دين المجتمع

إريك فروم ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

اتخذ التطوران الديني والفلسفي بعد العصور الوسطى مسارًا معقدًا لا مجال لعرضه على صفحات هذا الكتاب، وإن كان يمكن أن نقول إنه تميز بالصراع بين معتقدين:

المسيحي بتقاليده الروحية الذي اتخذ أشكالاً دينية وفلسفية متنوعة، والوثني بتقاليده الصنمية اللاإنسانية الذي اتخذ أشكالاً عديدة أثناء تطور ما يمكن أن نسميه "دين التصنيع والعصر السيبرناطيقي (Cybernetics = علم الضبط والتنظيم الفعال)" كانت إنسانية عصر النهضة أول ازدهار عظيم للروح الدينية بعد انتهاء العصور الوسطى، وكانت استمرارًا لتعاليم العصر الوسيط المتأخر. وفيها انطلق، بغير عائق، التعبير عن أفكار الكرامة الإنسانية ووحدة الجنس البشري، والتطلع إلى الوحدة الدينية والسياسية للعالم، ثم جاء عصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر ليكون ازدهارًا عظيمًا آخر للمبادئ الإنسانية. وقد بين كارل بيكر Carl Becker 1932 إلى أي حد عبرت فلسفة التنوير عن "الموقف الديني" الذي نجده عند المفكرين اللاهوتيين في القرن الثالث عشر الميلادي، حيث يقول: "إذا فحصنا أساس هذا الإيمان فسنجد أن الفلاسفة، في كل منعطف، لم يستطيعوا إخفاء ما يدينون به لمفكري العصر الوسيط، دون أن يكونوا على وعي بذلك". ولم تكن الثورة الفرنسية، وهي الوليد الطبيعي لفلسفة التنوير، مجرد ثورة سياسية فسحب، وإنما كانت – وفقًا لقول قاله توكفيل اقتبسها بيكر – "ثورة سياسية اتخذت – من زاوية معينة – شكل ثورة دينية"، ومارست بعض مهماتها على هذا النحو. لقد فاضت وتدفقت عبر حدود البلاد والأمم والدول مثل الإسلام والتمرد البروتستانتي، وانتشرت بالتبشير والدعوة".
أما عن الإنسانية الراديكالية للقرنين التاسع عشر والعشرين فإننا سنعرض لها، في صفحات تالية، أثناء مناقشة الاحتجاج الإنساني على وثنية العصر الصناعي. ولكننا يجب أن نمهد لهذه المناقشة بإلقاء نظرة على الوثنية الجديدة التي تطورت إلى جانب الاتجاهات الإنسانية، تلك الوثنية التي باتت تهدد – في اللحظة التاريخية الراهنة – بالقضاء علينا. كان قضاء لوثر على عنصر الأم في الكنيسة هو التغيير الذي أرسى الأساس الأول لتطور الدين الصناعي، وعلى الرغم من أنه قد يبدو أن هذه المشكلة قد تكون انحرافًا عن الموضوع الرئيس إلا أنه يجب الوقوف عندها برهة، لأن لها أهميتها في فهم تطور الدين الجديد وتطور الشخصية الاجتماعية الجديدة. ثمة قاعدتان لتنظيم المجتمعات: قاعدة التمركز حول الأم المجتمعات الأمية نسبة إلى الأم، وقاعدة التمركز حول الأب المجتمعات الأبوية. وكان باشوفن ومورجان هما أول من أثبتا أن قاعدة التمركز حول الأم تتجلى في صورة الأم المحبة. المبدأ الأمي هو مبدأ المحبة بلا قيد ولا شرط. فالأم تحب أطفالها لا لأنهم مصدر مسرة لها، ولكن لمجرد أنهم أطفالها أو أطفال امرأة أخرى. لهذا السبب لا يكتسب الشخص حب الأم بالسلوك الحسن، ولا يفقده بارتكاب خطيئة، الحب الأمي هو الحنان والرحمة.
على عكس ذلك حب الأب، الذي هو حب مشروط، حيث يتوقف على ما يفعله الطفل وعلى حسن سلوكه. ويهب الأب محبة أكثر لأكثر أطفاله شبهًا به، أي لذلك الطفل الذي يريده أن يرث ثروته، ومحبة الأب يمكن أن تفقد، ولكنها يمكن أيضًا أن تُستعاد بالندم والتوبة وتجديد الولاء. إن محبة الأب هي العدالة.
