المعاناة...والخير والشر

ويم ريتكيرك ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢

لماذا؟

يتساءل غير المؤمنين بطريقة تلقائية "لماذا يارب؟" عندما يواجهون الألم والمعاناة. ولكل عقيدة وفلسفة في الحياة لها إجابتها على هذا السؤال.

فإذا لم تكن لك عقيدة (دين) معينة، فسوف يولد فيك الألم إحساس بالطبيعة المأساوية للحياة وتعتبرها نوعًا من الصراع بين الخير والشر، يبدأ بنوع من الفوضى وينتهي بلا إدراك لأي معنى.

أما المتدنيون فيميلون للاعتقاد بأن الله هو المسؤول وهو السبب الوحيد لكل شئ ولكنهم عندما يعتبرون الله هو سبب الخير والشر فهم بذلك يصفونه بما هو على نقيض صفاته من الحب والنور والقداسة وطهارة الأعمال. إنهم ينتهكون قدسية اسم الله عندما ينفون قداسته.

وهناك أناس متدنيون ينظرون للحياة على أنها سلسلة من الصراع بين الخير والشر وبين الله والشيطان. وسأطلق على هذا الأمر "الثنائية"، وهو رأي يقول بوجود قوتين متساويتين ولكن متعارضتين يتصارعان معًا في حالة من التوازن. ولكن إذا اعتبرنا أن الله هو إحدى هاتين القوتين فإننا بذلك نقلل من عظمته وجلاله.

 

يوحنا وإشعياء

إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس في محاولة لأن نجد إجابة لمعاناتنا، فيبدو أننا سنصاب بحيرة أكثر، لأنه لا يعطينا إجابة محددة، وبدلاً من تسهيل الموضوع فإنه يقودنا للاتجاه المعاكس.

ويبدو أن الكتاب المقدس يبرر كلا التفسيرين (الله هو السبب الوحيد لكل شئ وكذلك هناك صراع ثنائي بين الله والشيطان) ولكي أوضح الفكرة سأقتبس بعض الآيات من إشعياء ويوحنا.

" أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ. أَنَا الرَّبُّ صَانِعُ كُلِّ هذِهِ." (إشعياء 45: 6-7) " إِنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ." (1يو1: 5).

كيف يمكننا فهم هاتين الآيتين؟ ويبدو لنا كما لو أن آية تستبعد وتُقصي الأخرى، إذ يبدو كما لو كان أن إشعياء يُدنس اسم الله بينما يبدو أن يوحنا يُحط من قدره.

وإذا استطعت أن أسأل كل منهما فاسأل يوحنا "إذا كنت تقول أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة، فماذا يعني إشعياء بالقول أن الله خالق النور والظلمة، صانع السلام وخالق الشر؟" واسأل إشعياء "إذا كنت تقول أن الله هو خالق النور والظلمة والخير والشر، فكيف يقول يوحنا أن الله ليس فيه ظلمة البتة؟" من نصدق، يوحنا أم إشعياء.

إن وضع هاتين الآيتين جنبًا إلى جنب يُذكرنا بمدى الحرص الذي يجب أن نقرأ به كلمة الله. ومن السهل علينا أن نجد إجابة سريعة وأن نؤسس فهمنا على آية واحدة وننسى أنه توجد آيات أخرى لها رأي آخر مختلف. ومن خلال اعتبارنا الجاد لكل هذه المعاني والجوانب – بما فيها المتناقض منها – فقط يمكننا أن نتصرف بحق وعدل وصدق تجاه كلمة الله لكي نتعلم منها. وبعد أن واجهنا هذين الرأيين المتعارضين، توجد طريقة مدهشة تكشف لنا عن عظمة وسلطان الله الذي لا يمكن أن نحده بعقولنا المحدودة.

إن وراء يوحنا وإشعياء وآخرين هناك مؤلف الكتاب نفسه وهو الروح القدس الذي ليس له أية رسائل محيرة. إذًا، كيف تفسر هذا التناقض الظاهري بين إشعياء ويوحنا؟

 

هل الله هو أصل وسبب الشر؟

كتب الرسول يوحنا رسائله إلى مؤمنين في خطر من "التعاليم الغنوسية" في ذلك الوقت، وهي تشبه تعاليم "العصر الجديد New Age" اليوم، والتي تُنادي بأن الله واحد وفيه الخير والشر، وهو حقيقة سماوية له وجهان. ولذلك، بعد الحرب يأتي السلام وبعد النهار يأتي الليل وبعد الموت يأتي الميلاد الجديد.

