بعض منهجيات الشفاء لاضطراباتنا النفسيّة المعاصرة

إريك فروم ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢

1- الاهتمام الجاد بالحياة

إن تركيز المرء على مشكلاته يجب ولابد أن يسير مع التوسيع والتشديد المتزايدين لاهتمام المرء بالحياة. وقد يكون الاهتمام بالفن، وبأشياء كثيرة، ولكنني أعتقد أنه يجب أن يكون كذلك بالأفكار. وأنا لا أعتقد أن هذا هو مجرد تسلية فكرية، وهذه هي إحدى المسائل التي لا أتفق عليها مع ألكسندر سترلاند Alexander Surtherland من سمرتشيل Summerchill، الذي وضع قليلاً من التأكيد على تشكيل العقل، وأنا لا أفكر كثيرًا في التشكّل الفكري الخالص للعقل، بل في إثراء العقل. ويصبح السؤال شديد الملموسية: ماذا يقرأ أي شخص؟ وبودي أن أقول إن على المرء أن يبدأ بالقراءة، وبقراءة الكتب المهمة، وبقراءتها بجدية. ولديّ الانطباع بأن المنهج الحديث في القراءة هو منهج توجّهه الفكرة القائلة بأن على المرء ألا يبذل الكثير من الجهد، فيجب أن تكون سهلة، ويجب أن تكون مختصرة، ويجب أن تكون ممتعة مباشرةً.

وحتمًا هذه أوهام كلها. فما من شئ مفيد يمكن أن يعمله المرء أو يتعلمه من دون أي جهد، ومن دون بعض التضحية، ومن دون تدريب. وكل الفكرة حول تعلّم العزف الموسيقي أو أي شئ آخر في ستة دروس سهلة هي مجرد انتزاع مال الناس من جيوبهم. وهي لغو كامل، ولكن هذه هي الروح التي تنتشر على ما أعتقد في كل السكان ولكن ليس في شكلها الخام، وعلى الرغم من أننا ننشر الكثير من الكتب، فإن عدد الكتب التي تُقرأ بجدية، وتُحدِث حقًا نُقرة في الشخص، وتُحدث تغييرًا في حياته، فأعتقد أنه عدد شديد الندرة اليوم. ولهذا فهنا مسألة كبيرة تتعلق بالطريقة التي يقرأ بها المرء، وماذا يقرأ.

وفيما يتصل بالقراءة فلا ريب أن المسألة الأولى هي أن الشخص يبدأ في تشكيل اقتناعاته، وامتلاك  القيم والتوجهات إلى ما يريد أن تسير عليه حياته. وإذا لم يفعل ذلك، فلابد أن يتخبط. ويبدو لي أن المرء لا يقرأ في الحقيقة أي شئ من الكتابات التي تشمل الحكمة في الحياة لأنه يظن أن عليه أن يكتشف ذلك بنفسه. وأعتقد أنها فكرة بالغة السخف والجهل، لأن اجتماع أعظم عقول العالم في شخص واحد واكتشاف المرء كل ذلك بنفسه، يُظهران حقًا أن المرء ليس جادًا. فذلك المرء ليس مولعًا باكتشاف الأشياء الكبيرة، والأشياء الجديدة، والأشياء المثيرة. ومع ذلك فإن جلّ الناس لا يحصلون على خبرة الإثارة الشديدة الموجودة في الاكتشاف، في رؤية شئ جديد أو بحث عن شئ جديد. ولكن المرء إذا لم يصل في النهاية إلى مفهومات للحياة، والتوجّه، والقيم، والاقتناعات، التي لا يضعها الآخرون في المرء بل هي نتيجة خبرة المرء، إلا أنه يلتقطها كذلك من القراءة النقدية الفعّالة والإنتاجيّة لكل ما لابد أن كان لدى المرشدين العظام للعقل الإنساني، فلا أعتقد أن المرء يمكن أن يصل أبدًا إلى الشعور بالأمن والشعور بالأمان، وإلى امتلاك مركز له.

إن تلك الفكرة كلها ليس اليوم فكرة على الدرجة الجديدة جدًا، لأن الناس سوف يعتقدون أن ذلك دوغمائئ، يقيني حازم، وأنه تسلّطي وسوف يعتذرون بحجة أنهم يريدون الاكتشاف بأنفسهم. وأساسًا فإنه لمن الهمجية التخلي عن التعلّم من الأشياء العظيمة التي أبدعها الجنس البشري. ذلكم هو الموقف في رأيي وهو غباء. ولكن المرء يحرم نفسه باسم الاستقلال، وباسم رفض السلطة، من أن يتغذى، من أن يتأثر، من أن يُروى، ومن الحصول على ضياء الشمس، ومن كل ما يحتاجه العقل الإنساني لكي ينمو. ويمكن أن يكون المرء نباتيًّا فيما يتعلق بالطعام، ولكنه إذا كان نباتيًّا فيما يتعلق بالغذاء العقلي والروحي ورفض معظم ما هو موجود، فإن عقله سيجف إلى حد كبير.

