أوروبي أو أميركي يجب أن يتميز عن غيره (بمن فيه نحن) وأن يكون دائماً أفضل وأكثر قيمة منه. لماذا نسعى جاهدين للظهور بمظهر "لائق" أما الغربي، فنكد ونتعب لنبرهن له عن "تقدمنا" و"رقينا" فنأخذه ليرى بناياتنا الحديثة وشوارعنا العريضة ونخفي عنه كل ما يظهرنا على حقيقتنا في مجتمعنا وعاداتنا وأذواقنا؟ إننا في سلوكنا هذا نقول للغربي: "انظر إلينا، مع إننا أقل منك شأناً نحاول أن نكون مثلك، فالرجاء أن تتقبلنا وأن تمتدحنا وأن تمنحنا رضاك". ولكن كيف لنا أن نجابه أي يحد بهذه النفسية؟

 

لابد من خلع سيطرة الغرب

إذا كان لنا أن نجابه التحدي الغربي وأن نتغلب عليه فلابد من خلع سيطرة الغرب الحضارية كما خلعنا سيطرته السياسية، ومن دون ذلك لا يمكننا أن نتفاعل تفاعلاً سليماً معه ولا يمكننا أن نتحرر منه. وإذا كان هذا أمراً صعب التحقيق فذلك لأن الاستعمار الحضاري هو استعمار نفسي بينما الاستعمار السياسي يستهدف الظاهر والمحسوس فحسب.

إن المجتمع الغربي يستهدف الظاهر والمحسوس فحسب.

إن المجتمع الغربي هو أول مجتمع في التاريخ يستطيع بفضل تقدمه العلمي والصناعي أن يوفر لأفراده الأسس المادية لبناء حياة إنسانية حقه. ولكنه بدلاً من أن يحقق ذلك خلق نظاماً اجتماعياً اقتصادياً لا يزال يرتكز على استغلال الإنسان وعلى قهره وعلى كبته. إن الغرب الحديث قائم على العنف ومضرج بالدماء، وإذا قسناه بمقدار القتل والدمار الذي سببه في عصرنا لوجدناه أكثر وحشية وأشد همجية من أي مجتمع في التاريخ. لنأخذ مثلاً على ذلك الحربين الأخيرتين. فقد قتل في أوروبا أكثر من 60 مليون إنسان وشرد ملايين من البشر في كافة أنحاء العالم. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية قتل وشرد من الآسيويين والأفريقيين على يد الأوروبيين والأميركيين ما يزيد عن 40 مليون نسمة ذنبهم إنه أرادوا التحرر من استعمار الغرب. ولا نستغرب إذا وجدنا إن الإحصاءات في الولايات المتحدة تشير إلى أن ما لايقل عن ثلث سكان المدن الأميركية مصابون بمرض نفسي، وإن أكثر من 50 مليون أميركي (أي 25 بالمئة من سكان الولايات المتحدة) يعانون من نقص في التغذية.

إن الإنسان في هذه الحضارة لايكون القيمة الأساسية أو الهدف الأخير للمجتمع كما تقول نظرياته ومثله الأخلاقية. إنه أداة للنمو الاقتصادي الأعمى والتوسع الاستهلاكي من دون نهاية، ولا يشكل غاية إنسانية في حد ذاته إلا في أوقات الوعظ في الكنائس والمناسبات الخطابية.

إن مقدرتنا على مجابهة التحدي الحضاري تتوقف في النهاية على أمرين:

أولاً- على الفهم صحيح لحقيقة الغرب ولما نريده من الغرب.

ثانياً- على القدرة على تجاوز نظرية التحديث ونظرية التقليد في مجابهتنا للغرب، والسير في طريق حضاري مستقل.

فقط بالعودة إلى أنفسنا وبالاعتماد على قوانا وإدراكنا وإرادتنا المستقلة نستطيع أن نبني مجتمعاً جديداً وحضارة جديدة كما نريدهما نحن لا كما يتصورهما أو يريدهما غيرنا.

والعودة الحقة إلى النفس لا تكون إلا بتحرير النفس. لذلك كان التحرير الاجتماعي مرتبطاً بتغيير العلاقات الثلاث التي تحدثت عنها، وما تحرير الطفل وتحرير المرأة إلا الشرط الأول والأساسي لتحرير الإنسان في المجتمع العربي وبالتالي لتحرير المجتمع بكامله.

إننا الآن على مفترق تاريخي يؤهلنا للبدء في عملية تحرير الإنسان في كل بقعة من الوطن العربي، ولبناء حضارة يكون هدفها تلبية حاجة الإنسان لا حاجة الآلة أو صاحبها، حضارة قادرة على دخول التاريخ والإسهام في تقدم الإنسانية.

 

د. هشام شرابي

"من كتاب: "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"