هاتان القاعدتان، الأنثوية والذكرية الأبوية لا تناظران فحسب وجود جانب ذكري وآخر أنثوي في كل كائن بشري، وإنما تناظران خصوصًا حاجة كل رجل وكل امرأة إلى الرحمة والعدالة معًا. ولعل أعظم اشتياق يعتمل في أعماق الكائن البشري هو أن يكون مجموعة متآلفة من الصفات، يتحد فيها القطبان الأمومة والأبوة، الأنوثة والذكورة، الرحمة والعدالة، الوجدان والعقل، والفطرة والذكاء في توليفة واحدة حيث يفقد طرفا الاستقطاب تنافرهما المتبادل. وعوضًا من ذلك يُلون كل منهما الآخر. وإذ يستحيل تحقيق هذه التوليفة تمامًا في مجتمع أبوي فإنها وجدت – إلى حد ما – في ظل الكنسية الرومانية. كانت السيدة العذراء، الكنيسة، هي الأم التي تشمل محبتها الجميع، وكان البابا والقسيس يمثلان صورة للمحبة الأمية غير المشروطة التي تغتفر كل شئ. وإلى جانب ذلك توجد العناصر الأبوية المتمثلة في بيروقراطية أبوية صارمة يتربع على قمتها البابا، بحكم بالقوة والسلطة.
هذه العناصر الأمية في النظام الديني تقابلها العلاقة مع الطبيعة خلال عميلة الإنتاج: فعمل الفلاح والعامل الحرفي لم يكن هجومًا معاديًا واستغلاليًا ضد الطبيعة إنما كان تعاونًا معها، لم يكن اغتصابًا للطبيعة، وإنما كان إعادة تشكيل لها وفقًا لقوانينها هي.
ثم جاء لوثر فأنشأ شكلاً أبويًا خالصًا للمسيحية في شمال أوروبا مستندًا إلى طبقة وسطى مدينية وأمراء دنيويين. وجوهر هذه الشخصية الاجتماعية الجديدة هو الخضوع للسلطة الأبوية، حيث العمل هو الوسيلة الوحيدة للحصول على المحبة والقبول.
وخلف الواجهة المسيحية نشأ دين سري جديد، "الدين الصناعي"، جذوره مغروسة في بنية الشخصية في المجتمع الحديث، وإن يكن غير معترف به كـ"دين". والدين الصناعي متعارض مع المسيحية الحقيقية، إذ ينحدر بالإنسان إلى خادم للاقتصاد وللآلة التي صنعها بيديه.
وللديانة الصناعية أساسها في الشخصية الاجتماعية الجديدة، ومركزها هو الخوف من السلطات الذكرية القوية والخضوع لها، وغرس الشعور بالذنب إذا خرج أحد عن طاعتها، وحل روابط التضامن الإنساني بإعلاء المصلحة الذاتية، وإذكاء العداء المتبادل. ولا "قدسية" في الحضارة الصناعية إلا للعمل، والملكية، والربح والسلطة. وإن كانت قد نمت الفردية والحرية في حدود مبادئها العامة. وإذ تحولت المسيحية إلى ديانة أبوية خالصة ظل من الممكن التعبير عن الديانة الصناعية بألفاظ ومصطلحات مسيحية.

 

الشخصية التسويقية والديانة السيبرناطيقية Cybernetic
أهم حقيقة تساعدنا على فهم شخصية المجتمع المعاصر وديانته السرية هو التغير الذي طرأ على الشخصية الاجتماعية في المرحلة المبكرة للعصر الرأسمالي إلى النصف الثاني من القرن العشرين. في القرن السادس عشر كانت قد ظهرت وأخذت في النمو الشخصية الادخارية المتسلطة، وظلت هذه الشخصية الاجتماعية هي السائدة في الطبقة المتوسطة على الأقل حتى نهاية القرن التاسع عشر. وعندئذ أخذت تندمج معها، وتحل محلها تدريجيًا الشخصية التسويقية. في كتابي: الإنسان لذاته Man for Himself وضعت توليفات ناتجة عن اندماج توجهات شخصية مختلفة.