 

2- تعلّم التفكير النقدي

إن المسألة الأساسية الأخرى هي في رأيي التفكير بطريقة نقدية فالتفكير النقدي هو السلاح والدفاع الوحيدان اللذان يملكهما المرء ضد الأخطار في الحياة. إذا لم أفكر نقديًّا فأنا عرضة لكل التأثيرات، ولكن المقترحات، ولكل الأخطاء، ولكل الأكاذيب المنتشرة، التي أتلقّنها من اليوم الأول فصاعدًا. ولا يمكن للمرء أن يكون حرًّا. ولا أن يكون ذاته، ولا أن يكون له مركز في ذاته ما لم يكن قادرًا على التفكير نقديًّا –وإذا أردتم- كليًّا.

ويعني التفكير النقدي أن يُصبح المرء مُدركًا كما يمكن أن يُظهر الأطفال: فالأطفال يظلون أكثر نقدية بكثير من البالغين. فعندما يرى الطفل أمه قد قالت للسيدة س: "آه، كم رائع أن أراك" وتتظاهر بكل هذا الكلام، ثم قالت لزوجها بعد أن غادرتها السيدة س: "آه، الحمد لله أنها ذهبت" يرى الطفل هذا التباين وقد يجرؤ بعد على السؤال إلا أن تفكيره النقدي حينئذ يجري تطريقه خطوة بعد خطوة. وسواء كذبت الأم أو غضبت أو حزنت أو قالت: "أنت لا تفهم ذلك" فكهذا يغدو التفكير النقدي للطفل مختنقًا ببطء حتى لا يَرِد إلى ذهنه مزيد من الأفكار النقدية.

والتفكير النقدي هو المقدرة الإنسانية الخصوصية. وأن أُفكر احتياليًّا –أي أن أُفكر كيف أحصل على هذا أو ذلك، وماذا أفعل لأحصل عليه- فإن قرود الشمبانزي تقوم بذلك على أحسن وجه. فلقرود الشمبانزي، وفي الحقيقة للحيوانات، ذكاء احتيالي ممتاز. وفي الاختبارات حلّت قرود الشمبانزي ألغازًا لم أستطع أن أحلها ولم يستطع ذلك الكثيرون من الناس الآخرين وهم كذلك شديدو التعقيد. ومرة أخرى أود أن أقول، من وجهة نظر بيولوجية خالصة، كلما كنت أقرب إلى الواقع كنت أقدر على أن أعيش حياتي بصورة تفي بالمطلوب. وكلما كنت أقل اقترابًا إلى الواقع، ازدادت الأوهام التي لديّ، وكنت أقل قدرة على أن أتعامل مع الحياة بطريقة وافية بالمراد.

وقد قال ماركس ذات مرة كلمة يمكن أن تكون كذلك شعار التحليل النفسي: "إن المطالبة بالتخلي عن الأوهام حول ظرفه هي المطالبة بالتخلي عن الظرف الذي يحتاج إلى الأوهام" (K. Marx, Mega I, 1, 1, PP.607-08) وذلك يعني أنه بعدم تخلّص المرء من الأوهام يحافظ على حياة الظروف التي هي غير صحيحة ولا يمكن إلا أن توجد وتستمر لأن المرء تصنع بنفسه كل هذه الأوهام.

وليس التفكير النقدي هواية، وإنما هو مَلَكة. وليس التفكير النقدي شيئًا تستخدمه بوصفك فيلسوفًا ثم عندما تكون فيلسوفًا تفكر نقديًّا، ولكنك عندما تكون في البيت تتخلى عن تفكيرك النقدي، تخلعه. إن التفكير النقدي خصيصة، مقدرة، مقاربة للعالم ولكل شئ؛ وهو على الإطلاق ليس نقديًّا بمعنى العدوان، والسلبية، والعدمية، بل على العكس يقف التفكير النقدي في خدمة الحياة، في خدمة إزالة عقبات الحياة التي تشلّنا وإزالتها فرديًّا واجتماعيًّا.

ويحتاج التفكير النقدي إلى الشجاعة إذا كان المرء يعيش في عالم يُوجد فيه. ولكن على المرء ألا يُغالي في تقدير الشجاعة التي يتطلبها التفكير النقدي. وأنا حتى الآن لا أتحدث هنا عن الكلام النقدي أو العمل النقدي. فالتفكير نقديًّا ممكن حتى بالنسبة إلى الإنسان الذي يعيش في حكم ديكتاتوري. إذا لم يُرد أن يُجازف بحياته فيمكن ألا يتكلم نقديًّا، ولكنه يمكن أن يُفكر نقديًّا. ومع ذلك فإنه سوف يشعر بأنه أسعد وأشد حرية من الإنسان الحبيس في أفكاره والأسير لنظام فكري لا يؤمن به. وبوسع المرء أن يكتب مجلدات حول صلة التفكير النقدي بالصحة الذهنية، والعصاب، والسعادة. ولو تكلمّت الفلسفة عمومًا بطريقة موجهة إلى الشخص ad persona أكثر، أي بمزيد من الإشارة إلى ما تعني الفلسفة في حياتي وحياتك، لكان التفكير النقدي بالفعل ولكانت الفلسفة وبصورة أشد وضوحًا بكثير مجالاً ذا أهمية شخصية عظيمة. وسواء تعاملت مع سقراط أو كانت أو سبينوزا، فالمسألة الأساسية هي أنهم يعلمونك التفكير النقدي.

