ثورو يذكرنا بأهم ما فقدناه في حياتنا المعاصرة

ديفيد هنري ثورو ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

إن الصباح –أبرز فترات اليوم- هو ساعة اليقظة. نشعر بأقل نعاس؛ يصحو جزء منا لمدة ساعة على الأقل، وبعدها ينام كل بقية النهار والليل. لا يمكن إلا توقع القليل في ذلك النهار، لو يمكن تسميته نهارًا، فيه لا يوقظنا نبوغنا، وإنما وكز آلي من خادم،

لا توقظنا قوة اكتسبناها حديثًا وطموحات باطنية، ترافقها مويجات من الموسيقى السماوية بدلاً من أجراس المصانع وعبير يملأ الهواء، نمضي إلى حياة أسمى من حياتنا قبل النوم؛ وعليه يحمل الظلام ثمرته ويبرهن على صلاحه، بما لا يقل عن الضوء. من لا يصدق أن كل يوم يحوي ساعة مبكرة في الفجر أكثر قداسة من ساعات لوثها من قبل، يئس من الحياة، وبات يسلك سبيلاً هابطًا تعمه الظلمة. تنشط روح الإنسان أو بالأحرى أعضاؤه كل يوم مجددًا بعد توقف جزئي عن حياته الحسية، ويجرب نبوغه مرة أخرى حياة نبيلة بمقدوره أن يصنعها. ينبغي أن أذكر أن كل الأحداث المشهودة تقع وقت الصباح أو في جو خليق بالصباح. تقول الفيدا، كتب الهندوس الدينية، إن "كل ذكاء يصحو في الصباح". يعود الشعر والفن الجديران بذاكرة البشر إلى تلك الساعة. إن كل الشعراء والأبطال مثل ممنون[1] هم أبناء الفجر، يرسلون موسيقاهم إلى شروق الشمس. من يجاري فكره المرن النشيط الشمس سوف يجد يومه كله صباحًا لا ينقطع. لا يهم ما تعلنه الساعات أو مواقف الرجال وأعمالهم. يهل الصباح حين أستيقظ وبداخلي فجر. والإصلاح المعنوي ما هو إلا مسعى للتخلص من النوم. لماذا يفشل الرجال في يومهم إن لم يناموا؟ ليسوا محاسبين فاشلين. لو لم يغلبهم النعاس، لحققوا شيئًا. إن الملايين أيقاظ بما يكفي لإنجاز الأعمال الجسدية؛ ولكن واحدًا فقط من بين مليون شخص يقظ بما يكفي لبذل جهد فكري فعال، واحد فقط من بين مئة مليون للأخذ بأسباب حياة شعرية إلهية. أن تكون يقظًا هو أن تكون حيًا. ما قابلت قط بعد رجلاً يقظًا كل اليقظة. كيف يسعني أن أتطلع إلى وجهه؟

يجب أن نتعلم أن نستيقظ من جديد ونبقى أنفسنا مستيقظين، لا بمساعدة ميكانيكية، ولكن بتوقع مطلق للفجر، فجر لا ينبذنا في نومنا العميق. لا أعلم حقيقة مشجِّعة أكثر من قدرة الإنسان –قدرة لا يرقى إليها الشك- على تطوير حياته بسعيه الواعي. لا ريب في أهمية قدرة الإنسان على رسم لوحة معينة أو نحت تمثال: وعليه إضفاء الجمال على عدة أشياء؛ ولكن روعة أي روعة تتجلى عند نحت الجو ذاته ورسمه: وكذا بيئة نتطلع إليها: وهو ما يسعنا معنويًا أن نفعله. إن التأثير على نوعية اليوم لهو أسمى أنواع الفن. لدى كل شخص مهمة، ألا وهي جعل حياته –حتى في تفاصيلها- تستحق تأمل ساعته الرفيعة الحاسمة. ولو رفضنا: أو بالأخرى استهلكنا، مثل هذه المعلومات التافهة: سوف ينهي إلينا الوحي برسائل واضحة كيف نتصرف.

قصدت الغابة[2] لأني رغبت في الحياة بتروٍ وتعمد، رغبت ألا أجابه إلا حقائق الحياة الجوهرية، رغبت أن أتبين إن كان باستطاعتي أن أتعلم ما لديها لتُعلمه، وألا أكتشف –حين أشرف على الموت- أني لم أعش حياتي. لم أرغب في الأخذ بأسباب حياة ليس حياة عميقة أمص فيها لب الحياة كله، أعيش بثبات جدير بأبناء إسبارطة هازمًا كل ما هو ليس بحياة، أجذب إلى الانتباه وأنجو بأعجوبة، أدفع الحياة إلى ركن لأحولها إلى أبسط معانيها، ولو اتضح أنها وضيعة، فلننل إذن وضاعتها الكاملة الحقيقية وننشرها أمام العالم؛ أو لو ألفيتها مهيبة، تيقنت منها بالتجربة واستطعت أن أصفها وصفًا دقيقًا في رحلتي التالية.