وقد سميت هذه الظاهرة الشخصية التسويقية لأنها تقوم على ممارسة الشخص لذاته كسلعة، ولقيمته "كقيمة تبادلية" لا "كقيمة انتفاعية"، حيث أصبح الكائن البشري سلعة في "سوق الشخصيات". ولا تختلف معايير التقييم في سوق الشخصيات عن نظيرتها في سوق السلع. في واحدة تعرض السلع للبيع، وفي الأخرى تعرض الشخصيات. وفي الحالين قيمة المعروض هي قيمته التبادلية، حيث القيمة الانتفاعية الاستعمالية شرط لازم ولكن ليس كافيًا.
وعلى الرغم من أن نسبة المهارات والصفات الإنسانية إلى مجمل الشخصية تختلف من إنسان لآخر إلى ان "عامل الشخصية" يلعب دائمًا الدور الحاسم، حيث يتوف النجاح إلى حد كبير على كيفية إظهار الفرد "شخصيته"، كيف يجعل من مجموع صفاته وشخصيته "صفقة" مقبولة. هل هو في مجمله "مرح"، "مقنع"، "مقتحم"، "طموح"، "يعتمد عليه"؟ وأكثر من ذلك؟ من أي وسط عائلي جاء؟ وإلى أي أندية ينتسب؟ وأي ناس يعرف؟ ويتوقف نمط الشخصية المطلوبة إلى حد ما على طبيعة العمل. فكل من سمسار سوق الأوراق المالية، ومندوب المبيعات، والسكرتيرة، وأستاذ الجامعة، ومدير خط سكة حديد، أو مدير الفندق، يجب أن يقدم شخصية مختلفة عن الآخرين. وعلى الرغم من الاختلاف فيما بينهم إلا أن شرطًا واحدًا يجب أن يتحقق، وهو أن يكونوا مطلوبين.
ويتشكل موقف الإنسان من ذاته على النحو التالي: لم تعد الكفاءة والتأهيل لأداء عمل ما يكفيان، وإنما يجب أن ينجح في المباراة مع آخرين لإحراز النجاح. لو أن كسب العيش لا يتطلب إلا الاعتماد على معلومات الإنسان وخبرته وكفاءته لكان تقدير الإنسان لذاته متناسبًا تناسبًا طرديًا مع قدارته، أي مع قيمته الانتفاعية. ولكن، لما كان النجاح يتوقف إلى حد كبير على كيفية بيع الإنسان شخصيته فإن الإنسان يمارس ذاته كسلعة، أو بالأحرى كالبائع والسلعة المعروضة للبيع معًا. وهكذا لا يصبح اهتمام الإنسان يدور حول حياته وسعادته، وإنما يصبح كل همة أن يباع ويُشترى.
وهدف الشخصية التسويقية هو التلاؤم الكامل لكي يكون صاحبها – في كل الظروف – مطلوبًا في سوق الشخصيات، لم يعد لصاحبها "أنا" Ego كالذي كان للأفراد في القرن التاسع عشر، يتمسك بها ويمتلكها ولا يغيرها، وإنما هو يغير هذا الـ "الأنا" باستمرار وفقًا للقاعدة "أنا أكون كما تريدني أن أكون".
وأصحاب البنية الشخصية التسويقية أناس لا هدف لهم سوى أن يتحركوا، وأن يقوموا بأفعال بأعلى درجة من الكفاءة. وإذا ما سئلوا لماذا يجب أن يتحركوا بمثل هذه السرعة، ولماذا يجب أن يفعلوا أفعالاً بأعلى درجة من الكفاءة فإنهم لا يجيبون إجابة مقنعة، وإنما يقدمون تبريرات مثل: "من أجل خلق فرص عمل أكثر"، أو "من أجل أن تستمر الشركة في التطور والنمو". وهم لا يهتمون اهتمامًا واعيًا على الأقل بالقضايا الفلسفية أو الدينية مثل: لماذا يعيش الإنسان؟ أو لماذا ينتهج طريقًا في الحياة دون آخر؟ ولكل منهم أنا Ego كبير الحجم دائم التغير ولكن بلا ذات، بلا جوهر أو إحساس بالهوية. "وأزمة الهوية" في المجتمع الحديث ناتجة في الحقيقة من أن أعضاء هذا المجتمع قد أصبحوا أدوات بلا ذوات، يستمدون هويتهم – فحسب - من العمل في إحدى الشركات الكبيرة أو غيرها من المؤسسات البيروقراطية العملاقة، وحيث لا توجد ذات حقيقية يستحيل وجود هوية. وصاحب الشخصية التسويقية لا يحب ولا يكره. فهذه المشاعر التي عفا عليها الزمن لا تناسب بنية شخصية تقوم بكل وظائفها تقريبًا على المستوى العقلي، وتتجنب الانفعالات الوجدانية، بخيرها وشرها، لكيلا تتعثر المهمة الأساسية للشخصية التسويقية، ألا وهي البيع والمبادلة. أو بتعبير أدق فهي تقوم بمهمتها وفقًا لما تمليه قواعد الآلة المهولة التي هي جزء منها، دون إثارة أي أسئلة باستثناء محاولة التأكد من أداء الوظيفة على نحو مرض، كما يدل على ذلك مدى صعودهم في السلم البيروقراطي.