 

3- معرفة المرء ذاته وإدراكه لا شعوره

أود أن أذكر ثلاث مسائل أخرى هي إضافات شديدة الأهمية إلى المناهج التحليلية النفسية الكلاسيكية من أجل شفاء عصاب الطبع الحديث. والمنهج الأول هو إدراك المرء لا شعوره. وهذه الكلمات ذاتها لا تعني شيئًا على الإطلاق عندما تُستخدم بالمعنى العقلي الخالص. فمن السهل اليوم القول: إدراك ذاتك، شعورك ولا شعورك –فتلك هي الشعارات الآن. فحتى أقذر قضية تجارية خسيسة تستخدم شعار دلفي "اعرف نفسك" ولهذا تغدو هذه الكلمات مفهومات نظرية خالصة في الدفاع.

ولو فكر المرء فيما تعنيه هذه الكلمات أو تكلم عنها، لأضحى كل هذا حيًا. وفعلاً فإن الأمر ذاته يكون عندما يرى لوحة فنية. فإذا نرت إلى لوحة لرامبرانت –وأنا أذكر لأنه واحد من رسامّي الأثيرين- فإنك يمكن أن ترى اللوحة ذاتها مائة مرة وتكون جديدة في كل مرة، فهي منعشة دائمًا، تحييك وأنت تحيي اللوحة لنفسك. ولكنك يمكن أن تمر بها مُبديًا ملاحظة: "آه رامبرانت، الرجل ذو الخوذة" ثم تسير إلى اللوحة التالية، لقد شاهدتها، حسنًا ولكنك لم ترها.

ويصدق هذا الأمر على العلاقات الشخصية. من يرى شخصًا آخر حقًا؟ يكاد لا يراه أحد. فنحن راضون وسعداء بأن نرى مظاهرنا الخارجية فقط. وذلكم هو السبب في أن اتصالاتنا فقيرة، فقيرة تمامًا، ويكاد لا يوجد ما هو ضد هذا الفقر في الاتصال، إذ يطمسه نوع من الرفقة والمودة والابتسام، والابتسام، الابتسام.

والسؤال اللاحق هو: ماذا يعني أن يعرف المرء نفسه؟ إن معرفة المرء نفسه لا تعني مجرد إدراك ما نفعله بل أن نصبح مُدركين ما هو اللاشعور بالنسبة إلينا، وماذا لا نعرف. وكان الاكتشاف العظيم لفرويد أنه أثبت ذلك وجعله واضحًا جدًا، ربما أشد وضوحًا مما كان في أي وقت، فوسّع بذلك مجال معرفة المرء لنفسه كثيرًا. كانت "معرفة المرء نفسه" قبل مائة سنة تعني اساسًا معرفة كل شئ نعرفه عن أنفسنا. واليوم تعني معرفة أنفسنا بقدر ما نُدرك أنفسنا وبقدر ما نحن غير مُدركين لأنفسنا؛ وذلك يعني إبانة القطاع الأكبر من حياتنا النفسية –أي القطاع الي يعمل منفصلاً عن التفكير الشعوري العادي، ذلك القطاع الذي يظهر على خشبة المسرح في الليل حين نحلم، أو في حالة الذهان حين نهلوس.

ويمكن كذلك أن تصف ذلك بطريقة مختلفة. فمعرفة المرء ذاته في هذا البعد الجديد، في هذا البعد الثالث لحياة المرء اللاشعورية، تعني أن تكون حرًّا أن تكون متيقظًا والحقيقة هي أن معظمنا نصف نائمين حين نعتقد أننا يقظون. ونحن فعلاً لسنا يقظين إلا بما يكفي لإنجاز المهمات الضرورية لكسب الرزق؛ وقد حلّت لعنة اليقظة على بعض الناس بخصوص ذلك. ولكن من أجل مهمة أن نكون أنفسنا، من أجل المهمة التي تتجاوز تلك الوظيفة الحيوانية، والإحساس بأنفسنا، ومن أجل المهمة التي تتخطى العمل –وأن نكون آلة تغذية وحب- من أجل هذه المهمة نحتاج إلى استبصار آخر، أفضل من الاستبصار الذي لدينا منه ما يكفي في حالة نصف اليقظة. وإذا أخذتم في الاعتبار أن كلمة البوذا the Buddha تعني "الواحد المتيقظ"، صار لديكم التعبير الرمزي عما أحاول أن أقول. والشخص المدرك حقًا ذاته، الذي ينفذ من السطح إلى جذور وجوده هو المتيقظ.