وهذا يشبه الفكرة التي عبر عنها بالصورة كل من "Yin & Yang" واستخدم الرمز في كثير من التصميمات الشائعة المعاصرة. وقد نشأت أصلاً في الشرق حيث تستخدم كرمز شائع للبوذية، وهي تمثل حقيقتين متعارضتين يعيشان معًا في هذا العالم الذي نعيش فيه: النور عكس الظلمة، الذكر عكس الأنثى، الموت عكس الحياة.

فالخير لا يُلغي الشر أو العكس بل إنهما يكملان بعضهما البعض إذ أنهما ضروريان مثل ضرورة السالب والموجب للوجود، والكل يعمل في توازن.

 

ويقول الكاتب جراهام جرين في روايته "The Honorary Consul" إن لله جانبين جانب النهار وجانب الليل. "ويقول في روايته أن لله أيضًا جانب مظلم شرير. وبعض الأرثوذكس في الكنائس المصلحة يتبنون صورة مشابهة لله إذ يضعون اختيار الله الأبدي بجانب رفضه الأبدي. والبعض الآخر يتطرقون في تفكيرهم ويقولون أنه في داخل طبيعة الله توجد كراهية أبدية وحب أبدي، وأعتقد أن هذه الكفرة قريبة من فكرة الني واليانج "Yin & Yang".

يقول الرسول يوحنا أن الله ليس هو مصدر الشر ومن يقول بهذا فإنه يهين اسم الله. ويقول "هذه هي الرسالة التي سمعناها منه (يسوع) ونعلنها لكم: إن الله نور وليس فيه ظلمة البتة". وهذه الرسالة تجلب لنا السلام والراحة وليس اليأس لأن الشر لا يأتي من الله. إن الرسول يوحنا يتحدث عن خبراته الشخصية، ولكنه أيضًا على أساس ما تعلمه من الرب يسوع نفسه: " الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ..." (1يو1: 3-5).

(وعلى النقيض من ذلك يجب أن نحذر من اللاهوت الذي يحاول الصعود من اسفل، ومن خبراتنا البشرية للشر والمعاناة إلى مستوى الفهم الذي يدعي أنه من الله). لقد جاء يسوع ليرينا صورة الله وليعرفه لنا. وفيه نرى مشاعر الله المحبة لكل المتألمين المرضى والمحبوسين والفقراء. وفي المسيح نرى مدى بُغض الله للشر والخطية والمعاناة. والموت هو عدو الحياة ومدمرها ولكن يسوع كسر شوكة الموت بقيامته.

ويمكننا أن نرى في المسيح الله المتفرد الذي ليس له وجهان. الله محبة وليست فيه أية كراهية. إنه يكره الخطية والموت الذي يقبض على هذا العالم. ورسائل يوحنا لا علاقة لها "بالغنوسية". كما أننا لا يجب أن نتأثر بتعالم طائفة "العصر الجديد New Age" لأنه لا شركة للنور مع الظلمة، ولا بين الحق والباطل، ولا بين المحبة والكراهية.

وهناك انفصال أبدي بين الله ومصدر الظلمة للشر. والشخص الذي يؤمن بمبادئ الغنوسية يحول الله إلى شيطان ولا يتعامل مع الشر بطريقة جادة. وعلم سبينوزا (1632-1677) وآخرين مثل هذ الفلسفة "معرفة الشر هي معرفة الشئ الناقص". وكما يتعلم الطفل عندما يخترق أصبعه بنار الموقد أن لا يلمسه مرة أخرى هكذا يعملنا الألم مبادئ صالحة، وكذلك يُعامل الشر كأنه في حقيقة الأمر شئ صالح وصحيح. ومثل هذا التفكير يلقي بنوع من الضبابية على التمييز بين الخير والشر، وهو يؤثر على الفكر الغربي الآن من خلال قضايا مثل الانحراف والجريمة والإجهاض والموت الرحيم والتسليح الذري والخداع والانحطاط الأخلاقي. ومن الصعب الآن التفريق بين الخير والشر والصواب والخطأ.

إن الإله الذي يحتاج للخير والشر لكي يكتمل ليس هو الله الساكن في نور لا يدنى منه. إن التفكير في الله على أن به نور وظلمة فهذا أمر يهين اسمه، ومثل هذا الشخص يحتاج إلى سماع رسالة يوحنا بعناية.