ولما كان أصحاب الشخصية التسويقية لا يربطهم رابط بأنفسهم ولا بغيرهم فإنه لا قلق لديهم ولا اهتمامات، بالمعنى العميق للكلمة، لا لأنهم أنانيون إلى هذه الدرجة، وإنما لأن علاقاتهم واهية بأنفسهم وبالآخرين. وهذا يفسر لماذا لا يعنيهم أمر الكوارث النووية أو البيئية التي تهددنا، على الرغم من أنهم يعرفون كل المعلومات المتعلقة بالموضوع. وربما يفسر عدم اكتراثهم بالخطر الذي يهدد حياتهم بافتراض أن لديهم غيره وشجاعة فائقين. غير أن عدم اكتراثهم بمصير أبنائهم وأحفادهم يستبعد هذا الاحتمال. إن فقدان الاكتراث على كل هذه المستويات هو نتيجة عدم وجود أي ارتباطات عاطفية حتى بأقرب الناس لديهم. والحقيقة هي أنه لا أحد قريب من الشخصية التسويقية ولا حتى هي نفسها.
ويمكن أن نجد في ظاهرة الشخصية التسويقية إجابة بالغة الدلالة عن سؤال محير هو: لماذا نرى الكائنات البشرية المعاصرة مغرمة بالشراء والاستهلاك بينما لا تربطها بالأشياء التي تشتريها إلا رابطة ضعيفة واهية؟ والإجابة هي أن افتقاد الشخصية التسويقية للارتباطات الحميمة ينسحب أيضًا على الأشياء. ربما كانت المشتريات تُعطي لمشتريها نوعًا من الاعتبار والراحة لا أكثر، أما الأشياء في ذاتها فلا قيمة حقيقية لها، ويمكن الاستغناء عنها تمامًا مثل ما يمكن الاستغناء عن الأصدقاء والأحباء حيث لا توجد علاقات أكثر عمقًا تربط الشخص بأي منها.
إن هدف الشخصية التسويقية، ألا وهو "أداء الوظيفة على الوجه الأكمل" في الظروف المفروضة تجعل تجاوبها مع العالم تجاوبًا عقليًا أساسًا. بعيدًا عن الوجدان والعاطفة، والعقل، بمعنى الفهم، صفة قاصرة على النوع الإنساني Homo Sapiens، أما الذكاء التحايلي manipulative intelligence كوسيلة لتحقيق أغراض عملية فهو صفة يشترك فيها الإنسان مع سائر الحيوانات: والذكاء التحايلي، بلا تعقل، يمكن أن يكون خطرًا، حيث يمكن – من زاوية رؤية عقلية – أن يدفع الناس في اتجاهات تؤدي إلى الدمار الذاتي. والحق أنه بقدر تعاظم الذكاء غير المحكوم تتعاظم مخاطره.
ولم يأت الكشف عن نتائج الذكاء العلمي الخالص المغترب ومأساته الإنسانية على يدي عالم أقل من تشارلز داروين، فقد جاء في سيرته الذاتية أنه – حتى الثلاثين من عمره – كان يستمتع استمتاعًا فائقًا بالموسيقا والشعر والصور، ولكنه فقد – في السنوات الكثيرة التالية – كل تذوق لها. ويستطرد: "يبدو أن ذهني قد تحول إلى ما يشبه آلة لسن قوانين عامة مستخلصة من مجموعات كبيرة من الحقائق.. وفقدان هذا التذوق يعني فقدان السعادة، وربما يكون ضارًا بالعقل. والأرجح أنه يُلحق ضررًا أكبر بالجانب المعنوي للشخصية، حيث يضعف الجانب العاطفي من الطبيعة". هذه الفقرة مقتبسة من كتاب لـ أ.ف.شوماخر E.F.Schumacher.