وإذا نظرنا إلى حياة جل الناس، فإنه لغريب كم هم أنصاف نائمين. لا أحد يعرف من لا شئ، لا أحد يعرف ماذا يريد أن يفعل، وما هي العواقب. والناس، ما داموا يعالجون مشكلات وجودهم الإنساني، فهم جهلة. وعندما يعالجون مسائل العمل، فهو يعرفون معرفة جيدة جدًا. وعندئذ يعرفون كيف يترأس المرء، وكيف يحتال المرء على الآخرين وعلى نفسه. ولكن عندما يصل الأمر إلى مسألة الحياة فهم أنصاف أيقاظ أو أقل من أنصاف أيقاظ.

وأود أن أنقل ما لديّ من الانطباع حول التيقّظ على أساس خبرتي، والذي أود من المهتم أن يكون لديه حول نفسه وحول الناس الآخرين. ويستغرق زمنًا إدراك هذه الحالة من نصف التيقّظ، حتى يعتقد الناس أنهم متيقّظون على أوسع مدى. وفي الواقع فإن المفارقة أننا نكون أكثير تيقّظًا لأنفسنا ونحن نيام منا ونحن أيقاظ. فعندما نكون نائمين أو عندما نكون مجانين، وعلى الأقل في بعض مراحل الجنون، فإننا بالفعل نكون مُدركين للغاية أنفسنا بوصفنا ذواتًا. بوصفنا أشخاصًا يشعرون، بوصفنا أُناسًا؛ ولا يظل هذا الإدراك منفصلاً إلى عن الحياة الخارجية. وهو لا يوجد إلا في الظلام، أو إذا تحدثنا بيولوجيًّا، ما دام الكائن الحي متحررًا من وظيفة الاحتيال على العالم، أو دفاعه عن نفسه، أو انشغاله بالبحث عن الطعام.

ولكننا حالما نستيقظ نذهب إلى النوم. وعندئذ نفقد كل التبصّر، وكل اليقظة من أجل العمليات الأدق لشعورنا ومعرفتنا. ونكون نيامًا إلى كل شئ، وتلك هي الطريقة التي نعيش بها. أليس من العجب أن الناس لا يفهمون حياتهم إلا قليلاً جدًّا؟ وأن الناس أشقياء في غمرة الوفرة؟ وأن الناس الذين يملكون كل شئ من شأنه أن يكون ضروريًّا ليجنوا من الحياة أفضل ما يمكن أن تمنحهم الحياة، يتخبّطون، وهو أشقياء، ممتعضون، ويكون لديهم في نهاية حياتهم على الأغلب إحساس مرير وحزين جدًّا بأنهم قد عاشوا ومع ذلك لم يكونوا أحياء؟ وأنهم كانوا يقظين ولكنهم لم يتيقّظوا أبدًا؟ ذلك ما يعني أن يُدرك المرء ذاته.

وليصير المرء مُدركًا لا شعوره فإنه لا يحتاج إلى أن يُحلّل، ولا يحتاج ليعيش التجربة حقًّا إلا إلى بعض الاهتمام وبعض الشجاعة. على المرء أن تكون لديه الشجاعة، مثلاً ليّخبُر: "اعتقدت في سنوات كثيرة أنني أحب هذا الرجل وظننت أنه إنسان محترم وأرى فجأة أن ذلك ليس صحيحًا على الإطلاق. إنني لم أحبّه أبدًا، وكنت أعرف دائمًا أنه ليس إنسان محترمًا".

ومن الغرابة بمكان أننا نعرف ما نكبت. وفي الحقيقة لا توجد كلمة لهذه المعرفة التي لدينا، لهذا الإدراك الذي لدينا عن الأشياء التي كبتناها. إنه ليس "ما قبل الشعور" بالمعني الفرويدي، ولا ريب، لأن ما قبل الشعور شئ قريب من الوعي. ولكنه ليس مكبوتًا، بمعنى أنه كذلك منفصل عن نظامنا ولا ريب أنه يكون محميًّا في الكثير من الأحيان من خلال ما يدعوه المرء المقاومة، ولكن من الغرابة بمكان أنك تجد في الكثير من الأحيان كذلك أن الشخص قد يرى شيئًا ما، ويمتلك تبصرًّا وفجأة يعرف: "ولكنني عرفت ذلك كل الوقت، عرفت ذلك طيلة حياتي. إنه ليس جديدًا حقًّا. لقد عرفته وفي الوقت ذاته لم أعرفه".