 

هل الشر موجود خارج الله وخارج سيطرته؟

إذا كان الله نور وليس فيه ظلمة، هل بذلك نستنتج أن الشر يعمل خارج نطاق الله؟ أليس لله أية سيطرة على الشر؟ يقول إشعياء أن الله صنع كل من النور والظلمة. "... مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ" (إش 45: 6-7). ويبدو ظاهريًا أن هذه الكلمات تناقض مع ما قاله يوحنا، ولأول وهلة قد تدفع الشخص لأن يستنتج "أن هذا الكلام لا معني له، والكتاب المقدس مملوء بالتناقضات والأخطاء". ومع أنه يصعب فهم مثل هذه التناقضات، فالأمر يستحق التفكير فيه وفحصه جيدًا، فقد تُضئ لنا جانبًا من الغموض في كينونة الله الذي هو أعلى من فهمنا البشري المحدود.

وإن لم يكن الشر جزء من طبيعة الله، فهل الشر موجود في حالة متساوية لله ولكنه قوة مضادة لا يستطيع الله السيطرة عليها؟ هل هذه الثنائية تعطينا إجابة على معاناتنا؟ هل الله واحد من قوتين عظميتين...الخير والشر ويتناوبان السلطة؟

 

كثيرون من الناس يفسرون نبوة إشعياء ضد خلفية التفكير الثنائي، الذي نشأ في فارس وانتشر في الشرق القديم. وهم يروا التاريخ على أنه نتيجة نضال أبدي بين إله صالح وشيطان شرير. ومنذ بداية العالم وهاتان القوتان في تعارض دائم، ويتحكمون في تاريخ العالم فيما بينهم، ولا يوجد نصر نهائي لأحدهما على الآخر. وفي هذا التفكير لا توجد ضبابية أو عدم وضوح للحدود بين الخير والشر. ومع ذلك، فالأحادية تُسئ إلى اسم الله وتنزع عنه قداسته، والثنائية تحط من قدر الله وتسلبه تفرده.

وإذا كان الظلام خارج نطاق سيطرة الله، ومساوٍ له في القوة، إذًا لا سلطان لله عليه. ما هو أملنا في مثل هذا الإله الضعيف الذي ننظر إليه كبطل؟ كيف يمكننا أن نضمن الانتصار على الشر؟ إن مذهب الثنائية يُعطي الشيطان تقديرًا كبيرًا والذي يُرحب بأن يكون أقل من الله في القوة. ولكنه سريعًا سيأتي الوقت الذي سيجعله فيه الله أصغر من ثقب إبرة في هذا الكون. وربما تكون الثنائية تسربت إلى وجهة النظر العالمية لليهود. فهو يعرفون جيدًا أن الله يعمل من خلالهم وهو صالح وذات قدرة عظيمة بالنسبة لهم. ولكن يوجد شيطان – ضد الله - والذي عمل في الأمم الوثنية المحيطة. وبينما كان الإسرائيليين – كشعب الله – آمنين في جانب الصلاح والخير، فإن الأمم المحيطة بهم تخص الشيطان. القوة الشريرة. ومن الممكن أن تقرأ الوصف المذكور في إشعياء 45 عن حقبة تاريخية مليئة بالأحداث في سياق هذا التفكير اليهودي. سوف يظهر قائد عالمي جديد الذي هو كورش الحاكم الفارسي. وسوف يقوم بعمل مدهش: سوف يسمح لليهود المسبيين لأن يعودوا لأرضهم، وبهذا تتحقق المواعيد النبوية لله لدولة إسرائيل. وسيكون كورش قائدًا سياسيًا مثل جورباتشوف في الاتحاد السوفيتي أو مانديلا في جنوب إفريقيا، وبالرغم من أنه غير مؤمن، إلا أنه سيتصرف مثلما نتوقعه من شخص مؤمن. ويجيب إشعياء على هذا ويقول "إياك أن تعتقد أن هذا يحدث خارج نطاق الله الذي يده فوق الجميع". ويدعو الله كورش بالممسوح (وحرفيًا تعني المسيا). ولابد وأن هذا كان بمثابة صدمة لليهود. كما لو أن إشعياء كان يقول: "انظروا إلى هذا بتفكير متجرد. يهوه هو أيضًا إله الملوك غير اليهود مثل كورش. وكل قادة العالم في يديه. وهو يدعو البعض منهم للقيام بأعمال صالحة لبركة الأمم". إننا نشكر الله من أجل كل القادة مثل كورش وجورباتشوف ومانديلا. ويقول الله بلسان إشعياء إلى كورش: " أَنَا الرَّبُّ وَلاَ إِلهَ آخَرَ غَيْرِي؟..." ويواصل قوله: "..سأمسك بيمينه..وأسير أمامه وأحطم أبوابًا برنزية وأقطع قضبانًا حديدية" وإله إسرائيل هو أيضًا الذي حطم سور برلين...ويفعل كل شئ من أجل تحقيق خطة خلاصه. (إش 45: 22-25).