ومنذ داروين اضطرد نمو الظاهرة، التي وصفها، بمعدل سريع، إذ أصبح الانفصال بين العقل والقلب يكاد يكون كاملاً. غير أن ما يثير الانتباه هو أن هذا التدهور لم يصب قمم الباحثين في أكثر فروع العلم ثورية ودقة مثل الفيزياء النظرية، وأن هؤلاء كانوا معنيين عناية كبيرة بالمشكلات الفلسفية والروحية. وأنا هنا أعني شخصيات مثل أ.آينشتاين A.Einstien، و ن.بوهر N.Boher، ول.زيلارد L.Szillard، و و.هايزنبرج W.Heisenberg، و أ.شرودنجر E.Schrodinger.
وقد سار تفوق التفكير التحايلي جنبًا إلى جنب مع اضمحلال للحياة العاطفية. فهذه ليست مطلوبة، ولا هي موضع رعاية وصقل من أجل أن يقوم الفرد بأداء وظيفته على الوجه الأكمل، بل لعلها تكون عائقًا. لذلك فإن الحياة العاطفية تتوقف عن النمو ولا تتجاوز مستواها عند الطفولة. ومن ثم يتميز أصحاب الشخصية التسويقية بالسذاجة تجاه المشكلات العاطفية. ربما ينجذبون نحو الأشخاص العاطفيين، غير أنهم، بسبب سذاجتهم الخاصة، لا يستطيعون غالبًا أن يتبينوا أن كان هؤلاء حقيقيين أم مزيفين. وهذا يفسر لماذا ينجح كثير من الدجالين في المجالات الدينية والروحية، كما يفسر أيضًا لماذا نصادف لدى أصحاب الشخصية التسويقية ضعفًا خاصًا تجاه السياسيين الذين يظهرون كأن لهم مشاعر فياضة، ولماذا لا يستطيع أصحاب الشخصية التسويقية أن يميزوا بين إنسان متدين حقًا وإنسان العلاقات العامة الذي يدعي عواطف دينية قوية.
واصطلاح "الشخصية التسويقية" ليس وحده القادر على وصف هذا النمط، وإنما يمكن استخدام مصطلح ماركسي، هو الشخصية المستلبة أو المغتربة، فالأشخاص الذين من هذا النمط مغتربون عن عملهم، وعن أنفسهم، وعن الكائنات البشرية الأخرى، وعن الطبيعة. وبمصطلحات الطب النفسي يمكن أن نقول إن صاحب الشخصية التسويقية شخص شبه فصامي Schizoid. غير أن هذا المصطلح يمكن أن يكون مضللاً على نحو ما، لأن هذا الشخص شبه الفصامي حين يعيش حياته مع ناس على شاكلته سيؤدي عمله على نحو جيد، وسيحرز نجاحًا، وبالتالي لن يتكون لديه الإحساس بعدم الارتياح والانزعاج الذين يعاني منهما الشخص نفسه إذا تواجد في بيئة أكثر "طبيعية".
لقد أتيحت لي فرصة قراءة مخطوط كتاب سيصدر قريبًا عنوانه "رجال اللعبة: القيادات الجديدة للشركات الكبرى" لمؤلفه ميكايل ماكوبي Michael Maccoby. في هذه الدراسة العميقة يحلل ماكوبي البنية الشخصية لمائتين وخمسين من كبار المديرين والمهندسين في اثنتين من كبريات الشركات الأمريكية وأحسنها إدارة. وكثير من النتائج التي توصل إليها تؤكد الأوصاف التي ذكرتها للشخص السيبرناطيقي، وخصوصًا سيادة المجال العقلي مع تخلف المجال العاطفي. والأهمية الاجتماعية للنتائج التي توصل إليها ماكوبي غنية عن التأكيد، حيث أن الأشخاص الذين تناولهم بالدراسة هم من بين قيادات المجتمع الأمريكي الحالية أو المحتملة. أجرى ماكوبي عددًا من المقابلات مع كل واحد من الشخصيات موضوع الدراسة تتراوح بين ثلاث وعشرين وخمس وعشرين مقابلة، ولخص النتائج التي توصل إليها في الجدول الآتي الذي يعطينا صورة واضحة عن هذا النمط.