توجد هذه الظاهرة الإدراكية التي هي ليست شعورية وليست لا شعورية بصورة كليّة. ولهذه الظاهرة نتائج حتى بالنسبة إلى التقنية التحليلية النفسيّة. ويتحدث المرء كثيرًا عن مقاومة المريض. وذلك مسَّوغ تمامًا والمقاومة، بوصفها حماية من شئ نخاف أن نُدركه، قوية جدًا. ولكن في الكثير من الأحيان، إذا أخبر المعالج المريض/المستشيربشيء، مثلاً، يراه من فوره: "هذا ما أراه، وأنا لا أستطيع أن أُثبت ذلك لك ولكن هذا ما أسمعه" فإنه لن يكون نادر الحدوث أن يقول المريض: "أوه، أنت على حق، إني لم أعرف ذلك، ولكنني عرفته أيضًا". وعندما يُعبّر عن هذا البثّ شخص غيره بقوة، ووضح، وبصدق كاف لا بلغة أُخيوليّة أو مفرطة في النظرية، فقد يقول الشخص: "آه يا سيدي، أجل، هذا أنا، هذا صحيح، هذا حقيقي".

وتعتمد مسألة كم من المرات يحدث ذلك على عمق المقاومة. فإذا كانت المقاومة ضخمة فإن ذلك لا يُسعف. ولكن في تلك الأحوال حيث لا تكون المقاومة ضخمة ولكن الحصن لا يدافع إلا دفاعًا خفيفًا، فمباشرةً قد يظهر إدراك شئ هو اللاشعور، والإحساس به، في حين قد يستغرق فحص تلك المقاومة وقتًا أطول إذا لم يستطيع المعالج أن يعلن أولاً وبصورة مباشرة: "اسمعني الآن، هذا ما أراه". إنها مسألة براعة من المعالج أن يعرف متى يستطيع أن يعرف ذلك، أو متى لا يستطيع. وفي بعض الأحوال لا يكون ثمة اختلاف لأنه لو كانت المقاومة كبيرة جدًّا لأجاب المريض: "حسنًا، ما تقوله واضح بما فيه الكفاية" وذلك هو ذلك. وفي بعض الأحوال يكون ذلك خطرًا لأنه على الرغم من أن المريض/المستشيريقول: "لا، ذلك كله هراء، هنا". يكون في لا شعوره شئ يستجيب لذلك ولا تكون استجابته ببساطة من قبيل "هذا هراء". وفي اليوم التالي أو بعد ساعة يُصاب الشخص باكتئاب بالغ الشدة، لأنه لم يستطع أن يتحمل هذه الحقيقة المفاجئة. والآن، إذا كان هذا الشيء الكلي مكبوتًا، فلماذا يستجيب بتلك الطريقة؟ إن شيئًا ما فيه قد سمع ذلك.

إنه لمن الملائم لنا شخصيًّا أن نفكر على الدوام: "إذا كنت لا أُدرك ذلك، فهو مكبوت، وإذا كان مكبوتًا، فربما كان عليّ أن أذهب إلى محلل نفسي مدة سنة، وإذا كنت لا أستطيع القيام بذلك أو لا أريده، تركته وحده". ولكن الأمر ليس بتلك البساطة. وإذا درّبت نفسي أن أكون حساسًا تجاهه، وقد أكتشف شيئًا عنه، ومن دون عون حتى من المعالج قد أكتشف يومًا: "آه، إن ذلك ليس كما أعتقد تمامًا".

والحساسية ضرورية لإدراك أن لا شعور المرء معروف لنا: إذا كنا، مثلاً، نسوق سيارة، نكون حساسين للغاية تجاه ضجة السيارة من دون التفكير فيها. فنلاحظ أدق ضجة، وأدنى اختلاف. ونستطيع أن نفكر في شئ مختلف كل الاختلاف، وأن نكون مركّزين تمامًا على المشهد الذي أمامنا –ولكن إذا كان هناك أدنى تغيّر في مستوى الضجّة، أو في نوعية الصوت، فإننا نُدرك ذلك.

 

4- التركيز والتأمل

إن المنهجين الآخرين هما ممارستا التركيز والتأمل، وهما أمران يتمان بانتظام وتدريب شديد، فعلى المرء أن يقطع الحياة التي يتأثّر فيها بآلاف وآلاف الانطباعات والمثيرات، وأن يعيش تجربة وجوده مع نفسه في هدوء وسكون. ولا يوجد التركيز في الأزمنة الحديثة إلا قليلاً. فالناس مشتّتو الذهن. فأنت تستمع إلى المذياع وتتحدث في الحين ذاته وتقوم بثلاثة أمور في وقت واحد. وحتى حين تصغي إلى محادثة، فإنها تفتقر في جل الأحيان إلى صفة التركيز هذه.

ومما لا ريب فيه أن تعلّم المرّء التركيز، وأن يكون مركّزًا على كل شئ يقوم به، هو شرط لأي نوع من الإنجاز، في أي مجال. ويمكن أن يقال من دون أي شك إن أي إنجاز، سواء أكان ذلك أن تكون نجارًا ماهرًا، أم طاهيًا جيدًا، أم فليسوفًا مهمًا، أم أن تكون مجرد ممتلئ بالحياة، يعتمد كليًّا على القدرة على أن تكون مركّزًا حقًا. والقول "مركّز حقًا" يعني أنه لا يوجد في تلك الآونة شئ في ذهنك إلا ما تفعله وأنك تكاد تنسى كل شئ سواه. وتلك هي كذلك ماهية المحادثة في أي شئ جدير بالتحدث عنه إلى شخص آخر.