وبينما يقول يوحنا "إن الله نور وليس فيه ظلمة البتة"

يقول إشعياء "الله مصور النور وخالق الظلمة..." إنها ليست ملاحظة عابرة، إنها المفتاح للرسالة النبوية لإشعياء. وتسبق هذه الكلمات "أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي..خلقت كل شئ". الله لا يتخلى عن المسؤولية الكاملة عن العالم ولو للحظة واحدة. هو وحده إله الخليقة والنور والظلمة والخير والشر وهو الذي يبارك ويلعن. ولا يحدث أي شئ خارج نطاق الله..لا الجماهير الضخمة التي لم تسمع عن المسيح، ولا الفقر الشديد في العالم الثالث، ولا غرق طفل في الرابعة من عمره، ولا حتى فقدان جنين في شهره الثالث. حتى وإن لم يكن هو مصدرًا للشر، فإن الشر لا يستطيع أن يؤذي أحدًا خارج نطاق سيطرته. الله لا يهاب الشر بل يحتويه في خطته الإلهية للخلاص والبركة.

إن مبدأ الثنائية منتشر بين مفكري ما بعد الحداثة الذين توصلوا إلى النتيجة اليائسة أن الخير والشر، والفوضى والنظام تقرر التاريخ بطريقة متساوية. وليس لديهم أي أمل في تغيير الأشياء، وأن خبرات الحياة مأساوية، وليس هناك انتصار ممكن على الشر. والاختيار الوحيد الباقي هو ما بين الاحتجاج والاستقالة. ولكنهم بحاجة لأن يصفوا ثانية وبعناية لإشعياء الذي يُذكرنا بأنه يوجد إله واحد الذي يمتلك كل الحقيقة في نطاق قوته "أنا الله وليس آخر.."وليست هناك أية قوة أخرى للتوازن كما يقولون.

 

الطريق الثالث..الشر في يد الله

لكن نكون أمناء على تعاليم الكتاب المقدس نحتاج لأن نقاوم كل من الأحادية والثنائية. وبدلاً من ذلك يجب أن نتمسك بحقيقتين:

  • ·        صلاح الله الكامل: يوضح لنا يوحنا أننا نخطئ عندما نربط الشر مباشرة مع الله نفسه.
  • ·        الله كلي القدرة: لا يستطيع شئ الهروب منه. ولا شئ خارج نطاق سطانه. كما يوضح لنا إشعياء أن الشر لم يكن في خليقة الله كنوع من القنبلة الموقوتة، ومع أن الشر لم يخلق أو كان رغبة من الله، فإنه تحت سيطرة الله "لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ..." (أف 1: 10).

وعندما خلق الله الأرض والفضاء والنباتات والمخلوقات الحية وأول إنسان " وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا" (تك 1: 31). وبعد ذلك جاء الشر ليفسد كل خليقة الله الحسنة. وعندما أساء الناس استخدام الحرية التي أعطاهم إياهم الله وأساؤا الاختيار، تحول التاريخ إلى صراع بين الخير والشر. ولم نعد نرى خليقة الله كما أراد لها أن تكون "حسن جدًا". ولكن إشعياء يقول لنا أن الله كشف عن خطته للإنقاذ، ولإعادة الخلق، ولإنقاذ خليقته. وتشتمل خطة الله على كل من المعاناة والشر، وهذا الشر ليس جانبًا آخر لشخصية الله، وليس بالضرورة قوة مضادة مشتركة في معركة مع الخير، ولكن الله قد حول الشر لكي يكون نافعًا لنا. يقول الرسول بولس: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ" (رومية 8: 28).

لقد كشف الله عن حكمته السماوية وبُعد نظره عندما سمح بما لم يريده. إن الله يريد من الناس أن يجيبونه بكامل حريتهم من أجل عظمته وصلاحه فقط. ولكن خلق الناس ومنحهم حرية الاختيار يعني أن الله سمح لهم بإمكانية رفضه. هو لا يريد ذلك ولكن أعطاهم الحرية في الاختيار مع تحمل المسوؤلية والنتائج.