ومع ذلك نحيا حياة دنيئة كما النمل؛ بالرغم من أن الخرافة تحكي لنا أننا تحولنا منذ دهر طويل إلى رجال، نحارب مثل الأقزام طيور الغرنوق؛ إنه خطأ فوق خطأ، ضربة بعد ضربة، وأحسن فضائلنا لا تعدم بؤسًا حتميًا لا ضرورة له. لقد أهدرت التفاصيل حياتنا. لا يكاد أي رجل شريف يحتاج إلى أن يعد ما يربو على أصابعه العشرة، وفي حالات قصوى قد يضيف أصابع قدميه العشرة، ويهمل الباقي. البساطة، البساطة، البساطة! نصيحتي هو أن تتناول شأنين أو ثلاثة، لا مئة أو ألف؛ وبدلاً من مليون أًحْص نصف دستة، واجعل حساباتك بقدر ظفر إبهامك. وسط هذا البحر متلاطم الأمواج من الحياة المتحضرة، تلك السحب والعواصف والرمال المتحركة وألف شئ يجب أخذه بعين الاعتبار، يجب أن يعايشه الإنسان، لو لم ينهار ويهبط إلى القاع دون أن يصل إلى ميناء قط، يُقدر موضع السفينة دون الاستعانة بالآت، لابد أن ينجح من تُحسن ولا ريب حساباته. البساطة، البساطة، البساطة. بدلاً من ثلاث وجبات في اليوم، تناول وجبة واحدة لو من الضروري؛ بدلاً من مئة طبق، خذ خمسة؛ وقلص الحاجيات الأخرى بالمقدار نفسه. تشبه حياتنا كونفدرالية ألمانية[3]، مؤلفة من ولايات صغيرة، تتبدل على الدوام حدودها حتى إن الألماني لا يسعه أن يخبرك بحدودها في أية لحظة. إن الأمة ذاتها –بكل تحسيناتها الداخلية المزعومة، وجميعها خارجية ظاهرية على كل حال- عبارة عن مؤسسة مفرطة في النمو يتعذر التحكم فيها، تكتظ بالأثاث، تتعثر بأشراكها، تفسدها الرفاهية والنفقات الطائشة بسبب افتقارها إلى الرؤية والهدف المستحق، مثلها مثل مليون أسرة في الأرض؛ والعلاج الوحيد لهم هو اقتصاد صارم، هدف سام وبساطة قاسية في الحياة تفوق بساطة أبناء إسبارطة. يحيا في منتهى السرعة. يظن الناس أنه من الجوهري أن تدير (الأمة) تجارة ما، تستورد الثلج، يتحادث أفرادها من خلال التلغراف، ترتحل ثلاثين ميلاً في الساعة، من غير شك، سواء يفعلون ذلك أم لا؛ ولكن سواء ينبغي أن نعيش مثل القرود أو البشر، فهو أمر مشكوك فيه. إن لم نُخرج العوارض الخشبية ونطرق القضبان ونكرس أيامنا وليالينا للعمل، وإنما ننهمك في حيواتنا لتحسينها، من سيشيِّد السكة الحديد؟ ولو لم نشيِّد السكة الحديد، كيف سنمضى إلى الفردوس في الأوان المناسب؟ ولكن لو مكثنا في البيوت وانشغلنا بأحوالنا، من سيرغب في السكة الحديد؟ إننا لا نركب السكة الحديد، بالأحرى تركبنا السكة الحديد. هل تفكرت أبدًا في هذه القضبان المشكلة لأساس السكة الحديد؟ إن كل قضيب ما هو إلا رجل، أيرلندي أو أحد أبناء نيوإنجلاند. يضعون عليهم السكة الحديد، تغطيهم الرمال، وتجري العربات فوقهم بسلاسة. إنهم نائمون نومًا عميقًا على ما أخال. وكل بضع سنوات يتمدد حشد جديد لتدهسه السكة الحديد؛ وعليه، لو تمتع البعض بلذة ركوب القطار، كان الدهس من سوء حظ آخرين. وحينما يدهسون رجلاً يسير في نومه –نائمًا آخر في الوضع الخاطئ—ويوقظونه، يوقفون فجأة العربات ويثيرون احتجاجًا شعبيًا على الحادث وكأنه استثناء. يسعدني أن أعلم أن إبقاء النائمين راقدين مسطحين في أسرَّتهم يتطلب عصابة من الرجال لكل خمسة أميال لأنها علامة على أنهم قد يستيقظون أحيانًا مرة أخرى. لم ينبغي أن نعيش مع هذا الاستعجال وإهدار الحياة؟ إننا عاقدون العزم على الموت جوعًا قبل أن نجوع.

 

ديفيد هنري ثورو

من كتاب "ولدن"



[1]ممنون: تمثال في مصر القديمة يُقال إنه يُرسل الموسيقى فجرًا.

[2] قضى ثورو، الشاعر الأمريكي، عامين وشهرين بمفرده في غابة على بحيرة ولدن، حيث عاش في كوخ شيده لنفسه واقتات مما زرعه ولبس ممل نسجه.

[3]كونفدرالية ألمانية: مجموعة من الدول الأوروبية، 1866-1815.