وفي تلك الآونة يكون الشخصان اللذان يتحدثان مركّزين على ما يتحدثان به. ويركّز بعضهما على بعض.

وقد قدّمت الطبيعة مثالاً بطريقة من الطرق، لأن الفعل الجنسي مُحال من دون الحد الأدنى من التركيز. وإذا فكر الناس في أمور أخرى وفي سوق الأوراق المالية، فإنهم لن ينجحوا في المجامعة لأنها بطبيعة الحال يكون فيها قدر معيّن من التركيز الضروري حتى تؤدّي الوظيفة. ولكن ذلك هو مجرد إشارة خفيفة أعطتها إيانا الطبيعة، إذا جاز التعبير. ولكن لا يفهم جلّ الناس تلك الإشارة. فهم في علاقاتهم لا يركّزون.

خذ مثلاً شيئًا بسيطًا: العادة الأمريكية بعدم دعوة شخص أو شخصين، بل دعوة أربعة أشخاص أو ستة على الأقل. إنهم يقومون بذلك لأنهم خائفون من أن يكونوا وحدهم مع اثنين آخرين، خائفون من القرب أو التركيز الممكن الذي يقتضيه ذلك. ولكن إذا كان هناك ستة أشخاص فلن يكون ثمّة تركيز حقًا، ويتحدث المرء عن هذا –وهو مثل سيرك كبير ذي ثلاث حلقات. وإذا كنتم عشرة أشخاص، كان اللقاء حتمًا من دون تركيز أبدًا. وحين يتحادث شخصان –ولو تحادثا قليلاً أو كان حديثهما عن شئ بسيط للغاية، فإذا كان هذا التواصل في تلك الآونة عينها حقيقيًّا –فإنه ليس ثمّة ما هو أهم من أن يتحدث المرء إلى الآخر. وإلى الحد الذي لا يكون ذلك موجودًا، فلا شئ يحدث حقًّا.

وللبدء بممارسات التركيز فإن الشيء الأبسط هو مجرد أن تقعد وتغمض عينيك وتحاول ألا تفكر في أي شئ وأن تقتصر على الإحساس بتنفّسك. ومتى ما فكرت في تنفّسك فإنك لا تحسّ به؛ أي لا يكون جسدك مُدركًا تنفسك. وإذا ما بدأت التفكير، فإنك لن تعود تُدرك تنفّسك، لأنك تكون عندئذ تفكر في تنفّسك. ويصدق ذلك عمليًّا على كل التجارب. فمتى ما فكرت فيها، فإنك تتوقف عن خبرتها.

وأُقدم مثالاً بسيطًا على الاختلاف بين التفكير والخبرة: إن الراقصة تتذكر حركة الرقص، ولكنها لا تتذكرها في رأسها. إن جسد الراقصة يتذكرها، فذاكرتها في جسدها. ومما لا شك فيه أن الذاكرة تظل في الدماغ، ولكن الأمر هو أنها لا تفكر في الحركة التالية؛ وفي الحقيقة إنها إذا بدأت في الرقصة المعقدة تفكر ما هي الحركة التالية فإنها تضيع. إن جسدها يُدرك الحركة وله ذاكرة رائعة. ويصدق الأمر على القطعة الموسيقية المدوّنة، فأنت لا تعرف ماذا يأتي، أنت تسمعه؛ ذاكرتك هنا، ولكنها ليس في الفكر. ومن الواضح حقًّا ماذا تعني الخبرة ولكن الناس ينسون على الأغلب أشد الأشياء وضوحًا.

وعندما تحاول أن تقعد وألا تفكر في أي شئ، فسوف تجد أن ذلك صعب إلى حد ما، صعب جدًا. وسوف تجد أن أمورًا كثيرة تردُ إلى ذهنك. فتفكر في الكتب، وفي كل شئ. وهذا يعني أنك لا تركّز، لأنه تجذبك أو تشتت ذهنك أمور كثيرة. ويمكنك بعدئذ أن ترى ما هي الأفكار التي تردُ إلى ذهنك. وماذا في ذهنك حقًّا. إن ذلك شئ ظريف من التحليل الذاتي. ثم تفكر في مهنتك، أو في هذا وذلك وما تقوم به. سوف تجد أن تلك الأمور تدخل في ذهنك وهي مهمة بالنسبة إليك نوعًا ما، لا بصورة مباشرة غالبًا، بل غير بمباشرة.

عليك أن تحلل كل ما يرد إلى ذهنك. إن تعلمك أن تكون مركّزًا هو مسألة ممارسة. إنك تقعد –ولنقل- وتنظر إلى هذه الأزهار. إنك تقعد هناك خمس دقائق، عشر دقائق، وأنت لا تقوم إلا بالنظر إلى هذه الأزهار. وعندما تأتي الأفكار، وعندما لا تكون مُثارًا ومنتعشًا تقول: "يا إلهي: لا أستطيع أن أفعل ذلك". ولكنك تقول: "حسنًا، من الطبيعي أن تأتي". وعندما تكون قد قمت بذلك أسبوعًا، أربعة أسابيع، أربع سنوات، تكون تعلمتَ أن تركّز.