ومنذ أن وضح كالفن كيف أن "الله من أبعد حدود الأبدية وضع مرسومًا بما يريد أن يفعله" واعتقد معظم المؤمنين أن "مشورة الله الأبدية والتي لا تتغير هي" أن الله أمر وعمل بكامل حريته ما سيحدث. كما أن 39 مقالة من مقالات كنيسة إنجلترا تشير إلى "قصد الله الأبدي".

وبعد ان قرأت هذه الفكرة عن مشورة ورأي الله، وجدتها فكرة غريبة للغاية. فمثل هذه الفكرة عن الخطة الأبدية تبدو أنها ستدمر كل الحرية. وستجعل من التاريخ شبيهًا بفيلم فيديو خططه وأخرجه الله، وكل ما تبقى من عرضه. فكل شئ معد سابقًا. لقد ضل تفكير كالفن طريقه في هذا الاتجاه وتجاهلت "مشورة أو خطة" الله لأن بها نوع من التصميم النهائي. ولكنني الآن بدأت أن أفهمها بطريقة جديدة تجعلها مفيدة في مواجهة الأحادية والثنائية.

ففي خطة الله للخلاص كانت هناك أشياء لم تتوافق مع إرادة الله، أمور لا تعكس صفات الله في صلاحه ومحبته، ولكنها أمور لازال الله يستخدمها لتحقيق مقاصده الصالحة. وقد نُفذت خطة الله للخلاص من خلال تاريخنا المملوء بالفوضى والمعاناة. ولم يفقد الله السيطرة على هذه المشورة ولو للحظة واحدة، بل كانت دائمًا تحت السيطرة:

 

وضع الله بين يدي المسيح المثقوبتين كل من الخير والشر الذي يحدث في العالم. فالخير والشر لا يتعايشان معًا في الله، ولا هما قوتين معارضين يحاولان التوازن معًا. إن الله أبقى عليها في يده.

تستخدم نبوة يهوة إشعياء 45 كثير من الصور في الطبيعة – المطر والمحاصيل النباتية، النور والظلمة – ويطبق ذلك على نشاط الله المبدع في التاريخ. وتخبرنا هذه الصور عن ما يحدث في زماننا – عن مجئ وذهاب صدام حسين وجورج بوش وإسحق رابين وياسر عرفات، عن أورشليم وبابل. لقد أوجدهم الله لتحقيق خططه. إن الله فقط هو الذي يعمل، وهذا ما يقوله إشعياء.

أليس هذا أمر مدهش؟ إن الله وحده –إله إسرائيل- هو صانع وكانت التاريخ "أنا الله يهوه، ولا يوجد إله آخر غيري...(مز 85: 9-14)". وقد فسر كثير من أتباع كالفن "مشورة الله" بطريقة صارمة للغاية. أما إشعياء فيرى أن "مشورة الله" هي خطته فيما يتعلق بالمستقبل، كرؤيا تتكشف باستقرار ومعها نوع من الحرية والتفاعل الإنساني ذات المعنى. نعم، أنا أصدق في مثل هذا التفسير "لمشورة الله".

إنني أقبل هذه الطريقة الثالثة التي لا تُصدق كاختيار بديل يسمح لنا على معرفة الشر ومع ذلك ليس خارج سلطان الله تمامًا. إن لله خطة خلاص أبدية وغير متغيرة، والتي لم يصممها في الماضي بل في الحاضر ولها مستقبل نهائي أكيد أمام ناظريه. إنها خطة خلاص تستخدم كل الألم والمعاناة في العالم وتحولهم لكي يكونوا جزء من قصد الله المقدس والصالح، وتحول الألم الذي تسببه الخطية إلى الآم وضع ليعطي مولودًا جديدًا وهو ملكوت الله (رو 8: 22، مر 13: 8) وهذا الميلاد سيأخذ وقتًا إذ أنه يتقدم ببطئ. وفي نفس الوقت هناك الكثير من الأسرار ستظل غير معروفة. لقد قبل الله (أراد الله) ما لا يريده –حتى المعاناة- لكي يضع نهاية للمعاناة، وقبل الحرب ليمنع الحرب، وصلب المسيح ليوقف الموت.