- اهتمام علمي عميق في فهم الأمور، ديناميكي، مفعم بالحيوية والنشاط. صفر%
- قادر على التركيز، منشط، ذو مهارة مهنية، ولكن يفتقد الاهتمام العلمي العميق بطبيعة الأشياء. %22
- العمل نفسه يثير الاهتمام الذي لا يعتبر كافيًا في ذاته. %58
- متوسط الإنتاجية، غير مركز، الاهتمام بالعمل أداة أساسية، من أجل ضمان الدخل والأمن الشخصي. %18
- سلبي، غير منتج، مشتت. %2
- رافض للعمل، رافض للعالم الحقيقي. صفر
%100
في هذه البيانات سمتان تلفتان النظر: 1- غياب الاهتمام العميق بفهم الأمور العقل، 2- بالنسبة للأغلبية الساحقة إما أن يكون الحافز على العمل ليس كافيًا، وإما أن العمل ليس – أساسًا – إلا وسيلة لضمان الأمن الاقتصادي. وفي تناقض كامل مع هذا تأتي صورة ما سماه ماكوبي مقياس المحبة:
- مفعم بالمحبة، إيجابي، ملهم على نحو خلاق. صفر% مسؤول، حنون، دافئ، ولكن بلا حب عميق. %5
- اهتمام متوسط بالشخص الآخر، ذو إمكانات أكبر نسبيًا على المحبة. %40
- لطيف بطريقة رسمية، مهذب، مواقف محسوبة وموجهة. %41
- سلبي، لا مبالي، لا يعرف الحب. %13
- رافض للحياة، قاسي القلب. %1
%100

ولا نستطيع وصف واحد من الأشخاص موضوع الدراسة بأنه إنسان قادر على الحب العميق، وإن كن يوجد من بينهم نسبة 5% يمكن وصفهم بأنهم "عاطفيون وفيهم حرارة"، والباقون جميعًا ذوو اهتمام متوسط، أو لطاف بطريقة رسمية، أو غير قادرين على المحبة، أو حتى رافضون للحياة، وتلك صورة تصدمنا لما تعبر عنه من تخلف عاطفي في مفارقة صارخة مع الجانب العقلي.
تنسجم "الديانة السيبرناطيقية" للشخصية التسويقية مع البنية الكلية لتلك الشخصية. فخلف الواجهة اللا أدرية أو الواجهة المسيحية توجد ديانة وثنية كاملة، وإن كان الناس غير واعين لذلك. ومن الصعب وصف هذه الديانة، حيث لا يمكن أن نستدل عليها إلا مما يفعل الناس أو مما لا يفعلون، وليس من أفكارهم الواعية عن الدين أو عن المعتقدات المميزة للمؤسسة الدينية. وأكثر ما يدعو للدهشة، من النظرة الأولى، أن الإنسان جعل من نفسه إلهًا حين أصبح في حوزته المقدرة التكنولوجية على "إعادة خلق" العالم مرة ثانية لتحل محل الخليقة الأولى التي خلقها الله. وثمة صياغة اخرى: لقد جعلنا من الآلة إلهًا، وجعلنا من أنفسنا أشباه آلهة لأننا في خدمة الآلات.. على كل حال ليس المهم الصيغة التي نختار، وإنما المهم هو أن الكائنات البشرية إذ تصل إلى أقصى حالات العقم والعجز الحقيقي، تتصور أنها وصلت إلى القدرة المطلقة بفضل صلتها بالعلم والتكنيك. وكلما زاد احتباسنا في عزلتنا وفي عجزنا عن التجاوب العاطفي مع العالم، وزادت – في الوقت نفسه – نذر كارثة ختامية لا يمكن تجنبها أصبحت الديانة الجديدة أكثر خبثًا وأشد إهلاكًا. فنحن نكف عن كوننا سادة للتكنيك ونصبح، على العكس، عبيدًا له. وبعد أن كان التكنيك عنصرًا حيويًا من عناصر الخلق صار يكشف في عصرنا عن وجهة الآخر كإله للتدمير مثل المعبودة الهندية كالي Kali، الرجال والنساء على استعداد للتضحية بأنفسهم وبأطفالهم على مذبحة. وإذ لا تزال البشرية السيبرناطيقية متعلقة بالأمل في مستقبل أفضل فإنها تخفي حقيقة أنها أصبحت تعبد إله الدمار.