 

 5- تحليل المرء نفسه

أخيرًا، أود أن أذكر التحليل الذاتي. إن التحليل يتكلل بالنجاح عندما يبدأ الشخص بتحليل نفسه كل يوم ما بقى من عمره. والتحليل الذاتي بهذا المعنى هو إدراك المرء الدائم الفعّال لنفسه طوال حياته، ليكون مدركًا ذاته، ويزداد إدراكًا لها، ولبواعثه اللاشعورية، ولكل شئ مهم في ذهن المرء، وأهدافه وتناقضاته، وتبايناته. ولا يسعني شخصيًّا إلا أن أقول إنني أحلل نفسي كل صباح –تحليلاً يجمع بين ممارستي التركيز والتأمل- ساعة ونصف الساعة، ولا أريد أن أعيش من دون ذلك. وأرى أن هذا الأمر من أهم الأمور التي أقوم بها. ولكن ذلك لا يمكن أن يتمّ من دون الجدية الكبيرة ومن دون إيلائه الأهمية التي يستحقّها. ولا يمكن أن يتم التحليل الذاتي بوصفه هواية مرة من طول لازمان أو حين يكون لدى المرء خاطر في ذلك. وكل الأمور التي يقوم بها المرء حين يكون له خاطر ليست جيدة، حقًّا. ولا يصبح أحد عازفًا ماهرًا بآلة البيانو بتدربه على السلّم الموسيقي حين يكون له خاطر. ولا يكون للمرء خاطر التدرب على السلّم الموسيقي ومعظم الناس ليسوا في حالة نفسية ملائمة للتدرّب على السلّم الموسيقي. وهناك أمور كثيرة في الحياة، إذا أراد المرء حقًّا أن يقيم للحياة وزنًا، على المرء أن يقوم بها لا لأنها في ذاتها مترعة بالمتعة بل لأنها ضرورية لأمور أخرى.

وأنا أقصد تطبيق هذا على التحليل والتركيز والتأمل؛ فهذا ليس تدريبًا على السلّم الموسيقي، بل على الضد، هذا نشاط ممتع للغاية بأعمق معنى للكلمة، إنه نشاط شديد الإرضاء. ومن الواجب تعلّمه وممارسته، وإذا لم يُحلّل المرء فالأمر أصعب. وأعتقد أنه يمكن أن يتم كذلك إذا لم يحلّل المرء. ولكن إذا كان المرء تعاني من صعوبات قاسية، فهو شديد الصعوبة، ويكاد يكون مستحيلاً، لأن المرء يكون حبيس مشكلاته، والمقاومات شديدة جدًّا. والمسألة هي أنه إذا أراد المرء أن يحلل نفسه، فيجب أن تكون المقاومات الأساسية قد انكسرت شوكتها. وذلك يعني أنه إذا كانت في حياتي أمور تقف ضد الإدراك الذي تُوجد له مقاومة ضخم، فلا ريب أنني لا أستطيع أن أُحلل نفسي لأنني سأقنع نفسي بالتبريرات وما إليها أن الأمر ليس كذلك. ولهذا هو ذلك ممكنًا. ومنها مثلاً الوضع الذي يعيش فيه المرء، وقوة الرغبة في بلوغ حياة أسعد حقًّا. وممارسة التحليل الذاتي تكون أسهل إذا ما حُلّل المرء. ومهما يكن، فإذا لم يتركز التحليل إلا على مشكلات المرء في الطفولة بل تناول حياة المرء الكليّة على اساس وجوده الكلّي: أين موضع الإنسان في الحياة، وما هي الأهداف الأساسية للمرء –التي هي لا شعورية غالبًا- وما هي الغايات الحقيقية التي للمرء، أو هل يفتقر إلى الغايات الحقيقية. إذا كان لديك هذا النوع من التحليل، فإن الأمر أسهل بكثير. وكتاب كارين هورني Karen Horney عن التحليل الذاتي مثير للاهتمام، ولكنني لا أعتقد أنه مسعف كثيرًا، أو مسعف كفاية، لأنها تقوم بالتحليل على أساس معرفتها التحليلية.

ولا محالة من أن يكون التحليل الذاتي بسيطًا، وهو يمكن أن يكون بسيطًا. فتُخصّص كل يوم نصف ساعة؛ ويمكنك أن تسير، وتمعن النظر في سيرك وتفكر، مثلاً: "كنت بالأمس متعبًا. وقد نمت نومًا كافيًا، فلماذا كنت متعبًا؟" ولعلك تكتشف بعدئذ: "كنت في الحقيقة قلقًا". وعندئذ يمكن أن تستمر وتسأل نفسك: "لماذا كنت قلقًا؟" وقد تهتدي إلى أنك كنت غاضبًا حقًّا. أو لديك صداع وقد تسأل نفسك دائمًا – "مما أنا غاضب؟" وغالبًا ما يزول الصداع إذا اكتشفته. وهناك صُداعات قليلة لا تزول لأن لها أسبابًا عضوية. والمشهور أن الصداع النصفي (الشقيقة)، مثلاً، مسألة غضب مكبوت، غضب وعتب مكبوتين دائمين، ويسبّبان في الوقت ذاته توتّرًا للمرء. وللكثير من الأمراض الجسدية – النفسية تلك الوظيفة.