تلك الكلمات غير المفهومة لإشعياء أصبحت كلمات إنجيل عندما يذكر اليهود بيومه لا ليوقف المعاناة التي سيعانوها، ولكن ليتذكروا أنهم خليقة الله. ويدعوهم الله ليطلبوا منه معرفة مستقبلهم، حتى يتمتعوا بثقة في أنفسهم وأطفالهم وعملهم:


"دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. لَقَّبْتُكَ وَأَنْتَ لَسْتَ تَعْرِفُنِي. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِله سِوَايَ. نَطَّقْتُكَ وَأَنْتَ لَمْ تَعْرِفْنِي. لِكَيْ يَعْلَمُوا مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنْ لَيْسَ غَيْرِي. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ. أَنَا الرَّبُّ صَانِعُ كُلِّ هذِهِ. اُقْطُرِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ مِنْ فَوْقُ، وَلْيُنْزِلُ الْجَوُّ بِرًّا. لِتَنْفَتِحِ الأَرْضُ فَيُثْمِرَ الْخَلاَصُ، وَلْتُنْبِتْ بِرًّا مَعًا. أَنَا الرَّبَّ قَدْ خَلَقْتُهُ. «وَيْلٌ لِمَنْ يُخَاصِمُ جَابِلَهُ. خَزَفٌ بَيْنَ أَخْزَافِ الأَرْضِ. هَلْ يَقُولُ الطِّينُ لِجَابِلِهِ: مَاذَا تَصْنَعُ؟ أَوْ يَقُولُ: عَمَلُكَ لَيْسَ لَهُ يَدَانِ؟" (إشعياء 45).

نحن أيضًا مدعوون للثقة بأنفسنا وبأولادنا وعمل أيدينا لله الذي وضعنا في خطة خلاصه الإلهية.

 

أمور مستقبلية

في روايته “The Lord of the Rings” يحكي لنا J.R.Tolkien عن جولُم Gollum الشرير الذي يساعد فرودو Frodo ليكمل رسالته. فينزع الخاتم من فرودو ويسقط في النار ويموت هو والخاتم الثمين معه. ويُنهي بذلك القوة الخانقة للشر ويُنقذ Middle-Earth وهذا يُذكرني أيضًا بما يعلمه الكتاب المقدس عن المعاناة إذ يقول في المزمور "نعم، حتى أرض الظلام سوف تعرف مجدك" (مز 68: 30-33؛ 87: 4). إنني بكل ثقة وأمان أضع مستقبل لأعمال الله لخلاصنا حتى وإن كانت غامضة وغير معروفة. إنني أطبع دعوته لاتباع البر لأنه في هذا العالم اكتسب (البر) معنى جديدًا وعميقًا: الله يستخدم كل شئ –حتى الشر- لكي يحقق خطته للخلاص.

نحن نعرف هذا من خلال الجلجثة والقيامة، وتحول الموت إلى انتصار واليأس أصبح أملاً. ولذلك عندما نثق في الله حتى أثناء معاناتنا فنحن نعمل معه في خطته العظيمة للخلاص لنا ولأولادنا.

الخلاصة

في وقت الألم والمعاناة، يستولى علينا اليأس ونجد أنه من الصعب علينا أن نؤمن. ومن المهم للغاية أن نبني بيوت حياتنا على الصخر قبل أن تأتي العواصف. وهذه الصخرة هي معرفة "مشورة" الله وخطته لخلاصنا ورغبته وإرادته لإنقاذ الخليقة الساقطة. ومع ذلك، فنحن نريد من يوحنا وإشعياء أن يكتشفا المعنى الخفي لخطة "ومشورة" الله للخلاص. وفي الطريق الثالث نرى أن هذه "المشورة" تعلو وتتفوق على كل من الأحادية (التي تُدنس اسم الله وتقول أن فيه يجتمع الخير والشر) والثنائية التي تحط من قدر اسم الله (التي تراه واحد من قوتين متساويتين وفي حالة صراع بينهما ولا أمل في النصر). إن الإله الذي يريد ما لا يرغبه، ويحول حتى الشر الذي يكرهه إلى أمر مفيد في خطته للخلاص، هو الإله الذي يمكننا أن نأتمن حياتنا بين يديه حتى أثناء معاناتنا. إن "مشورته" مضمونة في المسيح، لأن الله " لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ الذي هو الرأس" (أف 1: 10).

 

ويم ريتكيرك

من كتاب ليتني أستطيع أن أؤمن