يمكن إثبات هذه المقولة ببراهين متعددة الأنواع أختار من بينها أكثرها إفحامًا: إن الدول الكبرى وحتى بعض الدول الصغرى لا تزال مستمرة في إنتاج أسلحة نووية ذات طاقات تدميرية متعاظمة أبدا، وترفض أن تصل إلى الحل المعقول الوحيد، وهو تدمير جميع الأسلحة النووية والمنشآت النووية التي تنتج مواد وسيطة تصلح لصناعات الأسلحة النووية، وأن لا جهد حقيقي يُبذل للقضاء على مخاطر الكارثة التي تهدد البيئة الطبيعية. باختصار ليست ثمة جهود جدية تبذل للتخطيط لبقاء الجنس البشري.

يصف ألبرت شفايتزر الإنسان الحديث بأنه "غير حر.. وغير قادر على التركيز.. وغير متكامل.. وفي خطر من أن يفقد إنسانيته"، و يستطرد، قائلاً: "لما كان اﻟﻤﺠتمع، بتنظيماته المتطورة أصبحت له سلطة لم يسبق لها مثيل على الإنسان، فإن اعتماد الإنسان عليه قد تضخم إلى حد كاد يوقفه عن أن تكون له حياته ووجوده العقلي الخاص به.. وهكذا ولجنا في عصور وسطى جديدة شلت حرية الفكر بفعل إرادي عام، حيث توقف الكثيرون عن التفكير الفردي الحر، وعاشوا على التوجيه والإرشاد من قبل الجماعة التي ينتمون إليها. ولم يكن ثمة مناص، بعد أن ضحينا بحرية الفكر، من أن نفقد الإيمان بالحق والحقيقة والصدق. وفسد نظام حياتنا الثقافية – العاطفية وتشوشت. لقد أدت المبالغة في تنظيم شؤون العامة إلى تنظيم اللاتفكير. وهو يرى أن اﻟﻤﺠتمع الصناعي لا يتميز فحسب بافتقاده الحرية، وإنما يتميز أيضا بالإجهاد، بالإفراط في الجهد. فلمدة قرنين أو ثلاثة عاش كثير من الناس ككائنات عاملة، لا ككائنات بشرية، "وتوقف نمو جوهرهم الإنساني.. وإذ يلد هؤلاء أطفالا فإن الذرية ينقصها عنصر هام من عناصر النمو والتطور الإنساني"، وإذ يقع الشخص البالغ، فيما بعد تحت وطأة مزيد من الانشغال، فإنه يزداد استسلاماً لمزيد من الحاجة إلى الترفيه المصطنع.. وتصبح السلبية المطلقة ونسيان الذات والانصراف عنها، تصبح من حاجاته البدنية. وتترتب على ذلك مطالبة شفايتزر بتخفيف العمل، واتخاذه موقفاً ضد الإسراف في الاستهلاك ومظاهر الرفاهية.
إن ألبرت شفايتزر، عالم اللاهوت البروتستانتي، شأنه في ذلك شأن المعلم إيكهارت، الراهب الدومينيكي، يصر على أن مهمة الإنسان ليست هي الانسحاب إلى جو روحاني ذاتي بعيد عن شؤون هذا العالم ، وإنما هي أن يحيا حياة نشيطة يحاول فيها أن يساهم في التهذيب الروحي للمجتمع. كتب يقول: "إذا لم يكن قد بقي من الأفراد العصريين إلا عدد قليل جداً ممن لم يُصْب وجدانه الأخلاقي والإنساني بسوء فليس أقل الأسباب شأناً في ذلك أن الأغلبية الساحقة أصبحت دائمة التضحية بمبادئها الأخلاقية على مذبح الوطن بدلاً من التفاعل الحي مع الجماعة وإعطائها القوة التي
تدفعها نحو الكمال.
وهو يصل إلى نتيجة أن البنيتين الحضارية والاجتماعية الحاليتين تدفعان إلى كارثة. والمطلوب ليس أقل من نهضة جديدة "أعظم كثيراً من النهضة السابقة". يجب أن نجدد أنفسنا في إيمان جديد وموقف جديد إذا لم نكن نريد أن نهلك. ومبدأ النشاط هو من المبادئ الجوهرية للنهضة المنشودة، وهو المبدأ الذي يمنحنا إياه التفكير العقلاني. إنه المبدأ الوحيد العقلاني واﻟﻤﺠرب في عملية التطور التاريخي التي أبدعها الإنسان.. وثقتي كبيرة في اعتقادي بحدوث هذه الثورة إذا قررنا أن نكون كائنات إنسانية مفكرة.

 

إريك فروم
من كتاب "الإنسان بين الجوهر والمظهر - أنتملك أم نكون؟"