ولتحليل نفسك عليك أن تسأل نفسك أسئلة عامة من قبيل: "ماذا حدث في طفولتي". وستخطر لك الأشياء متى ما بدأت تسأل نفسك أسئلة بسيطة، محاولاً اكتشاف ما تشعر به حقًّا. فعلى سبيل المثال إذا قابلت شخصًا فقد تسأل نفسك: "بماذا أشعر حقًّا". ومن شأنك أن تقول شعوريًّا إنك تحب ذلك الشخص، ولكن قد يكون في ذاكرتك شك صغير، والتحليل الذاتي يعني أن تأخذ وقتك، وتكون مسترخيًا، وتبدأ الشعور. وهذا الأمر ليس مسألة تفكير، بل اختبار لأحاسيسك: "بمّ أحس حقًّا؟" وقد تكتشف أنك تمقت هذا الشخص كثيرًا أو أنك خائف من هذا الشخص. أو أنك لا تبالي به البتة، فقد كنت ظريفًا، مبتسمًا، وتحبه لأن هذا الشخص يُفترض أن يكون مهمًا أو يؤثر فيك لقبه أو شئ من هذا القبيل، أو لأنه شقيق أمك أو شئ يقرب من ذلك، أو مهما كانت الأسباب. وأود أن أقول، إن من يحاول أن يبدأ ببساطة شديدة، لا بخطط كبيرة، ولا بنظريات كبيرة، بل بمنتهى المباشرة والبساطة ليخصّص كل يوم لمجرد محاولة الشعور والإحساس بما جرى فيه البارحة –سيتعلّم باتئاد كميات كبيرة من الأمور.

ويقول جل الناس إنه ليس لديهم الوقت لذلك. وإذا كان هذا الأمر شديد الأهمية، فإن هذا التبرّم من الوقت سينتهي سلفًا لأنه من الطبيعي أن يكون بإمكان المرء توفير الوقت له. وعندما يقول المرء: "ليس لديّ الوقت" لأمر ما، فذلك قرار سلفًا. وهو تعلّة لقرار يعني أنه ليس مهمًا. وإذا كان عليك أن تكسب مالاً فإنك لا تقول: "ليس لديّ الوقت للذهاب إلى العمل". لأنك تعلم أن ستُفصل من العمل ولن يكون لديك شئ تأكله ما لم ينقذك أبواك. وإذا حاولتّ التحليل الذاتي، ومارسته وأصُبت بالمرض، فإنك سوف ترى أن بعض الأمور تحدث وستغدو أكثر استقلالاً وحرية، لأنك لا ترمي كل شئ على أحد سواك. إنّ للمرء مقدرة معينة على احتواء الأشياء في نفسه، بدلاً من التسريب الدائم.

وكتابة اليوميات بخصوص التحليل الذاتي يجعل التحليل الذاتي غير حيوي بعض الشيء. ولا ريب أن المرء إذا دقّق النظر فيها كل يوم، فقد تكون مسعفة. وأعتقد أن الأمر الجيد هو أن يدوّن المرء أحلامه وأن يرى ما هي الحقيقة. ويجب أن يكون هناك محللون نفسيون يجعلون ممارستهم هي مجرد أن يكونوا مفسرين للأحلام لا معالجة الناس تحليليًّا. وعلى الشخص أن يكون قادرًا على تدوين أحلامه مدة من الزمن، وأنا أوصي المستشيرين كثيرًا بأن يجعلوا من ممارستهم أن يكون بوسع الشخص أن يأتي إليهم مرة كل أربعة أسابيع ومعه أحلامه وأن يطلب من المعالج مساعدته على تفسير هذه الأحلام. ويمكن أن يُقدّم المريض/المستشير هذا بعد الساعتين الأوليين أو الساعات الثلاث الأوائل وبذلك يعرف المعالج عمن يتحدث وما هو وضعه، ولكنه عندئذ يأخذ الدور بوصفه مفسرًا للأحلام بكل بساطة. وأعتقد أن ذلك سيكون منهجًا جيدًا جدًا، لأن الكثيرين من الناس الذي لا يحتاجون إلى أشد المساعدة تمكن مساعدتهم بذلك كثيرًا على تطورهم الذاتي بتحليل أحلامه. وثمّة فائدة كبيرة كذلك وهي أن الشخص لا يصير متّكلاً على المعالج، بل يظل معتمدًا أو تظل معتمدة كليًّا على نفسه أو نفسها.

 

إيرك فروم

من كتاب: "فن الإصغاء"